كتاب صناعة الآلهة عند الموحدين / الحلقة 2ـ3
2008-08-01
ملاحظة / موضوع الكتاب لا يرى أي مسوغ لذكر المصادر
وكذلك فمسألة قبول المسيحيين باليهود هي فكرة متعثرة بسبب تراكمات الماضي المكتنـزة بالذاكرة المسيحية والتي تنطلق من أفق تسمية السيد المسيح (عليه السلام) لليهود بعبارة (أولاد الأفاعي) ومحاولة صلب اليهود للسيد المسيح (ع) ، وموقف اليهود من (ملك اليهود) الجديد المتمثل بالسيد المسيح (ع) ، وليس تصنيف اليهود من قبل (هتلر) ببعيد عن التأثيرات الدينية أو الرواسب والتراكمات الثقافية الدينية ، ولذا تجد الكثير من المسيحيين يطلقون على أنصار (الكنيسة التدبيرية) تسمية (اليهود) ويعتبرونهم يهوداً أصلاً وليسوا من المسيحيين ، وكثير منهم ما زال يعتبر أن اليهود هم المسؤولون عن صلب السيد المسيح (ع) ، وعندهم تكمن ثارات الديانة المسيحية ، رغم إن السياسة والمصالح والحقد الثنائي استطاع أن يجمع الدين السياسي اليهودي والمسيحي في بودقة واحدة لضرب الإسلام ، على اعتبار أن (صديق صديقي ، وعدو عدوي هو صديقي).
وبالتالي فأحلام اليهود وأوهام حاخاماتهم التي دسوها في الوعي اليهودي الجمعي ، وأمنيات عزرا التي كتبها على ضفاف نهر الخابور ، والوعد الإلهي بدولة إسرائيل ، معززة بتقويض سلطة الكهنوت اليهودية على يد أنصار السيد المسيح ومعاناتهم مع الفراعنة ، وانهياراتهم أمام المسلمين ، وجرائم محارق (الهولوكوست) الألمانية التي طبل وزمر لها الساسة اليهود وأعطوها حجماً يفوق حجمها الحقيقي من أجل توظيفها للمكاسب الجديدة ، كلها تمثل منطلقاً لكراهية اليهود لكل ما هو مسيحي أو مسلم ، ورسخ لديهم (عقدة الاضطهاد) ، وحملهم مغبة دفع فاتورة الكراهية لكل شعوب الأرض ، وخشيتهم من أن يعيد التأريخ نفسه ، رغم إنهم لم يقرءوا من التاريخ غير ما كتبه لهم أصحاب ألأجندات الصهيونية الحالمة إلاّ نادراً .
إن كثيراً من المفاهيم المخطئة الراسخة في أذهان الشركاء في الإنسانية من معتنقي الأديان جاءت نتيجة أحد منطلقين ، أولهما سوء التوصيف والتوضيح لبعض أحكام الدين من قبل القيمين على الدين جهلاً أو عمداً ، وثانيهما استغلال الجانب الآخر لسوء التوظيف والضبابية ، كما حدث في مسألتي (الجزية) التي يجب أن يدفعها أبناء الديانات الأخرى (عن يد وهم صاغرون) ، ومسألة (قتل كل من يخرج عن الإسلام ويعتنق ديانة أخرى) .
هاتان المسألتان – القاعدتان - مهمتان ولا تقلان أهمية عن الجهاد الإسلامي المساوق للإرهاب بنظر البعض ، وما لم يقم علماء الدين المسلمين بتوضيح وجلاء رؤية الإسلام لهاتين المسألتين ومعهما مسألة (السيف الإسلامي) فقد تستمر محنة سوء الفهم لدى المجتمع العالمي ، ويدفع فاتورتها معنى الدين الحقيقي .
ومن المهم أن نجلي رؤية الرسول الأعظم لأبناء بقية الأديان ، وتعزيز هذه التجلية بالقصص الحق ، وعدم زج الأحقاد النفسية الراسخة لدى بعض (كُتّاب السيرة) في عملية مخاطبة الآخر ، بل المفترض أن نقدم نماذج من حسن وتكامل أخلاق الرسول الأعظم وخلفائه الحقيقيين مع كل المنتمين للإنسانية .
ورائع أن نورد قصة تمثل مستوى العدالة الإنسانية التي يتمتع بها رسول الله (ص) بقبوله الرضوخ للمحاكمة كأي فرد من أفراد المجتمع حين اتهمه أحد اليهود بتهمة تتعلق بديون شخصية ، وجميل أن نورد أنموذجاًَ في التكافل والضمان الاجتماعي حين ولي أمير المؤمنين (علي) عليه السلام الخلافة ، وحين رأى نصرانياً يضع على صدره الصليب ، ويتسول في أسواق المسلمين ، فاستنكر الحالة ، وشجبها ، وعلق على الموضوع قائلاً :- استخدمتموه ، حتى إذا أتعبتموه تركتموه يتكفف أيدي الناس ؟؟
ثم أردفها بمقولة تعبر عن اقتصاص الإنسانية للإنسان من همجية رعاة الإنسان حين قال لوكيله أو عامله :- افرضوا له من بيت المال ما يكفيه ، وتالله أقسم ، لئن ثقفت أحداً من أهل الذمة يتكفف الناس ............ الخ .
وهنا بدأ صراع الآلهة فيما بينها فثمة اله يدعو المسلمين إلى احتواء اليهود والنصارى والصابئين ومعاشرتهم والتغذي بطعامهم والعمل على تأمين متطلبات وجودهم الإنساني ، وهو نفس الإله الذي يبشر النصارى والصابئين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (إن الذين آمنو والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
وإله يحرم طعامهم وتزويجهم ، ويحذر من (الرطوبة) المتصلة بين أيديهم وأيدي المسلمين ، ويضعنا في حيرة من أمرنا حين يحذرنا من المشركين ، فالمشركون (نجس) وعلينا أن نمنعهم من التقرب للمسجد الحرام بعد عامهم هذا (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ولم يوضح لنا أساطين الدين من هم المشركون ، ولم نعد نعرف ، هل جارنا المسيحي أو الصابئي أو اليهودي هو من الذين أُحل لنا طعامهم وأُحل لهم طعامنا ؟ أم هو من النجس ؟
وثمة إله يحمّل اليهود – جميعاً – جريمة التصدي للسيد المسيح وينبزهم بلقب (أولاد الأفاعي) وإله يبرئ ساحتهم على لسان القساوسة السياسيين ، وإله يأمر اليهود بقتل كل ما ينتمي للحياة كالشجر والحيوان والإنسان ، ويمنحهم حق بناء دولة اليهود على أجساد الضحايا ، وإله يأمرهم بأن يكونوا إنسانيين ويذكرهم بمعاناتهم مع الفراعنة وينهاهم أن يخضعوا الشعوب لما خضعوا له .
وكثيراً ما نجد حاخاماً يمسد على رؤوس الأيتام ، ويبارك القادة السياسيين اليهود المتصهينين لإيقاع مزيد من القتل بالأبرياء من أجل مشروع أرض الميعاد ، ونجد غالباً الكثير من القساوسة يرددون في محاريبهم (للناس المسرة ، وعلى الأرض السلام) وهم يدفعون بعصاباتهم نحو استئصال شأفة وجود الإنسان ، وضيع الحاخامات والرهبان حقيقة الدين على أبناء دينهم ، كما ضيّع علينا (الفقهاء) والمتشدقون حقيقة الأمر بين الواجب والمستحب والأحوط والأظهر و (فيه إشكال) و (الأقوى) و....و ....، فبدأنا نبحث – كلٌ – عن إله يسوغ له عمله ، ويبرر له علاقته مع جاره الذي يشعر بمحبة تجاهه ، أو يشعر بكراهية تجاهه ، ولكل من الفريقين إله يدعمه ويملأ الكتب السماوية وكتب التعاليم والفقه بذرائع تروج لرغباته ، رغم إن الكتب السماوية متأتية من مصدر واحد هو (الله) سبحانه وتعالى ، ولكننا نمتلك القدرة على تجزئة الله ، وتشكيل (كتبه) حسب رغباتنا ، بالتفسير والتأويل وأسباب التـنـزيل والكناية والاستعارات اللغوية وربما بالحذف والتحريف والاختصار والتغيير والاختزال ، وقد نجد إن البعض من الداعين لتعدد الآلهة لم يجد سبيلاً لـ (تحريف القرآن) بواقع ألفاظه وكلماته كما حدث في بقية الكتب السماوية ، ولكنه لم يعجز أن يجر القرآن إلى مساحة الاختلاف والخلاف في التنـزيل والتأويل والتفسير وأسباب التنـزيل ، فتعددت (القرائين) وتعددت الأناجيل ، وأعيد كتابة التوراة ، وظفت الكتب السماوية لمشاريع سياسية ، وأرهقتنا الآراء والتبريرات ، وبالتالي ، أصبح لدينا مجموعة واسعة من الكتب السماوية ، وما أمرنا إلا أن نتبع كتب الله ، وأصبح لدينا الكثير من مصادر التنزيل المتمثلة بالآلهة ، وما أُمرنا إلا أن نعبد إلهاً واحداً هو الله سبحانه .
وهذا كـ ذاك ، حين ينجر الأمر على تعدد الأنبياء عبر تعدد الآلهة والكتب السماوية ، والتقافز على فكرة النبي الواحد للوصول إلى تعدد الآلهة ، فمنع المسلمين من تدوين حديث الرسول بعد (استشهاده) او وفاته وجمع القرآن على وفق المصالح السياسية والفئوية – كإدراج آية التطهير مع آية نساء النبي - وأسفار (العهد القديم) الذي صيغت على نهر الخابور بقلم (عزرا) المكتنـز بالآم السبي البابلي لليهود ، وإنجيل (متى) و (مرقس) و (يوحنا) و (لوقا) والرسائل ، وإنجيل (برنابا) المتهم بانزياحه نحو الإسلام ، والتفسيرات وتأويل الآيات ، وتحريف المفسرين للمعاني الحقيقية للنصوص ،كلها تصب في بودقة محاولة تعدد الآلهة ، أو استنهاض همم الآلهة الكامنة في النفوس .
ولذا نجد تحذيراً واضحاً من تعدد وتجزئة النبي الواحد المؤدي إلى تعدد الآلهة ، والمفضي الى تعدد السنن والنواميس ، ففي الوقت الذي يقول فيه السيد المسيح (ع) لأصحابه أنه (ابن الإنسان) يصر أتباعه بتسميته (ابن الله) ، وفي الوقت الذي يسعى فيه النبي داود (ع) لبناء المجتمع وتكامله ، يتهمه اليهود بأنه زج (أوريا) في خطوط المواجهة مع العدو ليزيد من فرصة قتله وليتزوج زوجته من بعده بأسلوب (مافيوي) وهكذا تبدأ حملة العداء ضد الأنبياء من قبل أتباع النبي قبل المناهضين له ، والنماذج في ذلك كثيرة ولسنا بصدد تعدادها الآن ، وهذا ما يمكن أن نلمسه من خلال تعدد وتناقض الروايات والمضامين والمصادر والمصاديق ، والذي رأينا تحذيراً منه عبر خطاب رسول الله محمد (ص) حين قال مخاطباً أصحابه والناس قائلاً :- (أيها الناس !! لقد كثرت عليّ الكذابة) .
وهذه تحذيرات واضحة من إرهاصات التعددية والتشظي والضياع المفضي إلى الاختلاف والخلاف ، فنحن نعرف إن الأنبياء كلهم مبعوثون من إله واحد هو الله جل شأنه ، والأديان كلها تنبع من إله واحد ، وكذلك الكتب السماوية ، ولكن ، التطبيق العملي للأديان لا يدل على وجود إله واحد ، فلو كان الإله - الذي يعبده الناس - واحداً !! فبماذا نفسر العداء اليهودي للإسلام أو العكس ؟ وبماذا نفسر العداء اليهودي للمسيحية وبالعكس ؟ ولماذا اجتهد اليهود في استئصال شأفة السيد المسيح ومحاولة صلبه ؟ وبماذا نفسر أنهار الدماء التي سالت عبر الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين ؟ وبماذا نفسر مجازر الأرمن على يد العثمانيين ؟ وبماذا نفسر بحر الدماء في البوسنة والهرسك ؟ وبماذا نفسر تكفير دين لدين آخر ؟ بل بماذا نفسر العداء الطائفي والمذهبي المتفشي بين أبناء الدين الواحد ؟ وبماذا نفسر الاختلاف والخلاف والصراع بين أبناء الطائفة أو المذهب الواحد ؟ وهل يمكن أن نغمض أعيننا عن وجود الدين السياسي أو الطائفة أو الفرقة السياسية التي تمنع المسلمات من ارتداء الحجاب وتسمح للراهبات بارتداء الزي الديني المشابه للحجاب الإسلامي ؟ وهل يمكن أن نتجاهل وجود (الإله المسيّس) أو (الكتاب السماوي المسيّس) أو (النبي المسيّس) ؟
كل هذا يشيرنا إلى حقيقة مرة ، مفادها إننا نصنع آلهتنا بأنفسنا ، أو نسيّسها حسب الخارطة السياسية لمصالحنا ، أو نتخيلها بالشكل الذي يتطابق مع نزعاتنا ، وهذا في الواقع ما حمل الناس على الاحتقان من فكرة التدين ، أو التوجس من فكرة إدخال الدين ضمن المنهج التطبيقي للحياة ومفرداتها السياسية ، ذلك لأن المطروح على الساحة العملية هو تشويه لصورة الإله ، وإلصاق التهم به ، وصبغ الأنبياء بصبغة بعيدة عن لونهم الإنساني الحقيقي ، وما نراه ونسمع به من آلهة هو أبعد ما يكون عن حقيقة (الإله الواحد) جل شأنه ، وبعيد عن حقيقة ألأصل الواحد للأنبياء (عليهم السلام) مع ضرورة الإشارة إلى إن أخطر أعداء الدين هم غالباً من الساسة الفاسدين المتمسحين بعباءة الدين والمتدينين ، ومن المؤكد أن القنوات الفضائية ووسائل الإعلام السمعية والبصرية الدينية المسيسة والفاسدة هي أشد خطورة على المجتمع من القنوات الإباحية ، وأخطر أدوات الحرب ضد الدين هو (تسييس الدين) ، في وقت ينبغي علينا فيه أن (نديـّن السياسة). إن من حقنا - كبشر مفضلين على بقية الكائنات بالعقل - أن نشك بأن رسول (الإنسانية) محمد (ص) يمكن أن ينادي شخصاً بديانته مخاطباً إياه بنعت (يا يهودي) !!! أو أن يمتهن بمعتقد إنسان ، أو يحتقر رأي إنسان مهما كان ، لأنه (ص) لم يكن نبياً للمسلمين فقط ، بل كان رحمة للعالمين ، ولكن أنانيتنا ، وتصدي بعض جهـّالنا أو ذوي الأحقاد والمصالح الفئوية للأمر بدأ يشوه رؤيتنا للآخرين ، فانعكس الأمر – بشكل منطقي - على تشويه صورتنا أمام الآخرين ، وتعدى الأمر لتشويه صورة الإسلام الرائعة ، وأخذ يحول الإسلام من فكرة السلام العالمي إلى فكرة الانتشار بالسيف ، ورسخ في عقول الناس فكرة قبول قصة أن الرسول أمر بقتل (البالغين) من رجال (بني قريضة) اعتماداً على وجود (شعر العانة) ، هذه القصة التي دفع الدين الإسلامي الإنساني ثمنها باهضاً ودفع المسلمون فاتورتها وما زالوا في حروب ابتدأت ولن تنتهي ، واستطاع تحويل الدين المحمدي من فكرة عالمية التطبيق إلى فكرة محلية أو إقليمية مقتضبة تترنح بين نشر الإسلام بالسيف والغزو ، أو أخذ الجزية ، متناسين رسائل الرسول (ص) لملوك الأرض ، ودعواته المتكررة للحوار مع أبناء بقية الأديان والتي نجد نصها :- (أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن أبيتَ فعليك إثم الـ..........) .
وكلمة (تسلم) هنا معناها (تسلم من مسائلة الله والتاريخ والإنسانية) في يوم كشف السرائر العاجل والآجل ، باعتبار أن المخاطَب بالرسالة هو عظيم الروم أو كسرى الفرس أو ملك من ملوك الأرض ، وهو أصلاً يمثل راع من رعاة الإنسانية ، و (كل راع مسئول عن رعيته) ، وعلى اعتبار إن (الناس على دين الملوك) وهذا الخطاب ليس معناه التهديد بالتصفية ، وكلمة (تسلم) لا تعني أن يسلم من سيوف المسلمين ، ولم يقل الرسول (ص) فإن أبيت أو رفضت الدعوة فعليك (القتل) أو التصفية أو الاغتيال أو الشنق أو الانحناء بحضرة المقصلة ، بل قال (فعليك إثم الـ ........) .
راسم المرواني
[email protected]
كتاب صناعة الآلهة عند الموحدين / الحلقة الثالثة
لمؤلفه / راسم المرواني / العراق
ملاحظة / موضوع الكتاب لا يرى أي مسوغ لذكر المصادر
المتدينون الفاسدون ...جنود العلمانية المجهولون
لقد استفاد دعاة العلمانية من تراكم الاحباطات التي خلقها أو خلّفها المتدينون الفاسدون المنحرفون لدى المجتمع الديني خصوصاً ولدى المجتمع الإنساني عموماً ، واستطاع العلمانيون أن يتكئوا على الاختلافات والخلافات بين علماء ورجال الدين ، والتي جرّت المجتمعات الإنسانية إلى حروب وفتن داخلية ، وحروب عالمية .
فكم سقط تحت صولجانات الملوك (المتدينين) من الضحايا ؟ وكم دفع رجال المعبد بالأبرياء نحو محرقة الحرب ؟ وكم وظف الحاخامات من المساكين والبسطاء لتحقيق نزعات ورغبات الطواغيت ؟ وكم سقط على أعتاب الكنائس والمساجد والحسينيات - مما لا يمكن إحصاءه - من أرواح الأبرياء الذين راحوا ضحايا الدفاع عن الحق وعن الدين ، أو تساقطوا قرابين لكلمة قالها الحاخام أو المطران أو السيد أو الشيخ ؟ وكم انتشر في ربوع الألم والجوع من اليتامى الباحثين عن الخلاص ، وضاعت الكثير من الأسر والعائلات وهي تدافع عن مبدأ (قيل) إنه يمثل أصل الدين وحقيقته ، وقيل إن الخلاص في (الدنيا والآخرة) يمر عبر بوابة تقديم القرابين لهذا المبدأ ؟ ورحم الله أبا العلاء المغري حين أوجز قائلاً (كلٌّ يُعظِمُ ديتهُ ..يا ليت شهري ما الصحيح ؟) .
من هنا ، كان العلمانيون - وحتى أعداء الدين والتدين - قد وظفوا الكثير من التصرفات السيئة لرجال الدين وعلماءه من أجل تمرير مشروعهم وأفكارهم على أساس أن (العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) ووجدوا لدى المتلقي رغبة في قبول مفردات مشروعهم نتيجة لهرب المتلقي من الدين والتدين بسبب تحول الكثير الكثير من علماء ورجال الدين - وأتباعهم المتطرفون - إلى عصابات خطيرة لا تحترم وجود الإنسان ، وتقدم نفسها على إنها هي راعية المجتمع ، وإنها تمثل سلطة الله في الأرض ، وتطورت فكرة الـ (non-religions) إلى فكرة الـ (Anti –religions) لدي المؤسسة الفكرية العلمانية ، ولو أن بعض الساسة (المتدينين) آثروا أن يحولوا المعنى الحقيقي لكلمة العلمانية (secularism) من الـ (لا دينية) إلى مصطلح أقل خدشاً للمشاعر ، وهو مصطلح (فصل الدين عن السياسة) .
لقد جُبل الإنسان منذ بدء الخليقة على البحث عن (المثل الأعلى) ولذا ففطرته السليمة تدفعه للبحث عن الإله الخالق المدبر المسيطر ، فتراه حين يعجز عن إيجاد هذا الإله بشكله المادي فهو يبحث عن (مظاهر) وجود هذا الإله على الأرض ، وهم الأنبياء ، وبالتالي ، وعلى حين فترة من الرسل ، وحين ينقطع الوحي السماوي عن الأرض يبدأ الإنسان بالانزياح نحو سلطة الله في الأرض عبر التعلق والتشبث بـ (ممثلي) هذا الإله ، وهم - طبعاً - رجال الدين وعلماءه ، فيقع فريسة لأنياب العمامة أو الثياب الدينية الملونة والمزركشة ، ومن هنا نفهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين يشيرنا إلى إن أكثر وأشد الناس شراً على الأرض هم (العلماء إذا فسدوا) .
والعلماء هنا ليسوا (أينشتاين) أو (الفارابي) أو (أديسون) أو (جابر بن حيان) أو (مليكان) أو (ابن سينا) أو (داروين) ، بل هم الفاسدون من علماء الدين ورجاله من المنغمسين في الأحقاد الطائفية والشعوبية والشوفينية ، أو (وعاظ السلاطين) الذين منحوا سلاطينهم شرعية (مولوية) فوقية كاملة لفعل ما يشاءون وقت ما يشاءون ، وخطورتهم متأتية من قدرتهم الفائقة على أن يبرروا جرائمهم وجرائم سلاطينهم عبر الغطاءات والفضاءات الدينية والخدع و المخاتلات الشرعية ، ويمكن أن يمنحوا أتباعهم القدرة على خلق المبرر الشرعي للجريمة التي تواكب تطلعاتهم ونزعاتهم ، وبالتالي فمن الطبيعي أو المنتظر أن يمتلكوا القدرة على أن يصبحوا سبباً مباشراً وفاعلاً في كراهية الإنسان لله وللأنبياء وللدين ولكل ما يمت للدين والتدين بصلة .
إن طبيعة الإنسان تدل على إنه يبحث عن إلهه على الأرض حين يعجز عن اقتفاء أثره في السماء ، ويبحث عنه في الواقع حين يعجز عن إيجاده في الخيال ، ولذا فهو يرى (الله) في رجل الدين ، ويشعر إنه قريب من الله حين يكون بحضرة (رجل الدين) ، وتكتنفه الروحانية والنشوة والإحساس بالقوة والتألق حين يجالس رجل الدين ، ويشعر بإحساس دافئ بالأمان حين يجلس على (كرسي الاعتراف) بين يدي رجل الدين ، ويمكن لكلمة يقولها الحاخام أو القس أو السيد أو الشيخ أن تصبح (آية) من آيات الله ، وأمراً من أوامر الله ، وهي صورة من صور العبودية أو الربوبية المستحدثة التي حذرنا منها القرآن حين قال :- "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله" 34/ آل عمران .
ومجرد تقبيل يد (رجل أو عالم الدين) فكأنها محاولة لتقبيل (يد) الله بـ (الاستعاضة) ، وهذا ما انتبه له بعض رجال الدين وأخذوا يوظفونه أيّما توظيف لإملاء فراغهم النفسي وإشباع نوازعهم وتحقيق مصالحهم ، وليس من المقنع أو المنطقي أن نتصور بأن رجل الدين (لا يشعر بالنشوة والنصر والكبر) حين يقوم أحد بتقبيل يده ، ولا يمكن أن نتصور بأن رجل الدين لا يشعر لحظة تقبيل اليد بوخزة لذيدة من نشوة التعالي على البشر ، وأي إنسان يسمح بتقبيل يده ويدعي أنه لا يشعر بالتعالي والفخر فهو إما أن يكون (نبياً) من الأنبياء الذين لا تؤثر فيهم هذه الممارسات بحكم تكاملهم النفسي ، وأما أن يكون كاذباً وشيطاناً مدعياً ومتعالياً على البشر وعدواً لهم ولله ، ولا يستحق الإتباع ، بل يستحق الاهانة لأنه يبحث عن نشوته عبر إهانة أبناء جنسه من البشر .
وهذا ليس غريباً ، فنحن نعرف أن الكثير ممن لبسوا رداء الدين – وليس كلهم – لم تدفعهم عوامل محبة الله أو محبة دين الله ، أو محبة خلق الله لارتداء زي علماء ورجال الدين ، بل منهم من دفعهم إحساسهم بالنقص إلى ارتداء هذا الزي بعد أن وجدوا أن الناس تحترم هذا الزي وأهله ، وبعد أن وجدوا أنهم يمكن أن يحصلوا على احترام وتبجيل الناس لهم بعد أن عرفوا بأنهم (فارغين) من المحتوى العلمي والأكاديمي ، وليس لديهم ما يستقطبون به احترام الناس عن جدارة ، فهم يبحثون عن الأضواء ، ومن أجل هذه الأضواء فهم مستعدون لفعل أي شئ .
ولذا نجد إن مرجعاً أو قساً أو حاخاماً أو رجلاً من رجال الدين (مُجدداً أو مصلحاً) يحاول أن ينكل بذوي الزي الديني الرسمي الذين يسمحون للعامة بتقبيل أيديهم ، ويسميهم بـ (أعداء الله) نجده مرغماً أن يدفع ثمن وفاتورة محاولة الإصلاح ، ذلك لأنه يهدم إمبراطورية عمرها آلاف الأعوام من ذلة وعز تقبيل اليد ، ويبدد نشوة رجل الدين المبجل (المعصوم) في رؤية الناس وهم ينحنون بحضرته ليقدموا له مصداق الطاعة والانتماء ، مطمئناً على صدق طاعة الأتباع وديمومة إمكانية احتلابهم وامتصاص مقتنياتهم .
وهو بهذا- أعني به العالم المصلح النـزق الباحث عن المتاعب والتجديد - يخرق المألوف ، ويقفز على أسوار إمبراطوريات الدين المحمية ، وعليه أن يدفع فاتورة هذا التقافز ، كما حدث مع السيد الشهيد (محمد الصدر) في العراق قي فترة ما قبل حلول الألفية الثالثة ، كأنموذج معاصر ومعاش ، حين منع من ممارسة تقبيل يد علماء الدين ، فأقام الدنيا ولم يقعدها ، وكأنه قام بجريمة ثقب طبقة الأوزون .
إن المجتمعات – على مر التأريخ – لم تستنفر طاقاتها للوقوف بوجه رجال الدين (المصلحين والمجددين) دون أن يقف خلف استنفارها رجل من رجال الدين المفسدين ، وليس في المجتمعات أنموذجاً لرجل دين مفسد كان قد استنفر طاقاته للدفاع عن أصل وحقيقة الدين أمام المصلحين والمجددين ، بل نجد النفير العام يحدث عندما يقوم المصلح بضرب (مصالح رجال الدين) ، فيحدث رد الفعل الإنعكاسي لدى رجال الدين المفسدين ، ويحركون رعاعهم وأتباعهم لضرب حركة الإصلاح ، ولو إن أحداً من المصلحين أخذ (يكرز) في البرية ، ويبشر بدين جديد بعيداً عن الخطوط الحمراء لرجال الدين الأباطرة المفسدين لما انتصب الصليب بوجه السيد المسيح (ع) ، ولما أهدي رأس يحيى بن زكريا (ع) إلى بغية من بغايا بني إسرائيل ، ولما حوصر محمد بن عبد الله (ص) في شعب من شعاب مكة وأرغم على الهجرة من محل ولادته ومرتع صباه .
محنة الدين مع المتدينين
بوسعنا أن ننظر إلى العدد الكبير من الأديان ، والى الفرق التي انقسم إليها بنو إسرائيل ، والى كم فرقة انقسم النصارى ، والى كم فرقة انقسم المسلمون ، والى كم طائفة انقسم أبناء الفرقة الواحدة ، وكم حرب شنت عصابات (الهاغاناه) و (البالماخ) و (الشتيرن) و (الآرغون) و (الكاخ) وما قبلها من العصابات اليهودية ضد قرى الأبرياء من الفلسطينيين ، وضد المتدينين الحقيقيين من اليهود باسم الدين والتدين ، وكم حرب وكم إبادة جماعية شنت عصابات (الكوكلوكس كلان) وما قبلها وما بعدها من العصابات المسيحية ضد الزنوج أو المتعاطفين معهم أو ضد المسيحيين المخالفين لأعضاء العصابة بالمبدأ والتوجه ، وكم ضحية – كانت وما زالت – قد أقبرها التراب من ضحايا حروب الفرق الإسلامية . بل وبوسعنا النظر إلى عدد الضحايا الذين سقطوا داخل الفرقة الواحدة حين تحولت الفرق إلى طوائف وتكتلات وأحزاب حين دغدغتها المشاعر والمصالح السياسية وحين لعبت برؤوسها شمول الحكم والسلطان والخلافة .
نحن نفهم إن الأنبياء (عليهم السلام) لم يكن همهم الأول قتال أو إصلاح (الملحدين) ، بل كان همهم الأول هو إصلاح الاعوجاج عند المتدينين ، بل إن أشد معاناة الأنبياء ومحنهم كانت تكمن في خطورة التصادم مع المتدينين ومحاولة تفكيك أفكارهم وموروثاتهم المزيفة والخاطئة والتي سحبت المجتمع إلى الهاوية .
فللكافرين (دين) كما إن للأنبياء (دين) يمكننا أن نفهم ذلك عبر الخطاب القرآني المقدس ((لكم دينكم ولي دين)) .
إن كل ما حدث من صراع هو صراع (ديني – ديني) أو بتعبير أدق هو صراع (سياسي – ديني) وليس صراعاً بين الأنبياء والملاحدة الذين لا يؤمنون أصلاً بوجود الله ، وهذا بالضبط ما أشار إليه الدكتور (علي شريعتي) في كتابه (دين ضد الدين) .
وهذا ما نتلمسه في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) التي دفع فيها أتباعه لمقاتلة معاوية وأصحابه ، وإرجاء أو ترك أو تأجيل مقاتلة (الخوارج) ، لسبب مهم جداً اختصره أمير المؤمنين بقوله :- (فإن من طلب الباطل فأصابه ليس كمن طلب الحق فأخطأه) ، ومعناه إن معاوية وأصحابه طلبوا الباطل ، فأصابوه ، واتخذوه ديناً وشريعة ومنهجاً ، وتمسكوا به ، واستقتلوا في الدفاع عنه ، وهم جادّون بنشر دينهم الباطل بين أفراد المجتمع ، وبالتالي فمعالجتهم عبر الدليل والحوار والحكمة والموعظة الحسنة لا يمكن أن تجدي نفعاً ، رغم إن أمير المؤمنين كان يؤمن بأن أبسط فوائد الحوار هو أن تشعر أخيراً أن لا جدوى من الحوار ، وهذا ما دفعه (ع) لمراسلة معاوية ودحض إدعاءاته وإلزامه الحجج .
أما الخوارج فقد طلبوا الحق فأخطئوه ، وهم بالتالي يبحثون عنه ، ويمكن لأي دليل واضح ومقنع أن يأخذ بأيديهم نحو جادة الحق والصواب ، وعليه فيمكن للحوار أن يؤثر فيهم ، ويمكن للحجة أن تفعل فيهم مفعولها ، ولذا نجد التأريخ يحدثنا عن انقلابات كثيرة حدثت بين صفوف الخوارج مع كل (حوارية) تدور بين الخوارج وأحد موفدي علي بن أبي طالب (ع) ، وأهمها حوار الخوارج مع ابن عباس (رض) ، وهذا ما لم يحدث مع معاوية وجيشه ، لسبب بسيط هو إن الخوارج لم تكن لهم رموزهم وأساطينهم الدينية الفاسدة التي تحركهم ، وليس لهم شعار ديني يتكئون عليه ، بل كل ما كان يضمهم هو القيادات العسكرية التي تدعوا لحركة الإصلاح والعودة إلى أصل الدين برغم خطأهم في فهم ما يدور من معطيات ، بينما نجد إن معاوية كان يمثل رمزاً دينياً لدى أهل الشام ، وهو بزعمه - وزعمهم - كاتب الوحي ، وهو (صاحب رسول الله) وقد اختصه رسول الله (ص) بمقولة (اللهم اجعل معاوية هادياً مهدياً) كما يدعي البعض من رواة الحديث من وعاظ السلاطين ، وشعاره (قميص عثمان) والمطالبة بدمه ، لذا فإن معاوية يمتلك القدرة على تحريك عواطف أهل الشام واستنفار وعيهم الديني ، فهو المحرك لذهنية المتلقي البسيط المتدين والمنُشّط لقابليته على التلقي ، وقد نجد شاعر الشام يعبر عن انزياحه نحو مرجعيته الدينية الفاسدة حين يقول (وقلتم علي أمير المؤمنين ...فقلنا رضينا ابن هند رضينا) .
فالعملية إذاً تتعلق بوجود مرجع بإزاء مرجع ، وأمير مؤمنين بإزاء أمير مؤمنين ، وإله بإزاء إله ونبي ووصي بإزاء نبي ووصي ، وسلطة بإزاء سلطة ، ففي الوقت الذي كانت فيه فرقة تدافع عن أصل الدين ، كانت هناك - بإزائها - فرقة تدافع عن (تسييس الدين) وانحرافه ، وهذا ينطبق على أسس تعامل الأنبياء مع الملاحدة والمتدينين ، وهذا ما يجعلنا أمام فهم واضح للعداء بين موسى (ع) وبلعام بن باعوراء ، فالملاحدة لا مرجعية دينية لهم ، أما المتدينون الفاسدون فلهم مرجعياتهم ومحركات مشاعرهم وآليات لها القدرة على تسيير عقولهم أو فرملتها ، وربما تعطيلها بالكامل .
راسم المرواني
[email protected]
08-أيار-2021
24-أيلول-2008 | |
13-أيلول-2008 | |
02-أيلول-2008 | |
27-آب-2008 | |
08-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |