تاريخ التعذيب في الإسلام 3
2006-04-08
القسم الثاني
المقتربات الدينية للتعذيب
التعذيب في الأصول هو أحد أشكال القمع الاجتماعي الذي تسلطه الطبقات على بعضها، فهو محكوم بنفس الدوافع إلى القمع، ولو أنه ليس جزءاً ضرورياً منه لأن القمع تتعدد أشكاله تبعاً للظروف والهيئات والأفراد، والتعذيب صدر ويصدر عن فئات وطبقات شتى ومورس ويمارس في أطوار تاريخية ومواقع جغرافية شتى ـ كما تختلط دوافعه الاجتماعية بملابسات نفسية وإيديولوجية يمكن أن تعطيه صوراً ودرجات متفاوتة تتراوح ما بين التعذيب الهمجي البحت، الذي ينصب على كرامة الضحية أو شرفه الشخصي أو يطال معتنقاته الخاصة به.
والتعذيب في الإسلام لا يخرج عن هذا التصميم، أي أنه ليس ممارسة منعزلة خاضعة لبواعث مخصوصة ـ فوق تأريخية، لكنه يتميز بإطاريته الناجمة عن العلاقة بالدين، ولا بد بالتالي من أن يبعث على تساؤلات تحمل على النظر و التوقف، من قبيل: هل صدر الجلادون المسلمون في اقترافاتهم عن مسلك ديني؟ وهل يمكن القول أن إيمان الجلادين يسجل لدى الاقتراف درجة ما من الهبوط تضعه في مستوى أدنى من الإيمان الشعبي الخاضع للفطرة؟ وهل، أخيراً، يتعارض الدين بما هو دين مع أخلاقية التعذيب؟
ومع أن هذه الأسئلة تبدو خارجة عن سياق الوعي العام الذي اعتاد على اعتبار الدين نقيضاً للعدوان والنظر إلى الجلادين باعتبارهم عصاة أو فساقاً لا يخافون الله كما يقال في اللغة الشعبية، فإن طرحها والإجابة عليها قد يؤديان بنا إلى الخروج بنتائج مغايرة. وأنا أشعر من جهتي أن التبسيط الشعبي في مسألة شائكة كهذه يقوم على إغفال التاريخ الشخصي للأديان، فضلاً عن الجهل بالجذور البعيدة للسلوك الديني المحكوم بعوامل معقدة إيديولوجية ونفسية وما أشبه. وسنسعى لهذا الغرض إلى البدء من الجذور لفحصها ثم نصعد منها إلى التاريخ الشخصي للأديان في إضاءة موجزة نأمل أن تنتقل بنا من بساطة الظاهرة إلى بعض الحقائق الضرورية.
اقترن الدين منذ بدايته بالقربان، ويتبوأ هذا المنسك مكانة خاصة في مختلف الأديان: كما ظهر في بعض المذاهب الشبه ـ دينية ومنها المذهب الكونفوشي، وهو ليس ديناً في الأصل لأنه لا يرتبط بمعبود و ينكر وجود الكائنات الروحية، ولكن الكونفوشية تدينت بقدسية مؤسسها الذي كان يعتقد بوجود شيء من التذاهن بينه وبين السماء، وأخذت هنا بالقرينة على أوسع نطاق.
وكان القربان في الطور البدائي مقصوراً على الحيوانات. ثم ظهرت مع الانتقال إلى المجتمع الطبقي ـ طور الحضارة ـ سنة ذبح الإنسان التي زاولتها مختلف الأديان في الشرق والغرب. وكان الذبح يشمل أحياناً عبيد وجواري الملك المقدس لكي يدفنوا معه حتى يحين يوم البعث ويعود الملك إلى الحياة فيعود معه عبيده ليواصلوا خدمته كما كان حالهم في الحياة الدنيا. ومن القرابين البشرية المعتادة عرائس الماء وهن فتيات جميلات كان يلقى بهن في الأنهار الهائجة لتسكين غضبها. وكانت متبعة في مصر والصين. وكان ذبح الإنسان معمولاً به في الديانة المصرية القديمة حتى زمان المصلح العظيم أخناتون الذي أمر بإلغائه واستبدل به قرابين من الحيوانات بينما استمرت قرابين النيل حتى الفتح الإسلامي حيث ألغيت.
وقد واصلت الأديان تمسكها بالقرينة في طورها الوثني، المساوي غالباً للطور العببودي، على صعيدي الإنسان والحيوان. وكانت قرينة الإنسام منسكاً مقدساً يتولاه رجال الدين. وعندما ظهرت الأديان السماوية، وما في حكمها في أديان الشرق الأقصى، كان بج الإنسان قد توقف من زمان بعيد مع التقدم في سلم الوعي الإنساني. والمعروف أن الأديان الراقية قد ظهرت في طور متقدم من تاريخ الحضارة تفرعت عنه ظواهر مختلفة في عدة مجالات. وقد تمسكت الأديان السماوية بمنسك القربان وأضفت عليه قداسة أشد اقترنت بالتوسع في ذبح الحيوان. ومن مظاهر ذلك في المسيحية احتواء الكنيسة على مذبح يندرج في عداد أقسامها الرئيسية ويستخدم فيه هذا الإسم بنصه إلى جانب المصطلحات الكنسية ذات المدلول الروحاني. ومن مظاهره في الإسلام شعائر «البدن» وهي قرابين الحج، وكانت منسكاً وثنياً فبقاه الإسلام وشدد عليه. ومنه أخذ اسم «عيد الأضحى» ـ أكبر الأعياد الإسلامية وأجلها شأناً. وينبغي التنبيه إلى أن هذا التوسع في الذبح لا يصدر عن الرغبة في توفير طعام للفقراء لأنه خاضع في الأصل لنزعة القرينة في الأديان ومتوارث فيها، رغم أن المؤثرات الاجتماعية في كل من المسيحية الأولى والإسلام الأول كانت حافزاً وراء الدعوة إلى إطعام الفقراء من هذه الذبائح. وهي بالتالي نتيجة فرعية ظهرت على هامش المنسك، ومن المعلوم أنها تزيد في موسم الحج عن حاجة فقراء الحجاز.
وقد عللت اليهودية هذا المنسك برغبة «يهوه» إله اليهود في شم القتار وهو ما جعل نوحاً، تبعاً لأسطورة الطوفان، يقربن حيواناً مشوياً لإرضاء الإله الذي ما أن شم القتار حتى طابت نفسه وسكن غضبه على أهل الأرض. وتتميز أصول الذبح اليهودي بالبشاعة لأنها تشترط للحم الحلال أن يذبح الحيوان نصف ذبحة ويترك حتى يموت موتاً بطيئاً يستفرغ فيه كل دمه. ويرجع ذلك إلى تحريم اليهودية أكل الدم، وهو ما أخذ به الإسلام ـ بوصفه جزءاً من التقاليد اليهمسيحية ـ فوضع شروطاً مقاربة للتذكية، أي الذبح بطريقة تؤدي إلى استفراغ دم الحيوان، لكنه تضمن من الجهة الأخرى تعليمات مشددة للتخفيف عن الحيوان تصدر في الأساس عن المنحى الدنيوي ـ الاجتماعي في الإسلام الأول.
نشأت على هامش القربنة في الأديان عقيدة الفداء. ويرجع أصلها إلى أسطورة اسحق بن إبراهيم بن الخليل. وكان ابراهيم قد تلقى في منامه أمراً بأن يقربن ولده اسحق لربه. وقد روت التوراة هذا الأمر بطريقة اعتيادية تشير إلى احتمال كونه منسكاً معروفاً لمؤلفي التوراة، الذين لا بد أنهم كانوا مطلعين على ممارسات قربنة الإنسان في الأديان الوثنية. وقد استنسخ القرآن رواية التوراة فأظهر ابراهيم وابنه قانعين بالأمر الإلهي، فلم يتردد الوالد في تنفيذ الأمر، كما لم يحاول الولد أن يتملص منه، لكن الله أسرع فأرسل كبشاً ليذبح بدلاً من اسحق. وربما كان لهذه الخرافة تعلق ما بإصلاح اخناتون الذي منع القرابين البشرية، ومن الجدير بالانتباه أن رواية هذا الحدث في التوراة والقرآن ليس فيها ما يشعر بالاستفظاع حيث يأخذ السرد مساره الاعتيادي ويتابعه المؤمنون كأمر إلهي مفروغ منه، حتى يقترب الحدث من نهايته المأمور بها فيأتي الملك وفي يده كبش ليذبح بدلاً من الولد. ولذلك يقول مفسرو القرآن في تعقيباتهم على هذه الرواية أنه لو ذبح ابراهيم اسحق لصارت سنة فيمن بعده: أن يذبح الآباء أبناءهم بدلاً من الأغنام والماشية. ويعني هذا بدوره أن الحيوان يذبح لا للحاجة وإنما لأجل القربان أو ليكون فداء عن شخص معين، ولذا لا تحدد أحكام القربان مآل لحم الذبيحة لأن المطلوب هنا هو «تفجير دم» كما يقول العامة في العراق. ويطبق هذا المنسك في الوقت الحاضر عند الانتقال إلى مساكن جديدة أو شراء مركبة من سيارة ونحوها وغالباً ما يتم غمس الكف في دم الذبيحة وطبعه على بوابة المنزل أو على المركبة.
وقد توسعت فكرة الفداء إلى التعويض عن إنسان بإنسان آخر ولكن على سبيل القضاء والقدر المحدد من قبل السماء. ولتوضيح ذلك أروي هذه الحكاية من كتاب «الفرجة بعد الشدة» للتنوخي، من القرن الرابع الهجري وهي عن رجل، يدعى أبو القاسم العلوي كان في سفر ومعه أحد عبيده وكان كل منهما على حمار، وفي الطريق خرج عليهم أسد وتقدم نحو أبو القاسم فتسمر في مكانه بينما راح العبد يصرخ ويستغيث، ويبدو أن الأسد قد تهيج بهذا الصراخ فتوجه نحو العبد واقتلعه من على حماره وعاد به إلى الأجمة. ويذكر التنوخي أن أبو القاسم حين روى الحادث ختم الرواية بقوله: «قد فداني الله بغلامي» وعقب أحد الحاضرين: ألا تعلم أن لحوم بني فاطمة محرمة على السباع؟ ويلاحظ أن المعقب نسي أن لحوم بني فاطمة أبيحت للأمويين والعباسيين.. وعلى أية حال تدل هذه الحكاية على أن الله يتولى بنفسه ذبح بعض الناس لكي ينقذ غيرهم. وليس من الضروري تبعاً لهذا المبدأ أن يكون بين الفادي والمفدي عداوة تستوجب التضحية بأحدهما للآخر، فالقرار في هذا متعلق بحكمة الخالق وإرادته الحرة. لكن الفكر الديني بوصفه فكراً طبقياً يتجه في الغالب نحو جعل الفادي في مرتبة اجتماعية أدنى، كما هو حال أبو القاسم العلوي وغلامه. وقلما يحدث العكس في الأساطير والحكايات الدينية.
إن عقيدة الفداء بحسب حكاية أبو القاسم العلوي تعني التضحية بحياة إنسان لأجل آخر. وقد شكلت العقيدة بهذا التحديد عنصراً من عناصر الوعي الشعبي يعبر عنه في بعض الأحيان بطريقة عدوانية واضحة، حيث يقال في العراق، مثلاً، عند تعزية حي بميت: راح لكل فدوة ـ أو فاد تبعاً للهجات. وتقوم هذه التعزية على افتراض أن موت إنسان هو بدوره زيادة في عمر إنسان آخر.
وللعقيدة كذلك تعلقات أخروية وظفها رجال الدين لحسابهم ولنقرأ هذا المقتبس من معجم الأدباء لياقوت:
توفي القارئ المحدث أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران في اليوم الذي توفي فيه الفيلسوف أبو الحسن العامري (381هـ) قال الحاكم: فحدثني عمر بن أحمد الزاهد قال: سمعت الثقة من أصسحابنا يذكر أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن مهران رحمه الله في المنام في الليلة التي دفن فيها. قال فقلت: أيها الأستاذ ما فعل اللك بك؟ فقال: إن الله عز وجل أقام أبا الحسن العامري بحذائي (بجانبي) وقال: هذا فداؤك من النار. ثم ذكر الحاكم بإسناد رفعه إلى أبو موسى الأشعري أن رسول الله قال: إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار فيقول: هذا فداؤك من النار.. وقد علق ياقوت: وهذا الخبر إذا قرن بالرؤيا صار من براهين الشرع.
إن عدم التقيد بالحاجة في تقديم القرابين، مع ربطها بعقيدة الفداء، يكرس نزعة دموية في الأديان ربما كانت صدى بعيداً لمقترب سيكو ـ اجتماعي ينبغي البحث عنه في مجاهل الانثروبولوجيا. على أننا نجد هذه النزعة تقترن في الأديان السماوية بأصول أخرى وثيقة الصلة بها، وهي:
ـ مبدأ الإبادة الجماعية ـ العشوائية (المهابدة).
ـ عقيدة العقاب الأخروي.
ـ قانون العقوبات (الحدود).
يضاف إلى هذه الأصول الثلاثة عنصر نفساني هو صدور الدين عن أب سماوي مطلق الوجود., وسنحاول تفصيل القول في كل منها.
الإبادة العشوائية الجماعية تسمى في الإصلاح الإسلامي «عذاب الاستئصال» ويقصد به إبادة قوم من العصاة يبعث إليهم نبي فيكذبون فيعمهم غضب إلهي يطال رجالهم ونساءهم وشيوخهم وأطفالهم، مع ما في ناحيتهم من أحياء نباتية أو حيوانية. وفي العهد القديم ـ التوراة ـ أساطير عديدة تضمنت هذه العقوبة وتبناها القرآن بعد أن أضاف إليها أساطير عربية مماثلة. وتبدو استعادة هذه الأساطير في القرآن متعارضة تماماً مع مبدأ المسؤولية الفردية الذي شرعه «ولا تزر وازرة وزر أخرى». وقد يرد على ذلك بأن التعارض هنا شكلي لأن عذاب الاستئصال يطبق على أساس الإرادة الحرة للخالق، أما مبدأ المسؤولية الفردية فتطبقه الدولة. وحدود الاختصاص، على صعيد القانون، تتباين بين الخالق والدولة لكن التعارض يظل قائماً على الصعيد الأخلاقي كما سنبينه لاحقاً.
أو تطبيق لعذاب الاستئصال هو الطوفان. وتبعاً للأسطورة التوراتية كان الطوفان عقوبة جماعية أهلكت أهل الأرض كلهم، عدا نوح وأهله والنفر الذين آمنوا به ولذا يعتبر نوح في الإسرائيليات الأب الثاني للبشر. ومع أن دعوة نوح كانت لقومه فإن العقوبة لم تقتصر عليهم. وهنا تعارض آخر مع مبدأ قانوني هام أقره القرآن وهو عدم جواز فرض العقوبة على فعل جرمي لم ينص عليه القانون أو نص عليه في حدود جغرافية معينة ولم يمتد التبليغ به إلى مكان آخر (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
بقية الاستئصالات اختصت بأقوام ومواقع دون غيرها. وهو هنا شامل أيضاً لكل الكائنات الحية في الموقع المغضوب عليه. والملحوظ فيه أنه جماعي وعشوائي في نفس الوقت. وقد يعم المذنب والبريء كما قد يعم ضحايا الجرائم المعاقب عليها. ويتضح هذا في قصة لوط حيث طبقت الأديان السماوية حكماً يتناسب مع نزعة القربنة، التي مر الحدث عنها، فهي لم تكتف بإعدام المنحرفين جنسياً ـ اللواطيين والمأبونين ـ وإنما أعدمت معهم جميع النساء والأطفال الذين لا يمكن إتهامهم بهذه الجريمة. ومن الملحوظ أنها لم تأخذ في الاعتبار أن نساء قوم لوط كن بدورهن ضحايا الشذوذ الذي حرمن من ممارسة حقهن في الزواج والإشباع الجنسي المشروع. و كان العد يقتضي إخراجهن من تلك القرية ونقلهن إلى قرية أخرى يحصلن فيها على هذا الحق بدلاً من إعدامهن مع الرجال.
يتكامل الإيمان بمبدأ الإبادة الجماعية مع الإيمان بالعذاب الأخروي. ويقوم الأخير على مبدأ المسؤولية الفردية، لكنه يطبق بحق المذنبين بطريقة همجية يمكن أن تكون لها صلة مباشرة بنزعة القرينة في الأديان. وتتضمن المأثورات الدينية في الإسلام استعراضات لأصناف العقوبات الأخروية تأخذ جميعها صفة التعذيب. إن الأداة الرائسة لهذا العذاب هي النار، وهي مشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة، غير أن المأثور الإسلامي تميز بخيال خصب في هذا المضمار يعكس التميز البالغي للمنشئ العربي. فقد ابتكرت أساليب من قبيل: شوي الجلود وإبدالها باستمرار كلما نضجت بالاحتراق حتى لا يتوقف الشعور بالألم. شرب الصديد وهو قيح في حالة غليان يحتسيه المذنب عندما يظمأ فينشوى وجهه بحرارته قبل أن ينزل إلى جوفه ليشعل فيه الحرائق. وسلال طولها سبعون ذراعاً يصفد بها المعذبون. ويلبس أهل النار ثياباً من القطران المصهور. وقد أضاف الوعاظ المسلمون وسائل تعذيب أخرى اختصوا بها فئات معينة من المذنبين. منها وجود واد في جهنم يلقي فيه شارب الخمر ويبقى هاوياً عشرات السنين قبل أن يصل إلى قعره ليستقر فيه، ووجود أفاعي وثعابين تطوق الأجساد وتنهشها في كل لحظة، ومن الأخيلة التعذيبية الخصبة حدث يقول أن من بنى بناء فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة يحمله. وقد يكون حديثاً صحيحاً لأن فكرته تتمشى مع اتجاه النبي محمد ضد الترف والإسراف. ويستفاد من هذا الحديث أن أغنياء المسلمين سيأتون يوم القيامة وعلى رأس كل واحد قصره، الذي قد يكون مبنياً من عدة طوابق.
ولجهنم أوصاف كدسها الوعاظ تصدر عن خيال إرهابي مفرط، ولنقرأ هذا الوصف الذي أورده الغزالي في «إحياء علوم الدين» ـ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو على لسان جبرائيل في حديث له مع النبي:
«إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت؛ فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهيبها. والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتا جميعاً، ولو أن ذنوباً (دلواً) من شاربها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاته، ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت. ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه».
والمعذبون في جهنم لا يموتون لأنه محكومون بالعذاب المؤبد، ومواتهم يعني نهاية عذابهم. وحين صرح صدر الدين الشيرازي بنظريته التي تقول بأن العذاب لا يمكن أن يزيد على عمر المذنبين في الحياة الدنيا وأنه يصبح بعده نعيماً، كفره رجال الدين. ويروى عن الملا محمد كاظم الهزار جريبي أنه لعن الشيرازي عند ضريح الحسين لقوله هذا. ويحتمل أنه جعل لعن الفيلسوف بديلاً عن الدعاء المألوف في زيارة الأئمة، لأن الرواة يقولون أنه كرر اللعن مائة مرة، على الطريقة التي تكرر بها التحيات للأئمة والملائكة داخل المزارات الشيعية.
إن كلاً من عذاب الاستئصال والعذاب الأخروي غير منصوص عليهما في الشريعة لأنهما من خصوصيات الخالق. وكما بينا، فقد تمسك القرآن بمبدأ المسؤولية الفردية في القضاء الجنائي، بينما حرم النبي محمد إحراق الأحياء، أي الإعدام بالنار، لأنه داخل في عذاب الآخر، الذي يتولاه الله ويجوز للبشر أن ينتشبه به فيه.
غير أن هذين الحكمين مندرجان في العقيدة، أي أنهما ملزمان إيديولوجياً ولا ينفصلان عن سائر الأركان والأصول التي يخل إنكار بعضها بسلامة الإيمان. ويعني هذا بدوره أن المؤمن يجب أن يكون موافقاً على هذه الألوان من التعذيب بوصفها من نتائج الحكمة الإلهية الموجهة نحو تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وإذ يوافق المؤمن هنا على أحكام من قبيل المهابدة العشوائية والعذاب في الآخرة فهي لا بد أن تصبح، بحكم الإيمان، جزءاً من منظوره الاجتماعي والأخلاقي، وبالتالي، ومع أن القبول بهذه الأحكام يرد على سبيل التعبد غير المقترن بالممارسة مادامت الشريعة قد حرمتها على الإنسان، فإن عدم تعارضها مع المنظور الأخلاقي للمؤمن يمكن أن يخلق لديه الاستعداد النفسي للتعامل مع هكذا أفعال حينما تصدر عن الإنسان ولو على سبيل الخرق للقانون. ومن المقرر في علم النفس الاجتماعي الماركسي أن شخصية الفرد تتكيف بمعاييره الأخلاقية المستمدة من وسطه الاجتماعي والروحي أكثر مما هي بالمبادئ القانونية المفروضة عليه من فوق. وبسبب ذلك، فإن قدراً ملحوظاً من الانفصام بين القانون والأخلاق لا يمكن أن يخلو منه أي مجتمع؛ حيث نجد القيم الأخلاقية تساهم أحياناً في تخفيف قسوة القانون وأحياناً أخرى في تشديده. وسأضرب ها هنا مثلين متعارضين من تاريخ الإسلام.
أولهما من عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وقد مر بنا أنهما لم يمارسا شيئاً من التعذيب ـ دون أن نهمل الروايات المختلف عليها بشأن قتل المرتدين بأمر علي. وقد عرف الإثنان بعمق العلاقة مع الجمهور إلى جانب قدر ملحوظ من التسامح في العقوبات الشرعية تميز به عمر. ومن الملاحظ بخصوص علي أن أيامه لم تشهد أعمال قمع دموية من النمط الذي تشهده لفي العادة مراحل الانتقال الحادة في التاريخ. وهي المرحلة التي شهدتها خلافته واستغرقتها على قصرها ثلاثة حروب طاحنة انتهت بالانهيار المريع للإسلام الأول. وتضمنت رسائله إلى الولاة تعليمات مشددة بشأن التعامل مع الرعية على أساس التسامح والعلاقة الإنسانية التي تجمع بين الحاكم والمحكوم في تعارض مع تلك النزعة الانتقامية التي اشتمل عليها قانون العقوبات القرآني. ومع أنه التزم بنصوص هذا القانون في القضايا الداخلية في اختصاصه قد قامت سياسته خارج هذا الاختصاص على التعاطف مع البنيان الجسدي للإنسان. ولدينا عن عمر بن الخطاب مرويات عديدة تشير إلى تجنبه سفك الدماء حتى في حدود الاختصاص القرآني المشمولة بقانون العقوبات. وفي طبقات ابن سعد رواية هامة توضح اتجاهه في هذا الشأن تقول أن والياً كتب إليه أن رجلاً وجد زوجته مع رجل آخر فقتلهما. وكان عمر قد عمم على الولاة أن يعرضوا عليه القضايا التي تتضمن أحكاماً بالإعدام أو القطع ليبت فيها بنفسه، فكتب إلى الوالي كتاباً علنياً بإعدام الرجل وكتاباً سرياً بأخذ الدية منه. وكان غرضه من هذا تطبيق الحكم الشرعي رسمياً، مع ما في إعلانه من توفير عامل الزجر، والالتفاف عليه عملياً بسبب نفوره من هذه العقوبات، ويأتي ضمن هذا التوجه عفوه الكوميدي عن الهرمزان.
يقف وراء سلوك عمر وعلى عامل دنيوي ـ اجتماعي يرتهن في مجمل الأصول البدوية والاجتماعية التي ساهمت في تكوين شخصيتها إلى الحد الذي يمنع من الحكم عليهما وفقاً لاعتبارات دينية خالصة، أي بوصفهما رجلي دين من النمط الشائع. ومن دون أن نتعسف التشكيك في جدية إيمانهما الديني فمن الواضح أنهما قد أعطيا في سياستهما هذه مثالاً على الدور الذي يمكن أن تلعبه الأخلاق في تخفيف قسوة القانون.
المثال الآخر من رجال الدين المعاصرين. إن انتماء هذه الفئة إلى الطبقات الحاكمة الفاسدة قد عزز المنحى الديني الخالص في تكوينهم النفسي. وبالنظر لوجودهم خارج العصور الإسلامية فقد حيل بينهم وبين استيعاب العناصر الدنيوية في الإسلام الأول أو رؤية الطبيعة التعددية لحضارة الإسلام الذاهبة بشكل جعلهم يمثلون العقيدة الدينية بوصفهم مؤمنين وليس مجرد مسلمين وفق المعاييري الانثروحضارية للإسلام. ومن هذا المنطلق ينبغي أن نتوقع ارتهاناً معيناً بين حضور هذه الفئة في موقع ما واستشراء حالة القمع في ذلك الموقع. ويمكن أن نتوفر من هنا على تفسير مقبول لاتجاه الدول الدينية المعاصرة في العالمي الإسلامي إلى التمسك بالتطبيق الحرفي لقانون العقوبات القرآني ـ مع تجاوزه في نفس الوقت بالتشدد في الأحكام التي عرضها الفقهاء الأقدمون برطيقة مرنة ومتسامحة ذكرنا بعض وقائعها في القسم الأول. وبصرف النظر عن اختلافات سياسات هذه الدول، مما يوجب تصنيفها وفق معايير مختلفة على صعيد التحليل السياسي، فإن التركيب الديني الخالص الذي تشترك فيه يعرب عن نفسه في شيوع نهج فاشي على مستوى العلاقات الاجتماعية يحمل من بعيد ذكريات الغضب الإلهي الذي نفس عنه النبي نوح بالقرابين المشوية. وهكذا تواجهنا حالة معكوسة تماماً تقوم فيها الأخلاق الدينية بتشديد قسوة القانون، بالارتهان مع ظرف مساعد يتاح فيه للوعي الديني أن يتبلور ويعزز معطياته بقدر أوفر من الاستقلال.
إن التجارب المستفادة من الأديان تزودنا بأداة للاستنناج يمكن أن نستخلص منها قابلية العوامل المكونة للسلوك الديني لتكوين شخصية دموية فاشية المزاج معادية للإنسان، ومن المعروف أن الوازع الديني قائم على التخويف، وهو المهمة الأساسية لرجل الدين الذي تخصص في تحذير المؤمنين من غضب الآلهة، لكنه كان في نفس الوقت يساهم في تطبيق الغضب الإلهي على رعاياه. وللأديان أدوار مشتركة في هذا المضمار تتفاقم في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان دينية وزمنية حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي ـ الإكليروسي. و تنفرد الأديان السماوية هنا بعاملين إضافيين يقترن أولهما بعقيدة المهابدة العشوائية التي تحدثنا عنها آنفاً، وهي غير معروفة في الأديان الوثنية أو غير السماوية بوجه عام. العامل الثاني يتعلق بمفهوم سماوية الدين الذي يرتكز في ملابسات نفسية تتحدد بدورها في عاملين متداخلين: وجود القوة المطلقة التي تتمتع بالقدرة الكلية وتنفرد بالجبروت، مع الامتداد الجغرافي الهائل الذي يتداخل مع عقيدة الوحي في هذه الأديان. إن اطمئنان رجل الدين السماوي إلى الموقع المتميز الذي يحتله في الكون بحكم علاقته الخاصة جداً بالسماء يعطيه شعوراً متضخماً بالهيمنة على رعاياه مشفوعاً في نفس الوقت باستصغارهم. ويعني المأثور الديني بالمقارنة بين ضآلة الإنسان وضخامة الوجود الإلهي ويذهب في اعتباره الإنسان عبد الله إلى جعله حاجة أو شيئاً غير ملموس في حساب السماوات، كما يستخدم جسم الإنسان لإشعاره دائماً بحقارته. ويعبر رجال الدين عن الإنسان بكونه يبدأ: نطفة مَذره وينتهي جيفة قذرة وأنه يحمل ما بينهما العَذَرة ـ أي الخراء.
لا شك أن الطبقات المالكة قد استفادت من هذا الجو النفسي الذي يعيش فيه أهل الأديان السماوية لاستخدام وسائل ناجعة في الإرهاب السياسي. ولو تجاوزنا نموذجاً شائعاً كاليهودي مناحيم بيجن وهو قليل في اليهود لأنهم لم يحكموا إلا قليلً، فسوف نعثر على الحالات الدالة الصالحة للاستقراء في تاريخ الديانتين الكبيرتين: المسيحية والإسلام. ولكن لما كان موضوعنا الراهن هو الإسلام فسوف نمر بالمسيحية مروراً سريعاً لنفرغ بعدها لاستقصاء العناصر القمعية في الإسلام من حيث علاقتها بالتدين.
من المعروف أن المسيحية تخلو من قانون العقوبات، وأن المسيح عارض قانون العقوبات اليهودي، الذي اقتبسته الشريعة الإسلامية فيما بعد. ولكن الكنيسة القروسطية في أوربا سلكت سبيلاً آخر مستمداً من روح الأديان، قائماً على تلبية المطالب الدنيوية في ديانتها لتفرض العقوبات التي تلائمها بحرية أكبر. وهكذا، ففي مقابل التمسك النظري للمؤسسة الإسلامية بجعل النار وسيلة خاصة بالخالق، اتخذت الكنيسة الأوروبية منها منسكاً مقدساً لتعميد المفكرين والفلاسفة، وقد ظلت الكنيسة طوال العصور الوسطى وشطراً من عصر النهضة مصدر الإرهاب الوحيد تقريباً في أوروبا. وكانت كوادر الإرهاب تتألف في العادة من الاكليروس الذين كانوا يديرون هيئات التحقيق والمحاكم ومحاكم التفتيش بأنفسهم وينفذون أحكامهم بأيديهم. ولما ظهرت حركات الإصلاح الديني لم يتوقف هذا الدور وإنما انتقل إلى أيدي جديدة. وقد مرت بنا إجراءات كالفن في جنيف. وكان الإرهاب يتقلص مع تقلص سلطة الكنيسة وظهور الدول العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة. ولهذا السبب استمرت محاكم التفتيش في إسبانيا الكاثوليكية المتعصبة حتى أوائل القرن التاسع عشر حيث أغلقت نهائياً بأمر الامبراطور العلماني نابليون بونابرت.
استدراك:
ينبغي التنبيه إلى أن القمع المسيحي اقتصر على الكنيسة الأوروبية، أما الكنيسة الشرقية التي تألفت رئيسياً من نصارى العرب والسريان فلم تتورط في هذه الأدوار. وقد يكون الفضل في هذا لعدم وصولها إلى السلطة. فالكنيسة الشرقية لم تجد الطبقة الاجتماعية التي تحتاج إلى خدماتها، كما أن المسيحية لم تصبح ديناً سائداً في الشرق حتى قبل الإسلام.. وحسب علماء النفس فإن النزعات الخطرة لا تنطلق إلا إذا صادفت وسطاً مادياً مساعداً. وقد لعبت الكنيسة الشرقية التي تمركزت أساساً في الشرق الأوسط، دوراً أقرب إلى الروح المسيح ـ لا سيما في الجهات التي لم تتمركز فيها سلطة بيزنطية ـ وقامت بوظائف مختلفة تماماً عن وظائف قرينتها في أوروبا: رعاية الفقراء من المؤمنين وتعهد الثقافة الهللينية حتى تسلمها العرب ـ الإسلاميون منها.
ويبدو أن المسيحية الشرقية قد تبلورت في هذا الخط السلمي المعبر عن بساطة المسيحية المبكرة بشكل أضفى عليها مسحة اجتماعية دنيوية حررتها إلى حد ما من عقدة الإرهاب الديني. وقد بلغ الأمر في بعض الحالات إلى التصادم مع مقتضيات الحياة الجاهية التي قامت على الحرب. يعبر عن هذه النقطة بوضوح نص شعري هام لشاعر تغلبي من الجاهلية هو حُنى (كقصى) بن جابر المتوفى عام 570م تحدث فيه عن معاناة قبيلته المسيحية، التي عانت في العراق، من عسف السلطات الساسانية آنذاك. وشاهدنا فيه قوله:
وقد زعمت بهراء أن رماحنا.. رماح نصارى لا تبوء إلى الدم.
وبهراء قبيلة أخرى يظهر أـنها عيرت تغلب أو استخفت بها لأن دينها يضعها في موضع ضعيف، بوصفه دين سلام. وقد انتفض الشاعر ضد هذا الاستخفاف وأكد في البيت التالي بحمية لقاحية:
نعاطي الملوك السلم ما قسطوا لنا.. وليس علينا قتلهم بمحرم.
وعلى أي حال فقد كان مقدراً للمؤسسة الدينية في الإسلام أن تقوم بهذا الدور، والإسلام كما يقول إنجلز دين موافق للشرقيين لاسيما العرب. أي أنه موافق الشرق أوسطيين دون الشرق ـ أقصويين الذين اعتنقوا البوذية وديانات مقاربة لها. أما الإسلام فوصلهم متأخراً فلم يتغلغل فيهم كما تغلغل في الشرق الأوسط. وقد بقيت البوذية حتى زمن متأخر هي المصدر الرئيسي للإرهاب الديني في تلك البقاع.
خلاصة من مجمل ما سبق:
بينت حتى الآن أن قمعية الشخصية الدينية ترتهن بوعائها السيكولوجي المقتوم بالمكونات الثلاثة: نزعة القرينة، عقيدة الإبادة الجماعية، وعقيدة العذاب الأخروي، والأولى كما ذكرت مشتركة بين الأديان. والثانية هي عقيدة يهودية انتقلت بالوراثة إلى المسيحية والإسلام، أي أنها مخصوصة بالأديان السماوية. أما عقيدة العذاب الأخروي فترجع إلى عقيدة البعث المشتركة في معظم الأديان، التي تتفق على فكرة العذاب وإن كانت تختلف في وسائله.
وتتفرد اليهودية والإسلام بعامل رابع في تكوين السلوك القمعي لإتباعهما هو قانون العقوبات المعروف في الإصطلاح الإسلامي باسم الحدود.. تقوم هذه العقوبات على أساس الانتقام من مرتكبي المحرمات الدينية. وهي مستمدة في الأصل من قانون حمورابي. وهذا القانون من أقدم التشريعات في التاريخ كما هو معروف، ويعتبر ظهوره في الألف الثاني قبل الميلاد بمثابة قورة في تاريخ التشريع. لكن اليهودية استعادته بعد ألف عام من ظهوره، أي في مرحلة كانت تفترض تطويره وتجاوزه إلى مدى يتطابق على الأقل مع حدة النقد الذي وجهته الأديان السماوية إلى الأديان الوثنية التي ظهر هذا القانون في عهدها.
وقد استحدثت اليهودية على النقيض من هذا التوقيع مبدأ لم يتضمنه قانون حمورابي، هو مشاركة الجمهور في تنفيذ بعض العقوبات، المفروض أنها من اختصاص السلطة. ويشمل هذا المبدأ بوجه خاص عقوبة الرجم على الزاني والزانية. وهذه العقوبة سومرية الأصل وكانت تفرض على المرأة المراهطة. وتشير قصة الخاطئة التي تجمع اليهود لرجمها فأنقذها المسيح إلى انتشار هذه الممارسة في اليهودية. ومن المعروف أن المسيح الأول أبطل عقوبة الرجم، لكن الإسلام أخذ بها وطبقها على الطريقة اليهودية، أي طريقة مشاركة الجمهور في التنفيذ، بينما اشترط فيما عداها أن يعذب المحكوم علناً ـ «ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين».
وتثير المشاركة في تنفيذ العقوبات أشكالاً تتعلق بالتكوين النفسي للمؤمنين والطابع القمعي للأديان للثواب لكونهم ينفذون حكماً إلهياً. ويتأتى الثواب من قدرة المؤمن على توجيه ضربة لرأس المرجوم بحجر أو عظم أو قطعة خشب يتحصل بها رضوان الله. ثانياً أن تنفيذ الرجم في حالة كون المرجوم امرأة يتخذ بالنسبة للمؤمن الرجل وضعاً خاصاً، يشتمل على عنصر تعويض نفسي عن مطالب أهدرتها الزانية حين وهبت نفسها لرجل غيره. وعندئذ تكون المشاركة في الرجم منفساً جنسياً يضاف إلى الغيرة الدينية فيكون عاملاً على زيادة القسوة في تنفيذ العقوبة.
الثالث والأهم أن اشتراك الجمهور في تنفيذ العقوبات يؤدي إلى تعميم وظيفة الجلاد بجعلها منسكاً شعبياً متلبساً بالإيمان ويقوم الجمهور هنا بدور المطبع الذي ينفي الشذوذ عن هذه الوظيفة بل والارتقاء بها إلى مستوى أعلى تكون فيه وسيلة لنشدان الثواب.
يمكن القول من هنا أن قانون العقوبات السماوي يخلق بطبيعة أحكامه وطريقة تنفيذها، بما في ذلك مبدأ الاشتراك في العقوبة، حالة إرهاب متعاكس يقع على الجمهوري كما يقع منه. ففي ظل هذا القانون يعيش الناس في رعب مستمر من الوقوع تحت طائلة إجراء شرعي قد يؤدي إلى الموت بطريقة بشعة أو فقدان أحد الأعضاء لدى ارتكاب هفوة تنطبق عليها إحدى العقوبات. لكن الجمهور مقتنع بحكم إيمانه الديني بقداسة العقوبة ووافق على تطبيقها بحق الغير، وعلى المساهمة في التطبيق، وهذا يعني أنه يجمع بين صفتين متضادتين: فهو ضحية، وهو جلاد في آن واحد.. وعندما نتذكر أن جمهور الأديان السماوية مشبع برؤى العذاب الأخروي وأساطير عذاب الاستئصال (المهابدة العشوائية) ويعيش في وسط يصطبغ يومياً بدماء القرابين المسفوكة للفداء أو النذر، فلا بد لنا أن نتوقع بناء نفسياً يتماهى بالقمع بالمتعاكس فيدفع إلى التداخل معه حالات القمع التعذيبي التي تقوم بها الدولة مدفوعة بمصالحها في الحكم.
يبدو من هنا مثول الوجدان القمعي كقاسم مشترك بين عناصر المجتمع على اختلافها. ويمكن أن يلاحظ في هذا الصدد أن عدم تعريض المجتمعات العربية إلى تغير جذري في تركيبها الطبقي ـ الموروث أساسياً من البرهة العثمانية ـ قد ساعد على احتفاظ هذا الهاجس بموقعه المؤثر في الوعي العام. وإذ يكون التغير الاجتماعي حتى الآن على درجة من عدم العمق تمنعه من إحداث تحولات جذرية في سلوك الناس ووعيهم، فإن الذي تغير على هذا الصعيد هو في الغالب، الأشكال التي يتجلى بها الوجدان القمعي. لقد كان المؤمنون يطلبون الأجر بالمساهمة في رجم الزناة ويلاحقون المرجوم إذا هرب ليحصلوا منه على شدخة في رأسه تسجل لهم نقطة إيمان إضافية. أما المعاصرون فقد توفرت لهم وسائل جديدة لتطمين هذا الهاجس بعد أن تمت، إلى حدود معينة، تنحية الإيمان الديني لصالح الإيمان السياسي.
08-أيار-2021
24-حزيران-2006 | |
01-أيار-2006 | |
23-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |