تريسي إمن التي تقول كل شئ
2010-01-06
الذين يتابعون الفنانة البريطانية تريسي إمن يعرفون حياتها المليئة بالمتاعب والغنية التجارب، لان أعمالها الفنية هي مذكراتها الشخصية بإلحاح مذهبي. فهي الابنة غير الشرعية لعلاقة عابرة بين رجل تركي من قبرص وإمراة إنكليزية جميلة، ترعرت مع اخيها التؤام في (ماركيت) احدى ضواحي لندن المطلة على نهر التمس وبدأت حياتها كبوهيمية عاشت الفقر والتشرد، وعانت في طفولتها من الاهمال ولم تلبِ إحتياجاتها الطفولية مما دعاها الى كره الدراسة وتركها نهائيا في عمرالثالثة عشر. لكنها انتظمت في دراسة الفن بعد ذلك في كلية ميدستون وأكملت دراستها في الاكاديمية الملكية للفنون.
تُعد تريسي إمن(1963) من أكثر الفنانين البريطانيين الشباب جرأةً وأكثرهم إثارة للجدل، ومن أشهر أعمالها الفنية المعروفة، خيمة صغيرة بعنوان ((everyone I have slept withمدون داخلها أسماء جميع من نامت معهم، بداية من شقيقها التوأم وأبويها وعشاقها بالطبع.
يصعب تقييم اعمالها على الرغم من تأثيرها الواضح في المشهد الفني البريطاني الشاب، فإسلوبها يتردد بين الواقعية المازوشية الشعبية وما بعد التقليدي عبر الثيمة التركيبية الأنثوية الصارخة. تريسي إمن لا تتخيل كي ترسم، لأن خيالها أمامها تماماً(جسدها)، لكن عملها على المرئي أو المحسوس أصعب من إستيلاد الخيال وتحويله الى مرئي، فهي قد خلقت من لحظات ضعفها الإنساني كلا، القناة والمحتوى لفنها، أعمالها المركبة فيها اصرار خام وديالكتيكي جدلي كئيب، ومعارضها كثيراً ما تتضمن شذرات ونصوص عنكبوتية شرسة وذات أخطاء إملائية مقصودة كأنها مكتوبة بيد غير واثقة او متاكدة من شئ، تحيلنا الى ذهن كئيب( كحولي او ذو أفكار إنتحارية)، يخربش في لحظات بؤسه.
باختراق الكتابة (الشذرات والنصوص القصيرة) للرسم، في محاولة لاختراع لغة صورية جديدة من خلال التلصيق والخطوط والمساحات اللونية غير المتداخلة، هو ما يُحيل اللوحة إلى تجربة تدوينية تتحول فيها إلى: نص، او خرائط تدوينية، تريسي إمن فيضان لايقاوم، شرسة ومثيرة للشفقة في ذات الوقت، منغمسة في ملذاتها الجسدية بطاقة عجيبة ولانها لاتريد لنصوص سيرتها ان تصبح أدب فهي تحورها الى خطوط وصور وتضمنها رسوماتها المطبوعة او المائية او كولاجاتها اوتخطيطاتها على الانسجة او منحوتاتها النيونية او أعمالها الفنية المركبة او اشرطتها الفيديوية.
هي القاصة البارعة، تنسج حكاياتها المأساوية والهزلية بطريقة لذيذة وساخرة كنمط متفرد من الاستنكار الذاتي، تروي أحداثها عبر لغة شعرية وتبني حوار سخي بينها وبين متلقيها، حين تشركه بإستكشافات صريحة لعواطفها وعوالمها الانسانية، تصنعُ من الفن مرايا صادمة، تعكسُ مكابدتها الداخلية كأنثى تقف على حافّة الشّغف، في شعرية تبدو مقاربة جمالية للشبق الأنثوي، الذاتي، وترجمة حارّة له ولعوالم المرأة تحديدا، قدرتها في دمج حياتها الشخصية بعملها الفني مكّنها بالتالي من اقامة تلك العلاقة الحميمة مع متلقيها. فهي من حوّلت سريرها الشخصي بكل تفاصيله المحرجة من زجاجات الخمر الفارغة وأعقاب السجائروالشرشف المتسخ بالبقع، الى قطعة فنية وعرضتها في احد معارضها، هي بالاحرى تشارك الاخرين تفاصيل كوابيسها وتكشف عن ذعرها وتخبطها كباقي البشر. إجترارها الغزير هذا يتضمن قصة إفتضاض بكارتها وغيرها من الانتهاكات الجنسية التي تعرضت لها في عمر المراهقة الاولى، وفشل تطلعاتها واحلامها، وعدم قدرتها على الأنجاب وتجربة الإجهاض التي مرّت بها، وإدمانها على الكحول، وشخصياتها المتخيلة والواقعية، وعشاقها وأعدائها، وعدم قدرتها على تفسير فرحها الخفي الذي يفوق الاستيعاب، وهذا السرد الفني يستمر ايضاً، عبر الجنس وطيور النورس وشاطيء البحر، من خلال نشاطها الدؤوب الذي ينشد الطموح ويُصنف على انه تجميع لمعارف وعواطف تريسي إمن.
في عام 1996 عاشت تريسي امن، ُنسك فني، لمدة أربعة عشر يوماً في غرفة معزولة، في كاليري بلا اي شئ عدا قطع الجنفاص وعدة الرسم في محاولة منها لإيجاد اسلوبها الخاص، واخذت تتأمل ذاتها بمرايا معلقة بزوايا الكاليري، حيث يمكنها مراقبة نفسها المتزمتة في عريها، لترجّ عفاريت ألوانها في محاولة لإعادة تأهيل تلك الذات فنياً، وقد تدفقت رسومات سيرتها الشخصية خلال هذين الاسبوعين، هذه الغرفة، أُعيد تركيبها بالكامل وتعرض الان كعمل فني في متحفها في جادة واترلو في لندن وهو صومعتها التي تعيد فيها تشكيل كل الاماكن الشواهد المهمة في حياة الفنانة :الكهف ، الكنيسة، دير للرهبنة وهو مفتوح مجاناً لكل الزائرين .
إمن تقول كل شئ، كل الحقائق الفظيعة والمشرقة في حياتها. تؤسس لفنها من خلال ألمها النفسي والجسدي، كشكل من اشكال الرفض للجنس المحرم والاغتصاب والاجهاض وممارسة الجنس مع الغرباء. إمن تعرض نفسها وآمالها، ذلّها واخفاقاتها ونجاحها بصدق قاسي وسخرية شعرية.
اكتفاؤها من قوة إحتفالها بذاتها وتكشفها الصميمي داخل حدود العمل الفني، من كونها تجاوزت القناع وحلّت، بمهارة الفن وعصيانه المرح، الوجه الحقيقي محله. في منحوتاتها النيونية والمعنونة (فتاة سعيدة جدا) تعلن تريسي إمن وبكل وضوح، تفاصيل جسد حبيبها، وتنقل للمعرض كوخ صغير شائخ من ساحل كورنول حيث أمضت فترة مع معه، مع مصاحبة ضبابية لأشرطة مرتجلة بصوت منخفض ومهيمن توثق حياة الفنانة، في حين تتجول الكاميرا في شقتها اللندنية وتقدمها كسلسة من الفوضى العشوائية التي تضج بالحياة، في هذه المقابلات تريسي إمن تحاور نفسها، وتلعب دور محامي الشيطان وتسائل أنّاها عن أنانيتها وتجاوزاتها. عدميتها، مكثفة وعاطفية وهي القوة التي تسيّر حياتها بالتالي، هذه القوة محمولة في معارضها عبر اللغة بشكل ابتدائي وعبر المنولوجات الداخلية التي تثيرها في نفسية المتلقي، معارضها ذات مسحة سردية تُقال بطريقة تقليدية وغير تقليدية عبر المذكرات اليومية والرسائل والمخلفات الشخصية والصور العائلية والرسوم والتسجيلات الفديوية ومصابيح النيون والمنحوتات والمنسوجات المكتوب عليها والقصص الشعرية والكتب. تخلط هذه الوسائل لابتكاراغنية شذية ذات خصوبة شعرية عالية تدور حول نفسها وعن حاجات الانسان للإحتفاء به ومواساته. عُرفت تريسي إمن بمسار روحاني ولاهوتي عندما تصرح بانها تحتاج الفن كما تحتاج الله. الدين من وجهة نظرها، ينقسم الى قسمين يتداخلان ببعضهما، القسم الاول، هو مبدأ العلاقة الثنائية بين تريسي إمن وربها، ومن إمتدادات فرحها وحزنها العميق، ضميرها وخذلانها بوجه الظروف والمواقف الكبيرة. اما القسم الثاني فهو المؤسسة الدينية او الطائفية ونظرياتها اللاهوتية التي تتوالد كاستجابة لتنظيم العلاقة بين الانسان والله والمؤسسة الدنيوية. لقد أوجدت إمن نوع من التوازن في أن تكون مستكينة امام خالقها فنياً ولكنها مهمينة في ذات الوقت بعظمة ألمها الذي اصبح إلهامها الوحيد، وهذا سمح لها بالخروج من أنّاها للآخر، وهي بطريقة ما قد نجحت في زيادة قدرة الفن البصرية في المشاركة الجمعية كدافع لاهوتي.
في معرضها الأخير في صيف 2009 في كالري المكعب الابيض والمعنون(هؤلاء الذين عانوا من الحب)، تستخدم امن المصابيح النيونية لتعرض بمرح متعة لاتدعِ الحياء، مستمدة من مهاراتها العفوية في الحكي لنحت شذراتها الشعرية وربما كي توحي بنوع من الاحتراق الذاتي، إن إستخدامها النقي لفتنة الضوء في سرد سيرتها المائعة في الالوان، خلق نوع من الغبطة المثبتة على الحيطان لهذه النصوص. والنيون يوحي لتريسي إمن بشاطئ الروح البعيدة والضوء الذي يشع على المشاعر الدفينة. إسلوبها البهيج الصامت يَبسطُ مَدْ وجَزر فنون الجسد وفتنة التلامس مع الاخر، ليس بالغمز بل بالرسم طبعاً. كل لوحة تبدو كمحاولة لتدوين مغامرة اللّيلة الفائتة، التي ما تفتأ تنزلق من سرداب الذّاكرة، مثخنةً بالفجوات، والتوسلات، والإحباط. كل لوحة تنشدّ مصالحة ذاتها والجنس البشري مع مشاعره النبيلة والحقيرة والمهينة.
لا تعقيد او تجريد مبالغ به في لوحاتها، فيكفي ان نقرأ عنوان مثل"You Forgot to Kiss my Soul" ، او النصوص داخل اللوحات لندرك القدرة الجريئة في ثيمة العمل، كانها تحرر الافقار الروحي من عقاله، ليبتلّ بالدموع عبر التسليم العاطفي، يأسها يُستبدل بحيوية متزايدة للفن والحياة وهذا يمنحها جسارة متبصرة في حسّها الفني.
أقامت اكثر من عشرة معارض شخصية في المملكة المتحدة، ومثّلت بريطانيا في بينالي فينسيا 2007. أقامت معرضها الاستعادي الاول في أدنبرة 2008 وهذا المعرض يجول أوربا خلال عام 2009. ولها كتاب مذكرات وسيرة ذاتية فنية بعنوان (الارض الغريبة 2005) مقسم الى ثلاثة اقسام، هي (أرض الام) و(أرض الاب) و(أرض تريسي) وهو سرد صادق ومؤلم لمراحل حياتها كافة، تعيش وتعمل في لندن.
النشر الورقي مجلة الغاوون
النشر الألكتروني خاص ألف
08-أيار-2021
06-كانون الثاني-2010 | |
30-أيلول-2009 | |
كارول آن دوفي المثليّة التي أصبحت شاعرة البلاط البريطاني: ترجمة وإعداد |
29-آب-2009 |
17-كانون الثاني-2009 | |
13-تموز-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |