الفنان أدولف هتلر من جديد في لندن:
2008-07-13
قد تكون هي الضربة القاضية للفن الذي نعرفه. ففي هذا العرض الذي إحتوته أهم قاعات لندن التجارية، يتمثل المؤشر اليقين لنهاية الفن التقليدي، سواء كان رسماً أو نحتاً. تماما مثلما نظّر له المستقبليون حين نادوا بشطب تاريخ الفن، وبتقويض وتهديم المتاحف في مسلخٍ ومذبحةٍ عبثيةٍ، ومقبرة لفراغ التجديد كما جاء في تصريحاتهم، عام 1909.
جاك و دينيس جابمان (فنانان بريطانيان من جيل الشباب ومتخرجان من الأكاديمية الملكية للفنون)، يموناننا بغرائبٍ إباحية متنافرة، شهدها كاليري المكعب الابيض في شارع البيكادلي وسط لندن.
أفتتح معرضهما في بداية حزيران ويستمر الى الثاني عشر من شهر تموز.
هذا العرض يتكون من ثلاثة اجزاء متساوية في أهميتها وغرائبيتها.
في الجزء الأول والذي عنوانه 'يوم ما سوف لن تكون محبوباً'، ترحب بك قاعة فارهة تزدحم بصور زيتية لسيدات وسادة شديدي الإناقة، بأزيائهم التي تعود إلى القرنين الثامن - التاسع عشر.
قد تظن في البداية انها عودة دميمة للتصوير، لكن بنظرة متفحصة أكثر تكتشف إن هذه الصور الزيتية تمثل ذرية متوارثة قد شُوهَت بشكل متعمد بواسطة فرشاة رسم حاذقة، تركتهم ممسوخين بشكل فظيع: عيون منتفخة وناتئة، وجوه نازفة، واشكال تقترب من جماجم بشرية متحللة للتو. لكنهم يحتفظون بأناقة عجيبة.
قد لا نهتم من هم هؤلاء الأشخاص؟ ومن هو الرسام الأول الذي رسمهم؟ ولا يبدو أن الأخوين جابمان مهتمان بهذا أيضاً. الإهتمام كله ينصب على إستبدال الفنانين الجريء، المروّع، لهذه الصور التاريخية وكأنه إستعادة لمقولة ديشامب: 'لا يسمح للأموات ان يكونوا أكثر قوة من الاحياء'.
هذان الفنانان يرفضان النفيس والجميل لكل عمل إُنتجَ قبلهما، إذ يجدا في هذا الرفض طريقهما الخاص والصادم.
إنهما يعيدان صناعة الوهم ببشاعة الواقع التي تتجاوز حدود أو تخوم المعقول.
الجزء الرئيسي من المعرض ينتصب في القاعة السفلية، وهو عبارة عن هلوسات متخيلة لجحيم الحروب وخصوصاً الحرب العالمية الثانية وقد جاء بعنوان ‘Fucking Hell’.
تسعة أقفاص زجاجية متساوية الحجم مرتبة على شكل صليب معقوف. كل منها يمثل رؤية للهلاك والدمار والقنوط يحملها الجنود النازيّون ممثلين بمجسمات بلاستيكية مصغرة في مشاهد بائسة وتعيسة للغاية.
مشاهد مصغرة لكنها مثقلة بكثافة الحدث المفزع، تعيد تذكيرنا بفلم 'أعداء على الأبواب' enemy on the gates الذي يصور احتلال مدينة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية وخسارة أربعة ملايين نفس بشرية في هذه المعركة. إنه سفر وإبحار لجرائم النازية والديكتاتوريات العالمية التي اشتركت في سعار منظم للعنف دمر وآباد كل شئ حتى المؤن.
الالتباس في هذه المشاهد كونها مذهلة ومشعة في قنوطها ويأسها. هي نسخة مسهبة ورهيبة اكثر للجحيم. ورغم ان الفنانين لم يشهدا حروباً ولا ديكتاتوريات فأن تصويرهما لهذه المآسي البشرية هو قمة في الإبداع الى درجة انك ستستحضر كل هذه الكوراث من جديد.
تحتضن هذه الاقفاص التسعة آلاف من أجزاء الاجساد المتمزقة والمتفسخة، يتشارك الاحياء منهم والهياكل العظمية في حمل تعاسة ومهزلة الحروب البشرية.
لكن روح الدعابة ليست غائبة عن جحيم هذه الأقفاص، هناك مثلا لحظة تعميد هتلر الطفل في كنيسة محترقة او هتلر البالغ وهو يستريح بجانب قبر عملاق.
إن الدعابة والرعب يمنحان التاثير الرمادي المميت نفسه لهذه الأقفاص الزجاجية الرهيبة. هناك مثلا مجسم لطفل ذي ثلاثة روؤس يلعب الكرة على ضفة ساحل بحيرة من دماء حمراء أو جندي يمصّ الحليب من أثداء خنزيرة في مصفحة عسكرية.
الإيغال في الواقع والاحتجاج عليه يلتقيان في أعمال جاك ودينس الصادمة, وهما يوظفان هذه الصدمة حافزا للإنارة، للإثارة، للتطهير والحذر.
ولو كان المستقبليون صادقين بإدعاءاتهم أن الفن هو العنف، القسوة واللاعدالة، فأن الأخوين جابمان أظهرا قدوة وقدرة مذهلة ومدهشة لهذا الإدعاء.
الجزء الثالث من المعرض هو عبارة عن رسوم هتلر الشاب المائية والتي اشتراها الفنانين بمبلغ 115,000 باون استرليني رغم كل الانتقادات حول القيمة المعنوية لدفع مبلغ كبير لاعمال أُنتجت من قبل أقسى دكتاتور في العالم.
جاك ودينس عرضا ثلاثة عشر عملاً من هذه الرسوم المائية الهتلرية لكن بعد ان أضافا بصماتهما الشخصية لهذه الاعمال.
أقواس قزح غافية، نجوم براقة، وجوه ضاحكة، وفيضان منثال من القلوب العاشقة أُضيفت الى خلفيات أعمال هتلر وعُرِضَت مجدداً في سوق الفن بمبلغ 685,000 باون إسترليني.
الاخوان جابمان نفيا أن تكون هذه الرسوم والتي ستباع كقطع منفردة، هدفها إستعادة أوإسترجاع هتلر، وقد سبق لهما ان وصفا أعمال هتلر الأصلية بـ 'العمياء' والناقصة للإبداع.
فهما يريان أن فكرة إسترجاع هتلر هي سيئة جداً لكن فكرة إسترجاع أعمال هتلر الفنية هي فكرة عبقرية، كما يقول جاك جابمان.
ويصف هذه اللوحات: انها لا تمتُّ بأدنى صلة لهتلر الآن بل هي إبداع افكارنا. إن التهشيم والإفساد من الممكن ان يكون فعلاً إبداعياً ايضاً.
وقد تعهدت إدارة كاليري 'المكعب الأبيض' بالحرص عند بيع هذه الأعمال. وهي تفضل أن يكون المشترون أشخاصاً لا يروجون للنازية الجديدة بأي شكل من الأشكال.
دينيس جابمان قال: إن هذا العرض والمعنون 'لو كان هتلر هيبي كم كنا سنكون سعداء'، هو في الحقيقة إجترار لسؤال: ماذا كان سيحدث لو لم يُرفض هتلر من قبل مدرسة فينيسيا للفنون. ويضيفا لقد أظهروا خواء وعدم اكتراث لأعماله مما جعله ممتلئاً بالمرارة والكره.
حاول هتلر ان يدرس الفن في هذه المدرسة من خلال عرض أعماله على لجنة القبول لكن هذه الرسومات كانت عمياء تماما ولا تشي بأن الذي رسمها سوف يكون أكبر مرتكب جرائم بحق البشرية.
هذه الأعمال تمثل قشرة الرجل فقط. وهي تشبه الآف الاعمال الرخيصة التي تمتلئ بها الأسواق. وكل الذي يمكننا أن نقوله أنها أعمال فنية فظة وفظيعة وليس بها أدنى مراتب الابداع.
عنوان المعرض if Hitler had been a Hippy how happy would we be))، لا يحمل علامة استفهام، لكنه يسقط الأسئلة المنغصة في رؤوسنا:
_هل الروح البشرية تواقة الى الهلع؟
_هل من الممكن أن نتأمل العالم بدونه؟
_وحتى لو يضيع الخوف، هل من الممكن كما يقول الاخوان جابمان ان نعيد تشكيله وابداعه!؟
هذا المعرض يبلبل مزيداً من الاحتمالات المحرجة.
هي ليست المرة الأولى التي يشوه بها الاخوان جابمان الأعمال الفنية، فقد سبق لهما أن أضافا لمساتهما الخاصة، من وجوه مضحكة ورؤوس مهرجين، لأعمال غويا المعنونة 'كوراث الحروب'. مما أثار حفيضة النقاد الاسبان ضدهما.
عندما يحين الوقت الذي سيعصف بكل المتاحف ويُمحى كل تاريخ الفن للتجديد في الفراغ، فأن جاك ودينس جابمان سيكونان في أول الطابور بلا شك.
08-أيار-2021
06-كانون الثاني-2010 | |
30-أيلول-2009 | |
كارول آن دوفي المثليّة التي أصبحت شاعرة البلاط البريطاني: ترجمة وإعداد |
29-آب-2009 |
17-كانون الثاني-2009 | |
13-تموز-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |