كتاب / صناعة الآلهة عند الموحدين / الحلقة 10 / 11
2008-09-13
من الواضح إن الدين بمعناه الحقيقي ، جاء ليتعامل مع عنصرين مهمين من عناصر المجتمع الثلاثة الأصلية وهي (الإنسان) والطبيعة ، وبذلك فهو يمتلك القدرة على التغيير لأنه يتعامل مع النفس الإنسانية على إنها العنصر الرئيس في عملية التغيير (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، في نفس الوقت الذي يقوم به بتغيير الوعي الجمعي ويحدد مسار المجتمع نحو التكامل .
وهنا نجد إن من غير المنصف أن نحكم على عبارة (الدين أفيون الشعوب) بمعناها المجرد ، وليس من المنصف أن نثار وننتفض لمجرد ورود كلمة (الدين) ، فعلينا أولاً أن نفهم معنى الدين الوارد في أصل العبارة ، فإذا كان المقصود بالدين هنا هو ما يحمله المتدينين الفاسدين من آراء متمسحة بعباءة الدين ، وإذا كان الدين المشار إليه هو دين الصمت والخنوع والإنسياق وراء موائد السلاطين ، فاللّهم (نعم) ، وأكرم بها عبارة سليمة ، وليس من المنطق أن نرفض هذه العبارة .
فالدين – بمعناه المتشظي التجاري العام والمطروح حالياً – يمثل أكبر مشكلة من مشاكل انتشار الأفيون في العالم ، بل هو أخطر من أطنان عصارة نبتة (الخشخاش) السيئة السمعة والصيت على المجتمع ، والتي تسللت الى دهاليز (الحلال والحرام) حتى باتت مستخدمة من قبل بعض رجال وعلماء الدين للترويح عن أنفسهم من هموم المجتمع ، وتستخدمه بعض المخابرات لإيقاع عملائها في شراك وبراثن الإدمان ، ووضعهم في متاهة الـلاعودة ، وبالتالي فالدين بمعناه السلبي والتجاري المسيّس هو أخطر من كل أسلحة الرعب والإرهاب والفتك في المجتمع .
فمن الدين والمتدينين الفاسدين توارثنا المعنى السيئ لمفهوم (ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر) وأذعنّا للسلاطين ورضينا أن نكون عبيداً لهم ندفع دمائنا ودماء أبنائنا قرابين لولائمهم المكتنزة بالدسم والمتكونة من خليط من مخوخ الطير والعسل الشهد ، والتي تفوق – غالباً – المائدة التي أنزلها الله سبحانه على العذراء مريم (ع) ، والتي غالباً ما (يبصبص) عليها الجياع ، ويسيل لها لعابهم ، ويُذادون عنها كما تُذاد القطط عن موائد الناس .
ومن الدين الفاسد أخذنا ثقافة (قتل الرجال وإحراق البهائم والأشجار وهدم البيوت) وسبي الذراري وبيع العذارى في سوق النخاسة وتحميل النساء القواعد في البيوت عواقب جرائم أو متبنيات الرجال ، وسوق الأطفال والنساء والشيوخ سبايا لجريمة أو طموح لم يتناغموا معه .
ومن الدين السلبي رسخت في أذهاننا فكرة إن (الصبر مفتاح الفرج) وأنه (ما عُبدَ الله بشئ أفضل من انتظار الفرج) ، وأن كل (من صبر ظفر) وأن كل (من لج كفر ) وعليه ، أصبح لزاماً علينا أن نصبر ونصبر (حتى يمل الصبر منّا) لنثبت لأنفسنا بأننا نستحق أن ننال الجنة بصبرنا وعدم انفلاتنا ، وكأننا مخلوقات (صبرية) ملزمة بتحمل كل شئ وأهمها الصبر على ظلم السلاطين ، والتفاني بخدمتهم ، ولعق أحذيتهم .
ومن الدين والمتدينين الخانعين تأتي (التقية) بمعناها الخانع والخاضع ، والتي كلفت أصحاب الحق ضريبة من دمائهم ومعتقداتهم وشعائرهم ، حتى أصبحت التقية (ديننا ودين آبائنا) ، وليس من حقنا أن نختار طريق الثورة والحرية والخلاص ، وأفهمونا أن (من لا تقية له ، لا دين له) وعششت في نفوسنا وعقولنا فكرة أن الصبر على جور الجائرين هو أعلى مستويات الإيمان حتى نسينا طعم ورائحة ولون الثورة .
ومن الدين والمتدينين المنحرفين توارثنا – بشكل سلبي - ضرورة تقديم الخد الأيمن لمن يصفعنا على الخد الأيسر وربما تقبيل حذاءه ، متناسين المعنى الثوري لهذه العبارة والمراد منها توفير الجهد والطاقة لضرب أعداء الإنسانية دون تشتيت القدرات في الخلافات الشخصية الهابطة ، ولكن الأغبياء أو الأغنياء أفهمونا أننا يجب أن نركن إلى الدعة والصبر والتحمل إزاء ما نعانيه من اعتداءات كي نثبت بأننا نستحق لقب (ابناء الله) من جهة ، ولكي يسهل على المجرمين أن يمروا بمشاريعهم ويتخذون عباد الله خولاً من جهة أخرى .
ومن الدين والمتدينين شربنا كؤوس الخدر بانتظار دولة (المخلِّص) ، ومن الدين والتدين ورثنا إن (كل راية قبل راية الإمام المهدي فهي مهزومة) ومن الدين والمتدينين لبسنا ثياب الذل والخنوع والانتظار المقيت تحت ذريعة إن (الأرض يرثها عبادي الصالحون) ، ومن الدين والمتدينين رضينا بخدعة (التمحيص) .
وأشد الانهيارات خطورة على المجتمع هو مصطلح (المصلحة) الذي يتاجر به البعض ليفهمونا أنهم يملكون حكمة الله في معرفة مصلحة المجتمع ، في الوقت الذي يخرسون فيه عن إخبارنا بأن المصلحة التي يشيرون إليها إنما هي (مصلحتهم) أو (مصلحة) مؤسساتهم أو أسيادهم أو سلاطينهم أو عصاباتهم ،حتى لعبت بعقولنا أشد من لعب الشمول ،وأسكرتنا بخمر الرضوخ إلى سلطة الكهنوت ، ومنعتنا أن نتقدم خطوة إلى الأمام .
ومن الدين والمتدينين القابعين تحت أحذية السلاطين جاءتنا الفكرة المقيتة والمحرفة في (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) ، فأنفقنا عقوداً وعهوداً تحت نير السلطة المتمثلة بتسمية أولي الأمر .
إن المفاهيم أعلاه تمثل أرقى آليات البحث عن الخلاص ، ولكن ولاة الأمر والدين استطاعوا أن يحرفوا معانيها السامية نحو المعاني الكفيلة بسلب إنسانية وكرامة الإنسان ، وحصرته في زاوية (الرضا بالمقسوم) ، ولم يجرؤ رجال الدين وعلمائه – إلاّ ما ندر منهم - على أن يفهموا المجتمع المعنى الإيجابي لهذه المفاهيم ، ولم يكلف علماء السوء والدين الفاسد أنفسهم أن يفهموا الناس معنى الثورة والحرية ، ولم يكلف أحد من علمائنا نفسه ليشرح لنا بأن الغيبتين (الصغرى والكبرى) هما غيبتان مباركتان مجددتان واعيتان ثوريتان إيجابيتان ، ولم ينبهونا إلى إن (الغيبة) بمعناها السلبي والناقص تعني (الخيبة) ، ولم يشيروا وعينا إلى إن الانتظار الذي تعلّمناه منهم لا يعني سوى موت الأحياء أو قتل الحياة .
ولم يُفهمونا أن (التقيـّة) هي حق من حقوقنا ، وليست واجباً علينا ، بل جعلوها علينا فرضاً وحتماً محتوماً ، وهددوا كل من لا يعمل بها بمصير أشد من مصير قوم (عاد) و(ثمود).
أما من تجرأ من علماء ورجال الدين إلى التجديد وتغيير أسلوبية الخطاب مع المجتمع ووضع هذه المفاهيم ضمن معانيها الإيجابية الرائعة والحقيقية فكان مآله إلى التنكيل والتشهير وإثارة الشبهات والحصار واستخدام الرعاع لضربه بكل الأسلحة .
فكم وضع أباطرة التدين وتجار الدين من عقبات أمام المفكرين ، وكم نهش الحاخامات من لحوم المجددين ، وكم دفع القساوسة بالبسطاء ليقتصوا من رواد التغيير ، وكم جريمة اقترف رجال الدين وعلماءه الفاسدون بحق المثقفين تحت شعار المحافظة على (أصل الدين) ، وكم وضع (الكلاسيكيّون) بطريق المصلحين من العثرات والأسلاك الشائكة والشبهات ، وكم أنفقوا من مال وجهد في سبيل تسقيطهم أو إسقاطهم ، كل هذا لأنهم حاولوا أن يخرجوا الناس من دائرة الأفيون .
وغريب – كأنموذج معاصر - أن يكلف بعض علماء الدين أنفسهم عناء سحب كتب فتاواهم (رسائلهم العملية التي تتضمن فتاوى العبادات والمعاملات) من السوق ليضيفوا لها (مسألة) تخالف رأي عالم جاء بفتوى ثائرة خرس عنها الآخرون ، فقط ليخالفوه في فتواه التي جبنوا أن يفتوا – من قبل - بها خشية ثورة العامة ، وكأنهم كتبوا رسائلهم الفقهية العملية على وفق رغبات العامة ، غير آبهين بكمية المال المنفق على إعادة طباعة رسائلهم العملية والتي يمكن لها أن تستنقذ عشرات العوائل من غائلة الفقر والتمزق والضياع .
ومن الدين والتدين الفاسدين جاءت الفكرة المشوشة والمشوهة لمعنى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) والتي اتخذها البعض ذريعة للقتل المجاني ، ومن الدين والمتدينين الفاسدين جاءت فكرة التهجير المقيت تحت ذريعة (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) ، ومن الدين والتدين والمتدينين الفاسدين وصلتنا فكرة (جواز قتل الأبرياء إذا تمترس بهم الأعداء) ، ومن الدين والتدين والمتدينين المنحرفين والمحرِّفين غطت سماء إنسانيتنا فتاوى قتل الآخر تحت ذرائع التكفير ، ومن تأثير فتاوى المتدينين السياسيين السيئين سالت دماء الأطفال والنساء في المدارس والأسواق ، ومن الدين والتدين والمتدينين خرجت إلينا فرق الموت والتهجير ، والتعذيب ، والقتل ، وإباحة الأعراض ، واستهداف الأموال ، واستنـزاف الطاقات ، وانتهاك الحرمات .
إن ما يعطي الأهلية والمصداقية لعبارة (الدين أفيون الشعوب) إن هناك كمـّاً هائلاً من الجرائم تدور في فلك الدين (المنحرف) أو تنبثق عنه ، وتجري تحت ذرائع فتاوى المتدينين ، وتقدم نفسها على إنها تمتلك أحقيتها على الصعيد الشرعي ، وتقدم بين يديها الكثير من الآيات ، والتفاسير ، والتأويلات ، والكثير من الأحاديث والنصوص ، ودعائمها التاريخية ، وتجري عمليات (الذبح) في صالات لا تخلو من راية أو لوحة مكتوب عليها (محمد رسول الله) أو ينتصب فيها الصليب بنوعيه (الطبيعي والمعقوف) أو تعلّق على جدرانها نجمة داود السداسية ، أو تمر حروب العالم تحت رعاية الصليب ، وتزهق أرواح الملايين تحت راية الصليب المعقوف ، وتنتهك الحرمات وتتطاير الأشلاء بمباركة الكنيسة ، وتتحول المساجد إلى معامل لتفخيخ السيارات ، ونشر الموت ، وإفشاء الرذيلة ، ولكن المشكلة الأعظم تبقى لتدور في خانة (الغاية تبرر الوسيلة) التي (يشتمها) ويستنكرها ويستهجنها المتدينون ولكنهم (يتعبدون بها) حرفياً منذ أول انقلاب عسكري في خارطة الأديان السياسية وحتى يومنا المغبر هذا.
كتاب / صناعة الآلهة عند الموحدين / الحلقة الحادية عشرة
ملاحظة / موضوع الكتاب لا يعطي أي مسوغ لذكر المصادر
الله والقرآن والدين والأنبياء والرسالات
يزعم المتدينون أنهم يحملون لواء ورسالة ديانات إصلاحية عالمية ، وهذا هو المفترض بكل المتدينين دون استثناء ، والدين الحقيقي يرى أن من أولى واجباته هو تحقيق العولمة على وفق المبادئ والمتبنيات الإنسانية التي تكفل تحويل العالم إلى قرية صغيرة مع احتفاظ كل بيت في هذه القرية بخصوصياته وموروثاته التي يحبها ويتبناها ودون استخدام لغة العنف والقوة لمصادرة الآخر وتحويل العالم إلى عمالة رخيصة لتحقيق مفردات أجندة الاستثمارات التي تتأبطها كبريات الشركات والمافيات والأنظمة في العالم .
ومن أجل تحقيق هذه المهمة الإنسانية ينبغي على المتدينين أن يشعروا بأن مسؤوليتهم لا تحدها حدود ، وإن عليهم أن يبذلوا جهداً لا تؤطره الأطر والمحدودية ، وعليهم أن يرسموا أجمل الصور ويقدموا أروع صور الانتماء للإنسانية كي يدغدغوا مشاعر الذين لا يريدون أن ينضمّوا إلى ركب الحب والسلام واحترام كرامة الإنسان ، ربما لأنهم كالخوارج ، يبحثون عن الحق ويطلبونه ولكن لا يعرفون الطريق إليه .
ولكن من غير الممكن – أو من الصعب جداً - على المسلمين المتدينين الساعين نحو الحب والسلام أن يقنعوا المجتمعين العربي و الغربي والباحثين عن الطريق إلى الحب والعدل بأن الجماعات التي تقوم بإزهاق الأرواح في البلدان الإسلامية هي ليست من الإسلام في شئ ، وهنا يحضرني قول لأحد المراجع المسلمين الشيعة المجددين الذي تآمر عليه مراجع الصمت والخنوع والدكاكين الآسنة واستعانوا بسلطة القتل لتصفيته مع ولدية ومطاردة أتباعه بعد قتله ، يحضرني قوله الرائع - الذي بثه لي شخصياً في بيته في النجف الأشرف - حين قال (من أجل أن نقنع الغرب بالدخول للإسلام ، ينبغي علينا أن نقنعهم أولاً بأننا لسنا مسلمين ، ولا نمثل حقيقة الإسلام) .
ومن الصعب على معتنق المسيحية أن يقنع المسلمين بأن الهجمات الصليبية لا تمثل الصليب ، ومن المتعذر عليه أن يقنع الآخرين بأن عصابات الكوكلوكس كلان هي ليست من المسيحية في شئ ، ومن الصعب عليه أن يقنع الباحثين عن الخلاص بأن الحروب العالمية التي أزهقت أرواح الملايين لمن تكن تحمل مسحة القداسة من قبل رجال الدين المسيحيين وإنها لم تكن ترفع شعارات نصرة الكنيسة .
ومن الصعب على اليهود الساعين نحو المحبة والسلام والمبغضين للحركة الصهيونية أن يقنعوا العالم بأن ما تقوم به حكومة إسرائيل لا يمثل حقيقة اليهودية التي أرسى دعائمها موسى (ع) وأسس لها الآلاف من أنبياء بني إسرائيل ، ومن غير الممكن أن يقنعوا الأجيال المقبلة أن عصابات الآرغون والشتيرن والبالماخ وغيرها من العصابات السياسية المجرمة لا تمثل الديانة اليهودية .
ومن الصعوبة بمكان أن نقنع المواطن الغربي إن حجاب المرأة هو أمر (تشريفي) قبل أن يكون أمراً (تكليفياً) وإن ما تتبعه بعض الجماعات الإسلامية من سلوك هجين في فرض الحجاب عبر القتل والحدود وقطع الرؤوس هو سلوك لم ينـزل الله به من سلطان ، ولم يرد في أدبيات الأنبياء والأوصياء والصحابة والصالحين الحقيقيين .
ومن المتعب وغير المجدي أن نقنع المتدينين الجدد – بشتى أديانهم - بأنهم يدورون في فلك خارج المجموعة الشمسية الدينية الحقيقية ، وإن القوانين الفيزيائية التي تحكمهم هي ليست معروفة في أصل القوانين الفيزيائية الأرضية ، ولذا ، فالوصول إلى نقطة التطابق بين الدين الحقيقي ومعطيات الدين الذي يؤمن به هؤلاء مسألة محكومة بالـ (لا جدوى) ، وهذه مشكلة موغلة في القدم .
المتدينون الفاسدون والأغبياء - الآن - يأخذون دينهم من فقه (الحاخامات المتطرفين) و(القساوسة السياسيين) و(الشيوخ الإرهابيين) ومن شريعة (السيد الخامل) ومن فتاوى (الوالد والوالدة) وبهذا فهم أشبه ما يكونوا بأنموذج قوم إبراهيم (ع) حين ثاروا بوجه نبيهم قائلين :- (وجدنا آبائنا لها عاكفين) ، وبهذا فالمنتظر أن (لا) يخلع الناس رداء تدينهم بسهولة وعفوية تحت ذريعة الإصلاح إلا بجهد جهيد ، وبنقاء ينبعث من قلب الملقي المتدين ليدخل دون استئذان في قلب المتلقي غير المتدين الذي يحمل صبغة الشك من مصداقية الشرع بسبب سوء سيرة المتشرعة أو (المشترعة) كما يحلو للعالم اللغوي الشيخ محمد جعفر الكرباسي النجفي تسميتهم).
رغبة المصلحين الحقيقيين بين فكي المافيات الدينية
اسمع لقول الإمام الحسين (ع) مبرراً خروجه مع عصبة قليلة من أصحابه والنخبة بإزاء الكم الهائل من جيوش عبيد السلطة والمال حين يبرر خروجه قائلاً :- إنما خرجت لطلب الإصلاح .
فانظر إلى وظيفة عالم أو رجل الدين الإنساني الحقيقي – مغمضين عن كون الإمام الحسين من المعصومين - ثم انظر إلى نتائج طلبه للإصلاح وكيف وقف المتدينون الفاسدون وعبيد الدنيا ضد مشروعه الإنساني .
وثمة حقيقة واضحة مفادها إنه ليس بوسع أحد أن يسحب البساط - كاملاً - من تحت أقدام رجال الدين وعلمائه الفاسدين ، لأنهم يمتلكون الطاقة والقدرة والمال والرجال والفراغ والقابلية على تسقيط الآخر أولاً ، ولأنهم رسخوا إمبراطورياتهم الفكرية في الوعي الجمعي المجتمعي ، حتى بات المساس برجل الدين كأنه مساس بساحة الله المقدسة ، إلاّ أن تقوم مؤسسة مالية ثرية متكاملة لشن حملة ضد العالم الفلاني أو القس الفلاني أو الحاخام الفلاني فإنها ستنجح دون توقع للإخفاق لأنها تمتلك القدرة على المناورة والنشر والانتشار ، وحري بنا أن نفهم بأنه قد أصبح لصق (العصمة) برجل الدين أو عالم الدين من أسهل المفردات المتداولة ، حتى إن البعض يمكن أن يغفر لك خطيئة الموبقات ، ولكنه لن يسمح لنفسه أو لن تسمح له نفسه أن يغفر لك جريمة الرد على رجل الدين أو مناقشته أو تخطئته أو تجريحه ، وهذا أحد دلالات كون رجل الدين يمتلك قدسية (الله) التي لا يمكن النقاش فيها ، ولا يمكن الرد عليها .
وغريب إن البعض من المتدينين لا يُثار من مناقشة كتابه السماوي ، ولا ينتفض لتجريح المفسرين بمعاني النصوص ، ولا يغضب من إدعاء البعض بتحريف كتابه ، بقدر انتفاضه من قول القائل بأن (فلاناً) الذي تتيعونه وتقدسونه هو ليس أهلاً للإتباع وليس مقدساً كما تزعمون ، ونجد هذه العلاقة واضحة لدى المسلمين ، فقد لا يزعجهم القول بتحريف القرآن بقدر ما يزعجهم القول أو التجريح بـ (الصحاح الستة) ، وقد يُسقط – البعض من الإمعات والرعاع - عليك جداراً أو يغرقك في النهر أو يلقيك من شاهق إذا شككت بهذه الصحاح أو ناقشت أو طعنت بصحتها وقدسيتها ، وقد يصادفك من يضع هذه الصحاح في مصاف قدسية القرآن ، أو يعتبرها أكثر قدسية وقداسة ومصداقية من القرآن ، وهذا ينجر على بقية (صحاح) المسلمين من مختلف الطوائف والملل والفرق ، وكذلك نصوص أبناء بقية الأديان وطوائفهم .
فقد ينسل إلى أذنيك قول عجيب ، يتلوه عليك البعض ممن يدّعون بأن الإمام الحجة المهدي المنتظر (عجل الله ظهوره المبارك) كان قد كتب – بخط يده - هامشاً على كتاب (الكافي) يقول فيه (الكافي ...كافٍ لشيعتنا) ، وعليه فالحذر كل الحذر من محاولة التجريح أو التشريح بهذا الكتاب المقدس ، وهذا كله غيض من فيض من الكتب المقدسة التي يعتقد البعض إنها (لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ولا عن يمينها ولا عن شمالها) وبالتالي فهي أقدس عندهم من القرآن نفسه ، على الأقل لأن القرآن وقع فيه – بزعمهم – التحريف ، ولأنه خضع واقعاً للجمع بغير التسلسل (النـزولي) الزمني الأصلي .
وهنا نجد نوعاً من أنواع ابتكار قرآن جديد بإزاء القرآن الذي نزل به الوحي المبارك على قلب الرسول محمد (ص) ، متنبهين إلى أن هذا الكتاب – الجديد المبتكر- هو محض كتاب سياسي يروج لسلطة السلاطين أو يبرر لمشروع تجاري أو طائفي أو قبلي .
وهنا نجد أنفسنا مندهشين أمام آلية التعامل المقدس مع كل ما يمكن تجريحه ، بينما لا يصار إلى وضع الأسلاك الشائكة أمام المتخرصين على المقدس الحقيقي ، وهذا بحقيقته ناتج عرضي لابتعاد الناس عن أصل التدين بسبب سوء تصرف وتلقين المتدينين للعامة والبسطاء والأغبياء ، ورغبة أساطين الدين والتدين الفاسدين في توظيف الدين والبسطاء من المتدينين لأغراضهم الدنيوية ، أو رضا البسطاء والأغبياء في أن يكونوا مجرد إمعات، فانظر إلى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) واصفاً المسلمين في آخر الزمان حين يصفهم قائلاً :- (دينهم دنانيرهم ، وقبلتهم نسائهم ، يركعون للدرهم ، ويسجدون للرغيف ، حيارى ، سكارى ، لا يهود ، ولا نصارى) ، وهذا معناه تحول شعائر الدين والتدين إلى (عادة) وليس (عبادة) .
وربما تتحول هذه الشعائر إلى نوع من أنواع (إسقاط الفرض) أو تتحول إلى شكل من أشكال الرياضات التي تؤهل الإنسان لكسب معاشه ، وتمنحه القدرة على مواكبة روح العصر واستحصال خبز العيال ، أو وسيلة من وسائل الرياء ، أو استرضاء الجماعة أو كسب ودهم أو اختراقهم أو امتصاصهم .
وهذا قريب من آلية فتح (الدكاكين) الدينية ، وتحويلها إلى وسيلة للمتاجرة أو الترويج لبضاعة فاسدة أو كاسدة مخلوطة مع أثمن أنواع البضائع في الوجود وهي (الدين الحقيقي) الذي يراد منه صناعة الإنسان المتكامل المتناغم مع الحب والشراكة الرائعة في الوجود ، ومن خلال هذه الدكاكين يتم تسويق الأفكار والرؤى التي ينأى الدين بنفسه عنها ، ويشعر بالحرج والاختناق من مصاحبتها .
المتدينون المتسلطون السلبيون المتاجرون بالدين ، يريدون زج الدين بأدق تفاصيل الحياة ، ليس لأن الدين عندهم يستحق الدخول إلى أدق تفاصيل الحياة ، أبداً ، ولكنهم يريدون أن يزجوا بأنفسهم - مع الدين – إلى مفردات وخصوصيات أتباعهم ، ويدخلوا لأدق تفاصيل حياة الإنسان ، محاولين بذلك أن يمتطوا صهوة الإنسان – بعد تحويله لأداة للركوب - ويركلوه بأرجلهم ليحملهم إلى المسافات البعيدة ، وخصوصاً تلك المسافات (المفازة) التي يحتاجون فيها لمن يروج لهم أفكارهم ، أو يدعم مشاريعهم ، أو ينقل الحجر ليبني لهم إمبراطورياتهم ، ويحول حياتهم الزاهدة (ظاهراً) إلى حياة مترفة (باطناً) ، ويحول نسائهم المقدسات (المهذبات) إلى نساء (ذهبيات) كأنهن البيض المكنون من الترف والرغد والرفاه ، أو يجندونه في زمن انفلات وتصاعد خلافاتهم ، وبالتالي ، فالإنسان لديهم تابع ، بقرة حلوب ، حمار للركوب ، وجدار يتمترسون خلفه حين يتصاعد غبار النقاش والرد ، أو حين تتهدد إمبراطورياتهم أمام زحف المصلحين أو أمام تحرشات الحاسدين والمنافسين .
المخلصون القلة من علماء ورجال الدين والمتدينين ، يعيشون بين الأعم الأغلب من التوابع محنة الاغتراب ، فالأعم الأغلب - الآن – من رجال الدين موزعون بين (حاخام متصهين) أو (قس متأمرك) أو (شيخ طائفي) أو (سيد !!!) يبني مؤسساته من عصارة جهد المساكين ، هذا بالإضافة إلى فواتير متراكمة من مشاريع يدفعها البسطاء من أمنهم ومستقبلهم ، ويسددون قيمتها من مقتنيات أعمارهم ، ويساقون إلى المقابر والإبادة الجماعية على مرأى ومسمع من رجال الدين وعلمائه .
وغالباً ما يصاب المخلصون من علماء ورجال الدين والمتدينين بالإحباط نتيجة اغترابهم ، ونتيجة حصرهم في زاوية التقهقر ، ليختاروا أحد الطريقين المؤديين إلى الانفلات والخلاص ، فإما أن يختاروا طريق (الانعزال) أو (الاعتزال) ، وأما أن يستنهضوا همتهم للوقوف بوجه عصابات التدين ، ويواجهوا المافيا المعششة في عقول الناس ، ويواجهوا الكم الهائل من الهمج الرعاع الذين أشار إليهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في تصنيفه للناس ، حيث أشار إلى انقسام الناس إلى ثلاث فئات ، فمنهم (عالم رباني) بصفة المفرد ، ومنهم (متعلم على سبيل النجاة) بصفة المفرد ، ولكنه حين وصل إلى الفئة أو الصنف الثالث - وهم (الهمج الرعاع) - فانه أشار إليهم بصفة الجمع وليس بصفة المفرد .
المراجع والشيوخ والقساوسة والحاخامات وغيرهم من رجال الدين المصلحين المجددين ينتظرون دائماً أن يدفعوا ثمن تصديهم للفساد الديني من أرواحهم أو مكانتهم وكأنهم يمارسون دور الأنبياء في بعثتهم ، أوكأنهم يأتون بدين جديد لا يعرفه المتدينون ، ولن تتحرك ضدهم مشاعر الهمج الرعاع إلا بإشارات من رجال الدين الفاسدين ، وبذلك تشتغل عليهم المطارق ، وتوجه نحوهم جهود التنكيل ، وقد تستثار السلطة ضدهم عبر تسريبات معلوماتية ، وغالباً ما تكون السلطة على خط واحد مع المتدينين المنحرفين لتطابق الأجندات ، فيقع المجددون فرائس للمؤامرات ، وقد تتم تصفيتهم في آخر الأمر ، وبذلك تتوجه المطارق نحو أتباعهم ، كوسيلة من وسائل قتل روح التجديد التي يمكن أن تفضح زيف السلطة ورجال دينها .
وقد يختار المجددون والمصلحون الطريق الأقرع ، فيحتلسون ويقبعون في بيوتهم ، ويغلقون عليهم أبوابهم ، وتطمرهم طامة اليأس من جدوى التصحيح ، وبذلك يقعون ضمن قائمة الذين خسروا الدنيا وربما الآخرة أيضاً.
إن الكثير من أساليب الاعتزال قد تؤدي إلى تشجيع أساطين الدين المنحرف على ترسيخ أفكارهم ، وتدعيم حصونهم ، ونشر متبنياتهم ، مستغلين بذلك غياب الرقيب وقبول المتلقين البسطاء الجاهلين لكل ما يصدر عن أعضاء جمعية (استغلال الدين لأغراض الدنيا) ، مع فهمنا لوجود أنواع من الاعتزال المدروس والمحسوب والمقنّن الذي يمتلك القدرة على الفاعلية في المجتمع ، والذي لا يحمل صفة أو صبغة الهروب ، بل يحمل صفة الكُمون وانتظار الفرصة في بدء الثورة الإصلاحية .
راسم المرواني
[email protected]
08-أيار-2021
24-أيلول-2008 | |
13-أيلول-2008 | |
02-أيلول-2008 | |
27-آب-2008 | |
08-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |