هنـا فنزويـلا
2008-07-08
أيُّ بلاد هذه! أيُّ فطرةٍ وبكارة، وجمال وشراسة أيضا. بلادٌ اختارَت أن تظلَّ أبدا على طبيعيتها الأولى. أعربتُ عن دهشتي من الخضرة التي تُغرِقُ كلَّ شيء فاندهشوا من دهشتي. كأنهم لا يعرفون أن بلدانا وشعوبا سقطت في الصحاري، فإن منَّتِ السماءُ عليهم بشجرةٍ ذبحوها! درجات لونية تغني في تناغم موسيقيّ مدهش، من الأصفر وحتى الأخضر الداكن. الحق أن كلَّ شيء هنا يُغنّي. في النهار لا تكفُّ الطيورُ التي تسكنُ الشجر الكثيف من ببغاوات وبلابل عن الشدو، وفي الليل حشراتُ الحقل أيضا لا تكف عن الشدو. مفردة "الشدو" هنا دقيقة. لأن نقيق الضفادع وعرير الصراصير واليعاسيب يتناغمان سويا كأنما أوركسترا موسيقيّ ساحر. لا أعرف لغة الحشرات لكن شعورا خامرني أن هذا الكونشرتو يسخر من البشر. تلك هي فالينسيا/فنزويلا المدينة الساحرة ذات الطابع الكاريبي الواقعة في شمال أمريكا اللاتينية .
خمسٌ وثلاثون ساعة طيران من أجل هذه البقعة النائية! هل يستحق الشِّعرُ هذا العناء؟ سؤال ما برحني وأنا أتنقّل بين المطارات والطائرات وفقرات ظهري تتفتت وجعا. متى يصل العلماء لمعجزة أن ينتقل الإنسانُ على شعاع ضوء أو حتى شعاع صوت؟ هذا هو السؤال الثاني. نعم، الشعرُ طبعا يستحق. سيما إن كان بين الجمهور طلبةٌ في عمر الصبا الغضّ جاءوا من أطراف المدينة ليسمعوا الشعر. عيونُهم تبحث في وجهي عن ملامح شاهدوها في كتب التاريخ ومخطوطات الإيجبتولوجي التي دونت أرقى حضارات الأرض. حضارة مصر الفاتنة. وآذانهم تفتشُّ في صوتي عن أثر الهيروغليفية التي دوّخت البشرية. لم يخبْ كثيرا بحثهم الأول إذْ أخبروني أن ملامحي فرعونية، ففرحتُ. أما بحثهم الثاني فقد عادلَ خيبتَه افتتانُهم بجرْس العربية الموسيقيّ، فسامحوا جهلي بالهيروغليفية.
أجمل ما أطربني هنا، عدا الشِّعر، حفلةٌ موسيقية قدمتها فرقةٌ اسمها "آمادو لوفيرا". آلة "الهارْب" بصندوقها الخشبي الضخم وأوتارها الطويلة. يسمونها الآربا. اندهشوا حين أخبرتهم أنها اختراعٌ فرعونيّ. يا الله! هل ترك الفراعينُ شيئا مدهشا لم يبتكروه لهذا الكون؟
علىنغمات الـ آربا وجيتار يسمونه الـ كواترو لأنه رباعيّ الأوتار، عزفتِ الفرقةُ مقطوعات من تراث أمريكا اللاتينية الشعبي. سامبا البرازيل، فالس بيرو، سالسا الكاريبي، ميوزيكا يانيرا الفنزويلية، إضافة إلى تانجو الأرجنتين، ثم مقطوعات تعتمدُ الإيقاع البطيء الناعم اسمها بوليرو مشهورة في المكسيك ومنشأها الأصلي في كوبا.
ملامحُ الشعوب التي تطلُّ على الكاريبي تشبهُنا. بشرتُنا الخمرية تحاكي بشرتهم الخلاسيّة، وكذا شَعرنُا الأسودُ الجعدُ وبريق العيون وحرارة الروح. يتكلمون الأسبانية طبعا ولا شيء سواها. أما الإنجليزية فمعدومة تقريبا. ولا عجب، فالعدو الأكبر لهذه الشعوب هو أمريكا التي وصفها تشافيز في خطابه عام 2006 بقوله: "الشيطان يسكن البيت". لكنك ستجد العديد من المفردات العربية في حديثهم. أخبرتني صديقتي اللبنانية منوا البعيني، الباحثةُ في التفاعل اللغويّ العربيّ-الأسبانيّ بجامعة كارابوبو، أن أربعة آلاف كلمة أسبانية تحمل أصلا عربيّا! كما أن الراحل الجميل رجاء النقّاش كان أخبرني أن "تروبا-دور"، وهي الفرقة الغنائية التي تتجول من مدينة إلى أخرى في التراث الأسبانيّ، ذات أصل لغوي عربي أيضا هو (طربٌ يدور). كذلك استخدامهم أداة التعريف العربية (ال) كثيرا في معجمهم. فيقولون: السُّكر- الكايرو- الفرعون.
جريدة المصري اليوم بتاريخ 7/7/2008
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |