مَن الذي قتل مصرَ الجميلة؟
2008-07-30
تأنيث العالم في رواية ميس إيجبت لسهير المصادفة
"الكمال" مفردةٌ مذكرة بحكم المعجم. وحين نؤنثُها لتصيرَ "كمالة"، ثم نهبُ هذا الاسم لامرأة ما، فإننا حتما نوّدُ أن نسرّبَ رسالةً ما، تكرّسُ أن الجمالَ والعدالةَ والخيرَ والكمالَ هو أنثى بالضرورة، وهو مذهب "الأنثوية" الفلسفيّ الذي ينتصر لكلِّ القيم الإيجابية السابقة. هذا ما فعلته سهير المصادفة في روايتها الجديدة التي أراها تتمحور حول فكرة "تأنيث العالم"، حتى وإن توسّلت خيطا بوليسيا، وآخر سوسيو -سياسيا، حتى وإن جعلت من "كمالة" امرأةً هامشية ضبابية اختارت أن تحيا في عتمة ظلال كثيفة لم نقدر أن نلمحَ خلالها سوى جسدٍ نحيل وجديلة شَعر طويلة كثيفة. "كمالة" هي الشخصية المحورية في هذه الرواية، رغم هذا التهميش، وربما بسببه.
"ميس إيجبت"، أو Miss Egypt، ملكة جمال مصر. فتاةٌ يتمُّ اختيارُها وفق معاييرَ خاصة من حيث الجمال العقليّ ودرجة تطوّر الوعي ورقيّ الثقافة ومدى الاتساق النفسيّ والسلوكيّ، وفي الأخير الجمال الشكليّ. هو عنوان الرواية الأخيرة للروائية الشاعرة المصرية سهير المصادفة. وفيه تُقتل "نفرت جاد"، ملكة جمال مصر القادمة ويتم التمثيل بجسدها الغضّ الذي لم يتخطّ الثامنةَ عشر عاما من عمره القصير. ورغم مصرع الفتاة، منذ السطر الأول، إلا أننا، كقراء، سنعيش كلَّ تفاصيل حياتها المغدورة عبر صفحات الرواية المائتين الصادرة عن "الدار" المصرية. الغلافُ جاء ذكيًّا، إذ فرّغَ الفنانُ الشاب عمرو الكفراوي وجهَ الفتاة من عينيها على الغلاف الأمامي، وألصق هاتين العينين على الغلاف الخلفيّ. لكي تغيمَ ملامحُ البطلةِ فيسقطُ عنها التعيين، وترمي في حقلِ كلِّ فتاةٍ مصرية، أو بالأحرى لترمي في حقل مصرَ ذاتِها. والحقُّ أننا لن نحدد أبدا ما إذا كانت هاتان العينان المعلقتان في جدار أسود يسدُّ فراغ الغلاف الخلفي، هما للقتيلة الجميلة، أم للقاتل الذي ارتدى نقابا نسائيا أسودَ مصمتا إلا من ثقبين تبرز منهما عينان كحيلتان تحدقان في خواء. لا يهمُّ في الحقيقة لمن هاتان العينان، للقاتل أم للقتيل. فكلاهما مأزومٌ ومكسورٌ وتعس. وهذا سرُّ ذكاء الرواية والغلاف في آن. وهو ما يؤكد حدسي بأن ميس إيجبت ليست ملكةَ جمال مصر، إن هي إلا مصرُ ذاتُها. الأدقُّ هي "جمالُ" مصر الغارب الذي راح يذوي ويخبو يوما بعد يوم حتى استحالَ الجمالُ والحُسْنُ دمامةً وقبحاً وفوضى. ليس وحسب على مستوى الشكل والنظافة والنظام الخ، بل شملَ الانحطاطُ في مصرَ كلَّ الأصعدة من رقيّ ووعي وثقافة وفنٍّ وسياسة وفكر وهلم جرا. مصرُ التي كانت درّةَ الشرق يوما وقِبلةَ العالم كلِّه لا تشبه مصرَ الراهنةَ بكلِّ انحدارها واندحارها وسوقيتها. حدث هذا، وفق الرواية، على نحو حثيث ومنتظم منذ ثورة يوليو 1952 حين تحولت مصرُ الليبراليةُ الراقية ذات الأحزاب إلى بلد أحاديّ فاشيّ يحكمه العسكرُ الذين اعتقلوا اليساريين والمثقفين وأنعشوا روحَ المدّ السلفيّ فغدت مصرُ ما غدت عليه الآن.
تُلّح الرواية على أن عيني القتيل لحظةَ القتل تحملان السرَّ كاملا. إذ تؤطران مشهدَ القاتل وتحتضنانه إلى الأبد. ليس على النحو البوليسيّ الذي طرحه ألفريد هتشكوك في رواياته من حيث أن صورة القاتل تنطبع في عين المقتول بوصفه الوجهَ الأخيرَ الذي يحدِّق به، بل تطرحه المصادفة في مستواه الفلسفيّ والرمزيّ حيث المقتولُ يحملُ في عينيه صورةَ القاتل لأنه، المقتول، يحمل نصيبَه من الجريمة مع القاتل. لذلك جعلتِ المصادفةُ الجريمةَ البشعة تتمُّ على مرأى من أبي الهول، حارس مصر، كي تُشهدَ التاريخَ أن مصرَ والمصريين غير معفيين من تبعة قتلها وتشويهها، فالكلُّ مُدانٌ ومجرمٌ حتى التاريخ ذاته. لذلك تَلحُّ على ألسنة الأبطال أسئلةٌ من قبيل: لماذا سمحتِ لهم بقتلكِ يا نفرت جاد؟ أما كنتِ تستطيعين الفرارَ من هذا المصير؟ كيف قبلتِ أن يغلقوا عينيكِ عن قاتلك؟ الخ. ذاك أن مصرَ "المقتولة" في الحقيقة مُدانةٌ، مع قاتلها/ القبح، إذ سمحتْ له بانتهاكها وتشويه مجدها وماضيها المشرق.
ترسم الروائية، بريشة مُرّة، بانوراما مصر الراهنة بقولها: "كانت مصرُ من أجمل مدن الدنيا وأكثرها نظافةً ورقيًّا، الآن لدينا عشرات المفكرين وليس لدينا "طه حسين" واحد، مئات الوعّاظ وليس لدينا "محمد عبده" واحد، عشرات المطربين وليس لدينا "أم كلثوم" واحدة، ملايين الدارسين بالمجان وليس لدينا متعلمون، لدينا وسائلُ راحة ووقت أقل، لدينا فاتريناتُ ولا شيء في مخازن مصانعنا، لدينا نكاتٌ أكثر وضحك أقل، لدينا أحزابٌ كثيرة ووجهات نظر أضيق، لدينا كتابةٌ أكثر وكتب أقل، لدينا قتلةٌ وجلادون يزيدون عن حاجتنا، ولذا يبحثون في الخارج عن جثث أكثر،... لدينا نقود لكننا أفقر، نصلي ونصوم ونزكّي ونحج أكثر، وخراب أرواحنا يزداد أكثر..."، الرواية ص 185.
"محمد العريان" أحد ضباط الثورة، طاعن في العمر الآن وتنتابه حالاتُ خرفِ عقليّ، لكن ذهنه يتوقّد ويأْلق فقط حين يحكي كيف أجبروا الملك فاروق على التنحي عن الحكم ومغادرة البلاد فورا على متن الباخرة المحروسة. أقامتِ الروائيةُ حوارا فانتازيا بين الماضي والراهن. الماضي وردَ على لسان اللواء العجوز والحاضر على لسان محاوره "عبد الرحمن الكاشف" الطبيب النفسي المستنير، الذي يمثل الراهنَ، أو الأدق يمثل الشاهدَ على الراهنِ التعسِ، والرافضَ له في آن، راميا تبعة قبحه على ثورة العسكر. يسأل العجوزَ معاتبا: ولماذا انفردَ العسكرُ بالحكم؟ ألم يكن في مصر من هو أكثر استحقاقا؟ يجيبه العجوز بغضب: إن مصر ظلّتْ دون حاكم ودون أحزاب أو حكومة يومين كاملين، فلماذا لم ينبرِ هذا الأكثر استحقاقا منّا ويقتحم ماسبيرو ويعلن نفسه حاكما للبلاد؟
الزمن في يد الكاتبة حرٌّ وديناميّ مثل كرة البينج بونج. حدثٌ يتم الآن، ثم يحكي لنا الراوي العليم أن بعد خمس سنوات سيحدث كذا وكذ، ما يجعل القارئَ يقرأ الشخصية كلّها دفعةً واحدة بكامل قوسها من ماض وحاضر ومستقبل. كل شخوص الرواية تقريبا سنشهدُ موتهم، حتى الشباب منهم. عدا اللواء "محمد العريان" الطاعن في العمر المستحق الموت منذ أمد لن ترسم الرواية نهايته أبدا رغم موته الإكلينيكيّ. سيبقى أبدا لا هو ميّت ولا هو حي. في دلالة ذكية إلى أن تداعيات ثورة يوليو السلبية باقيةٌ أبدا لتؤرقَ حريّةَ مصرَ وتئد جمالها.
سهير المصادفة أحد المهاجرين من الشعر إلى الرواية مع موسم "زمن الرواية" وفق جابر عصفور. وقد رسّخت قدميها في دنيا السرد بروايتها هذه والسابقة "لهوُ الأبالسة" التي فازت بجائزة اتحاد كتّاب مصر العام الماضي. ولأنها شاعرةٌ في الأساس ولها عدة دواوين، فقد خرجتِ اللغةُ شفافةً قويةً حلوةَ البناء عذبةَ الصور، كما يُحسب لها عدم إغراقها في الشعرية رغم ذلك.
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |