شجرةُ البون بون
2008-07-21
أهدى بيتهوفن سيمفونيتَه الثالثةَ، "البطولة"، إلى نابليون بونابرت حينما ألغى الملكيةَ وأعلنَ قيامَ الجمهورية الديموقراطية الفرنسية. ثم شطبَ الإهداء حينما انفرد نابليون بالسُّلطة ونصَّبَ نفسَه إمبراطورا مدى الحياة نهاية عام 1804. هذا ما تعلّمناه من الموسيقار د. فتحي الخميسي في إحدى محاضراته. ليس هذا وحسب بل شرح لنا يومها تفاصيلَ كلِّ حركة موسيقية: لماذا الآلاتُ كثيفةٌ هنا، ورهيفةٌ هناك؟ وكم طبقةً موسيقية في هذه الحركة؟ وما دلالةُ قرع الطبول القويّ هنا، والإيقاع النُّحاسيّ الحاد هناك؟ وماذا يجري في خلفيات اللحن من طيوفٍ خافتة كأنها أرضية اللوحة الموسيقية. جعلنا الخميسي "نقرأ" الموسيقى، ونشاهدُ، بآذاننا، ملحمةَ الثوّار وصراعهم مع السُّلطة لحظةً بلحظة! يومها هتفتُ باندهاش وحسرة، وخجل أيضا: يا خبر! ده احنا بقا "سَمّيعة" صدفة يا دكتور فتحي!
قبل هذه المحاضرة كنتُ أعتبرُ نفسي "سَمّيعة" مزيكا كلاسيك محصلتش. لو سألتني عمَّ أحبُّ ولمَ؟ سأجيبكَ "بكلَّ ثقة وسؤدد": أعشقُ تشايكوفسكي. لأن مقطوعة "آنّا كارنينا" تشحنُني بالدفء، حتى لأشعرَ أنني في قصة حبٍّ دائمة. أما "جِنيّة شجرة البون بون" فتردُّني رأسا إلى طفولتي، فأكاد أملأ غرفتي رقصًا وتنطيطًا. بينما "بحيرة البجع" تجعلني أشعرُ أن العالمَ حُلوٌ وراقٍِ ورائقٌ ويستحقُ جدا أن يُعاش! وأن البشرَ، جميعَهم، جميلون وطيبون مُحبّون مَحبوبون! وأن لا مجالَ ثمة لكراهية أو عداء أو تكشير أو كلمة نابية. الكلُّ أرستقراطيٌّ وأنيقٌ وسامٍ، روحا وخُلُقا، وليس طبقةً. أما باخ، يا عيني على باخ وسنينه! يجعلني أرى البشرَ وقد غدوا صبيانا وصبايا، يتحلّقون متشابكي الأيدي في دائرة واسعة قطرُها كوكبُ الأرض. البناتُ يشبكن زهورا في جدائلهن مثل فتيات تاهيتي، وأما الشباب فعلى كتف كلٍّ منهم يمامةٌ بيضاءُ في مِنقارها فرعٌ أخضرُ وعودُ فلّ. لا يكفّون، منذ الأزل وحتى الأبد، عن الدوران والغناء على نغمات إكسليفون باخ العذب. أما بيانو شوبان فيجعل خفقات قلبي تتسارع حتى يقفزَ من صدري، فأقفزُ وراءه وأقبضُ عليه ثم أعيدُه إلى مخبئه. فيما سونتّات موزار ترسمُ لي دولفين رماديًّا ناعمًا يرقص في بحيرة زرقاء، يغطسُ برأسه ويضربُ بذيله سربًا من البالونات أمدُّ يدي فأمسكها. بينما "الفصول الأربعة" لفيفالدي تردّني لأيام المدرسة الأولى. الفرحةُ بالكراسات الجديدة والأقلام المبرية والحقائب اللامعة. أما فاجنر، حتى في مقطوعاته التي تصف مغامرات وصيفات الإله أودين، فيعيدني إلى يوم عُرسي، حيث يتوقف العالمُ عند فستانٍ أبيضَ بكرانيشَ واسعةٍ، وذيلٍ طولُه سنواتُ عمري. أليس هو صاحب مارش الزفاف الأشهر؟
كل هذه التحليلات "العبقرية" لم أعد أجرؤ على قولها بعد محاضرة د. الخميسي القيّمة، التي جعلتني "أتأدب"، وأخجل من مجرد ذكر أنني أسمع الموسيقى.
كم نحن فقراءُ في معرفة هذا العالم الساحر! فما كان من السِّحر إلا أن حجبَ نفسَه عنّا بكبرياء. أليس للموسيقى كبرياء! وكم مقصّرةٌ في حقِّنا وزارةُ التعليم حين غيّبت عن مناهجها الثقافة الموسيقية والتشكيلية. نتفرج على اللوحات فنقول يا سلام! الله، الله! لكن كم واحدا منّا، نحن غير المتخصصين، قادرٌ على "قراءة" لوحة تشكيلية، أو "قراءة" قطعة موسيقية، سواء غربية، أو عربية لعمر خيرت مثلا أو لعمرو إسماعيل؟ والله حرام!
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |