"درب سي سالم"* أو حكاية "المروق الأول".
2008-09-30
قرأت رواية "درب سي سالم" للمبدع الأستاذ المصطفى المعطاوي بشغف كبير, ولعل مرد ذلك إلى الأحاسيس الشتى التي تجاذبتني وأنا أطالع هذا العمل الرائع. أحاسيس معجونة بماء المتعة المخلوط بملح الدهشة الآسرة, حيث تحولت في عملية خيميائية عصية على الفهم إلى طفل يتلمس خطاه الأولى في عوالم هذه الرواية, أتجول في حواري المدن وأزقتها تارة وأغوص في أعماق النفس البشرية تارة أخرى, بمتعة المستكشف المغامر الذي وطأت قدماه أرضا لم يخدش عذريتها إنسان من قبل.
هي فصول من حكاية "المروق الأول"1, الذي يروي الهزيمة والهروب من النفس بلغة جميلة تجمع بين الكثافة والسلاسة لتحقق المعادلة الصعبة بلغة الرياضيين, إنها حكاية أخرى من حكايات الصعاليك الرائعين الذين يؤثثون فضاءات المدينة المعاصرة ويترجمون تناقضاتها الصارخة بأمانة ودقة متناهية, أولئك الذين قد نلتقيهم على غير موعد في الشارع, في المقهى, في الساحات العمومية والمحطات الطرقية وربما في دواخل أنفسنا أيضا في لحظات تضيق فيها رحابة العالم فلا نجد متسعا إلا في أعماق صدورنا التي تمتد عزلتها لتسع العالم برمته.
إن تلك اللحظات التي تؤرخ لها الرواية لحظات شبيهة بلحظة الخلق والتكوين التي يتحول فيها الكون بأجمعه إلى هيولى تنقاد ليد الكاتب فينوجد شخوص وتنبني مدن في توليفة برزخية رائعة بين الواقع والخيال.
الرواية تحكي قصة الهروب من النفس, من الحومة والمدينة وقصة العودة مرة أخرى مع فارق تغير النظرة إلى الأشياء والعالم, فكيف تناولت الرواية هذا الهروب وهذه العودة؟.
1- الهروب من النفس:
إن واقعة الهروب في "درب سي سالم" واقعة مركبة يمتزج فيها النفسي بالمادي في ثلاثة مظاهر أساسية, هي الهروب من الناس, الهروب من المدينة والهروب من النفس, إنه رحيل مادي ونفسي في آن واحد, نحو عوالم جديدة بعد أن ضاق العالم المألوف فصار أضيق من ثقب إبرة.
يهرب الراوي من حومته من المدرسة من "الأسرة المنحلة والعالم المنحل"2, بحثا عن حياة جديدة "فكرت أن أنسلخ من ماضي وأن أبدأ حياة أخرى"3, وفي الانسلاخ ألم وتجدد وولادة أخرى, فإذا بحثنا في لسان العرب لابن منظور4 وجدنا المصطلح يحمل معاني عدة من بينها سلخ الجلد و"انسلخ الشهر من سنته والرجل من ثيابه والحية من قشرها والنهار من الليل" و"انسلخ النهار من الليل خرج منه خروجا لا يبقى معه شيء", فهل يا ترى بقي مع صاحبنا شيء من ماضيه في خروجه العظيم؟.
ونحن نتلمس طريقنا في عوالم الرواية نجد إجابات متناثرة من بينها "سأحمل حكايتي وأرحل"5, وهذا المقطع الذي يقول "تلك أمكنة ترحل معي أنى رحلت"6, ونقرأ أيضا "أف من لحظة كهذه حين أعيشها وحين أكتبها وأنا أتذكرها"7, إنها مواقف ولحظات يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي وتتكالب فيها الأشياء حتى نحسب أن العالم كله يتواطئ ضدنا, لكن مع ذلك لا ننثني عن اكتشاف الشخوص والأمكنة المحيطة بنا تجذبنا الرغبة العارمة في الحياة رغم البؤس والقرف الذي يبعثه المحيط في أنفسنا.
هكذا نتعرف على العديد من المجانين والصعاليك والبؤساء, على // بلاندو, حسن قرقلا, تاجيعا, طارزا, محمد هوفا, والبيدق وغيرهم// نتعاطف معهم تارة ونحقد عليهم تارة أخرى بل وقد نعقد معهم صداقات سرية تضامنا مع البؤس والمحنة. غير أن التعرف على الشخوص هو تعرف واكتشاف أيضا للمدن والأمكنة, حيث نتجول مع الراوي في بني ملال, سلا, الدار البيضاء, قصبة تادلة, خنيفرة, قرية أولاد موسى ومراكش.. وهو تجوال يحمل بين طياته معالم العودة التي قد لاتكون ضرورة بالمعنى المادي.
2- العودة أو اللقاء مع الكتابة:
امتهن صاحبنا بيع الماء ثم بيع السجائر, التقى شخوصا عدة, زار أمكنة كثيرة, ولسان حاله يقول "قد أجد متسعا في مدينة أخرى, وحياة تقتل رتابة هذه اللحظات وسأمها"8. هرب من المدرسة, التي ظل الحنين إليها يراوده بين الفينة والأخرى, وبعبارة أدق كلما اشتدت محنته اشتد حنينه إلى أيام المدرسة.
اشتد به اليأس وضاقت به الأمكنة كما ضاق بها وبكل شيء معها "أسب كل شيء حتى نفسي"9, حين تنهشه ثلاثية الجوع والسهر والدخان, وليخلص بعبارته إلى قوله "إني لا أستحق الحياة"10 في خضم يتجاذبه فيه الحب والصراع والموت, غير أن في هذه اللحظات بالذات حين يضيق علينا العالم ونضيق بأهله يطفو على السطح بريق الحلم الذي تشتعل جذوته في دياجير أنفسنا, "فليتركني الجميع أحلم"11, هو الذي من سأمه يود المستحيل12, والمستحيل قد يكون سعاد التي "وحدها في هذا العالم تستحق أن أحملها حيث أنا.. وحدها تستحق أن تكون إنسانا ..تفو على ما تبقى من العالمين"13 على حد تعبير الرواية.
عبر الحب والكتابة يتم تجاوز المأساة "أراني أواسي نفسي ببعض ما أكتب في ذهني بعفوية.." 14, لتغدو الكتابة دواء وترياقا وإعادة اكتشاف للوجود ولدهاليز النفس العصية على السبر والقراءة, "الورق والقلم عالم ينسيني كل شيء"15, إنه نسيان للوجود وتطويع للذات والأشياء ونوع من التسامي الجميل على الجراح الغائرة التي تترك ميسمها على الروح والجسد, ووحده المبدع الحقيقي قادر على اقتناص اللحظة وامتلاكها بالقراءة أولا ثم بالكتابة ثانيا.
أوليست القراءة بوابة الكتابة وجسرها الموصول؟, "عشقت كتب جبران, ومنها إبدعات المهجريين"16, وكأنه يبحث في اغترابهم عن معنى لاغترابه, محاولا فهم حقيقة معاناته التي يحملها معه مطالعا نصوص نيتشه والمتصوفة ليتشبع بأسئلة العقل والروح في سلوكه إلى مقامات الحقيقة.
يطوي صاحبنا "صفحات المحنة" 17 كما تسميها الرواية, لائذا بكتاباته عن سعاد وعن ألامه وآماله, لتصبح الكتابة طريقا معبدا نحو الجامعة بأسئلتها وإشكالاتها الأكثر عمقا سواء على المستوى الثقافي أو السياسي, وتلك قصة أخرى قد نجد بعض تفاصيلها في عمل إبداعي آخر للأستاذ المصطفى المعطاوي.
3 - ملا مح السيرة الذاتية في "درب سي سالم":
لست على معرفة بالحياة الشخصية للأستاذ المصطفى المعطاوي, ولكن مع ذلك أستطيع القول بأن هذا العمل الروائي ينطوي على العديد من الإشارات السيرية, من بينها عتبة النص للشاعر الكبير محمود درويش التي تقول "من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملُك المعنى تماما", ثم ما كُتِب للذات الناقدة /ف-ث/ في الصفحتين العاشرة والحادية عشرة التي طلبت منه كتابة فتراته القاسية في درب سي سالم.
نقرأ أيضا هذا المقطع الذي يقول "لم أدر ما الذي يدفعني إلى الهروب من منزل الباطرونة فطومة, ولكن بعد أن شرعت في كتابة روايتي الثانية, أدركت بعضا من ذلك, والبعض الآخر سأحمله معي دون أن أعيه" 18, هناك أيضا حضور الكاتب والروائي المتميز عبد الكريم الجويطي/ابن بني ملال الذي يقدمه العمل منقذا وموجها, "ضعت لولا أن عبد الكريم الجويطي أوقف النزيف, وعلمني كيف أكتب في قالب أمتلكه ولا يمتلكني, ولو نسبيا"19, كما نطالع مقطعا آخر يقول " قال لي الجويطي: عليك ألا تجعل من نفسك منذ البداية مبدعا, كن متواضعا" 20. وفي الصفحة التسعين نجد العمل يقدم الراوي باسم مصطفى الذي يتطابق مع اسم الكاتب المصطفى المعطاوي وهي المرة الوحيدة التي يرد فيها اسم صاحبنا في الكتاب.
ومهما يكن الأمر سواء كان العمل سيرة ذاتية أو رواية متخيلة فإن ذلك لا يغير من الأمر شيئا, لأن "درب سي سالم" كتب بمهارة يحق لنا جميعا أن نفخر بها.
خـــــاتــمـة:
وختاما, إن رواية "درب سي سالم" خرجت من صلب المعاناة فلا غرو أن نكون أمام نص جميل بكل المقاييس, مستعيرا مقطعا من رواية "الآخرون" للكاتب التونسي حسونة المصباحي يقول فيه "إن النص الجميل يا صديقي لايولد من اللعب مع أولاد الحومة, أو من مغامرة مع بنت الجيران, وأنا على يقين أنك ستكتشف ذات يوم أن تجربتك المرة هذه لم تذهب هباء, بل أجزم أنها سوف تلهمك على المستوى الإبداعي بشكل عميق ومثير" 21, وهي النبوءة التي نقرأها على لسان الراوي حين يقول "مهما كانت هذه المغامرة مجانية أو ساذجة فإني لا محالة خارج منها بشيء" 22.
لقد قرأت "درب سي سالم" ثلاث مرات وأنا على يقين بأنني لو قرأتها مرة رابعة سأقرأها بنفس المتعة التي قرأتها بها للوهلة الأولى, إنها رواية تشكل إضافة نوعية في المشهد الروائي ببلادنا, لذلك تستحق أن نضعها بكل فخر بين صفوف الكتب الأثيرة في خزاناتنا.
الهامش:
*درب سي سالم. رواية. المصطفى المعطاوي. ط1. مطبعة القرويين. العيون. 2007 والسي بالعامية المغربية تعني السيد.
1- نفس المرجع ص 10.
2- ن م / ص 25.
3- ن م / ص 60.
4 لسان العرب, ابن منظور المجلد الثالث, من ص 24 إلى ص 26 دار صادر بيروت ط 3 1994.
5- درب سي سالم ص 82.
faty rahal
2014-03-29
هذا جميل
08-أيار-2021
30-أيلول-2008 | |
01-أيلول-2008 | |
01-كانون الثاني-2008 | |
16-كانون الأول-2007 | |
07-أيار-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |