تاريخ التعذيب في الإسلام 4
2006-04-23
الحجاج وهتلر
غراران (أي متشابهان)
للقمع في حضارتين
الحجاج بن يوسف بن الحكم من قبيلة ثقيف الحجازية التي استوطنت الطائف في العصر الجاهلي. وكانت من بين القبائل التي هجرت البداوة واشتعلت في الزراعة باستقرارها في الطائف. هي بلدة تمتعت بوفرة المياه فكانت من أرياف العرب في الجاهلية.
وقد استزرعها بنو ثقيف وقريش، التي اعتمدت في معيشتها على البلدة فاتخذت فيها البساتين والمزارع وصارت لها منتجع ومصيف. واشتهرت الطائف بالكروم وحدائق الزهر. وهذه كانت توفر مادة التحلية والتطيب لبئر زمزم حيث كانت تجلب زهور الطائف وتنبذ في البئر حسب مواسمها وكان استقرار ثقيف في م عشر زراعي باعث على قدر من التحول في تكويناتها الاجتماعية والذهنية. فبرز من بينها دهاة تجاوزوا بساطة الشخصية البدوية ليكون لهم موقع في سيرورة تطور ستقودها قريش التاجرة فيما بعد. وقد تساءل خصم محمد في مكة عن السر في نزول الوحي عليه، وليس على رجل آخر من قريش أو ثقيف. (آية 31/زخرف). واتجه أفراد من ثقيف إلى تحصيل المعرفة فسافر الحارث بن كلدة (بفتحتين) إلى إيران ودرس في مدرسة جنديسابور الطبية التي كان يديرها السريان. وهو في مصادر تاريخ العلم العربية طبيب العرب الأول. وقد عاصر النبي فلم يعارضه ولم يؤيده وبقي على حاله هذه بعد استكمال أسلمة العربيا وعاش إلى خلافة معاوية. وكان النبي يوجه المرضى من أصحابه للاستطباب عند الحارث. وكانت له اهتمامات عدا الطب، منها الموسيقى. وقد تعلم الضرب على العود في إيران واليمن، التي يبدو أنه استفاد شيئاً من بقايا حياتها الحضارية الغابرة. ويمكن اعتباره من رواد الثقافة الإسلامية بتطويرها على أساس الجمع بين مصادرها المحلية والخارجية، وبهذا الاعتبار فهو أحد آباء الحضارة التي أنشأها القرشي محمد.
وبرز من ثقيف شخصيات قيادية أسهمت مع محمد في التأسيس من جوانبه العسكرية والسياسية. وينظر إلى المغيرة بن شعبة الثقفي كأحد الدهاة العرب.وقد استعان به محمد في المهام الجليلة والمواقف الصعبة. وفي صدر الإسلام «في وقت مبكر من ظهور الهرطقة الإسلامية» التمع المختار بن عبيد الثقفي كقائد للعبيد والموالي وكمؤسس نحلة من الغلاة تجاوزت الأطر الرسمية للإسلام. وبرز من ثقيف من يمكن اعتباره أميز قائد بين الفاتحين الأوائل.. فقد قاد محمد بن قاسم الثقفي جيشاً من العراق فتح به السند وأدمج هذا الشطر المهم من القارة الهندية في مجتمع الإسلام الجديد. وكان عمره يقل عن العشرين. وفي مجرى التفاقم اللاحق للاستبداد الأموي حظيت هذه الدولة الرهيبة بزعيمين من ثقيف تمثلت فيهما حاجة المستبد إلى أدوات قمع مكافئة لمتطلبات الحرب الأهلية التي استعرت في خلافة الأموي عثمان واشتد أوارها مع انفراد بني أمية بالخلافة. وهذان هما الحجاج بن يوسف الثقافي رديف عبد الملك بن مروان ويوسف بن عمر الثقفي رديف هشام بن عبد الملك. وكان الأخير طباق الأول في دمويته المنفلتة لكنه انكسف في ظل ابن عمه فلم يذكره التاريخ. والشهرة حظوظ!
ولد الحجاج في الطائف عام 40 هـ ونشأ فيها ثم انتقل إلى الشام في خلافة عبد الملك. وأظهر الولاء للدولة قبل أن ينتظم في سلكها، فكان ينبه إلى مواضع الخلل في الأداء ويتحسس ما يضر بمصالحها. ويخبرنا ابن عساكر في ترجمة الحجاج من «تاريخ دمشق» أنه مر يوماً بقاص يحدث الناس عن سيرة أبي بكر وعمر بن الخطاب فاستاء وقال: «ما يفسد الناس على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهه يقعدون ويقعد إليهم أحادث الناس ويذكرون سيرة أبي بكر وعمر فيخرجون (يثورون) على أمير المؤمنين». ويفسر هذا التدخل من الحجاج أمراً أصدره عبد الملك بن مروان بمنع الكلام عن سيرة أبو بكر وعمر. وبقي الأمر ساري المفعول حتى خلافة عمر بن عبد العزيز الذي رتب بنفسه قصاصاً يحدثون الناس عن هذه السيرة. وكانت بداية خدمة الحجاج في الجهاز الأموي اشتغاله شرطياً بإمرة روح (بفتح الراء) بن زنباع الذي كان بمثابة وزير لعبد الملك. وظهرت كفاءته في الجهاز مبكراً فعهد إليه عبد الملك بقيادة جيش جرار إلى الحجاز للقضاء على انفصال ابن الزبير، وأنجز مهمته على الوجه المطلوب فأعاد الحجاز إلى طاعة عبد الملك. وورد عنه في أثناء ذلك ما يدل على ألمعية ثقفي لا يخضع في أدائه السياسي لوساوس العقيدة. فقد حاصر ابن الزبير في الكعبة وأمر برميها بالمنجنيق وحدث أن تجمعت غيوم راعدة فنزلت صاعقة على جيش أهل الشام وقتلت عدداً منهم. فتطير الشاميون واعتبروا ذلك رداً إلهياً على قصف الكعبة. فأوضح لهم الحجاج: «أنا ابن تهامة وهذه صواعقها» وطلب إليهم التريث حتى يصيب عدوهم ما أصابهم.. وفي اليوم التالي نزلت صاعقة على جيش ابن الزبير وقتلت عدداً منهم.. وبذلك استطاع تجاوز الأزمة في معسكره.
وعينه عبد الملك بعد تصفية ابن الزبير والياً على الحجاز. ثم وجد كفاءات تابعه الجديد أوسع مما يحتاج إليه في الحجاز فولاه على العراق. وكانت ولاية العراق أيام الأمويين مركز المشرق كله فصار الحجاج حاكم البقاع الممتدة ما بين العراق ونهايات الثغور في آسيا الوسطى والهند، فكان بمثابة «امبراطور ثان» للأمويين.
كان العراق منذ اندلاع حركة المعارضة في الإسلام أيام الخليفة الثالث قد صار مقرها الدائم. ومثلما كان الوالي الأموي ينظم منه نشاطات المشرق السياسية والعسكرية كان المعارضون من الشيعة والخوارج ينظمون حركة المعارضة في الولايات والأطراف مع الامتداد شرقاً وغرباً. وقد ترتب على الحجاج وهو يواجه مسؤولياته الجسام في إدارة إمبراطوريته لحساب الأمويين أن يتعامل مع حركة المعارضة بالقمع الدموي المنفلت. وليس من المعلوم ما إذا كان الحجاج ينطوي على نزعة دموية أو أنه فتن القمع تبعاً لمطالب أمن الدولة الاستبدادية. وبالرجوع إلى مثال زياد ابن أبيه نقف على حالة مرضية ناشئة عن كون زياد إبناً غير شرعي وهي استغلها معاوية حين سلمه العراق بعد أن ألحقه بأسرته وصار إبناً شرعياً لأبي سفيان. والحجاج لم يعان من هذه العقدة فقد ولد لأب شرعي ونشأ نشأة سوية وسط عشيرته المرموقة الجانب. وتقول بعض الحكايات أنه كان يتلذذ بالقتل. لكن ذلك غير ثابت في سلوكه اليومي مع الناس. يلاحظ أيضاً أن القمع الأموي كان موجهاً ضد المعارضة والطامعين بالسلطة، ولم يشمل الأتباع والأعوان كما سيحصل فيما بعد أيدي العباسيين. وكان أتباع وأعوان الحاكم الأموي آمنين على حياتهم واشتغلوا في وسط غير ملغوم بمؤامرات البلاط التي عرفت في سائر الامبراطوريات ومنها امبراطورية العباسيين. ويرجع ذلك إلى استمرار تأثير اللقاحية العربية طيلة الحكم الأموي مما يتقدم في تحديد ابن خلدون للحقبة الأموية بكونها داخلة في تصنيف البداوة. ومن هنا لم يكن الحجاج مرعباً لحاشيته كما كانت حالة الخليفة العباسي والسلاطين الذين ظهروا على هامش العباسيين.
لكن الحجاج اتباع سياسة قمع استثنائي في تاريخ الإسلام. ولا شك أنه اتصف بخصائص جلاد هي التي جعلته غرار خاص للجلادين المسلمين. لكني أعتقد أن جانباً مهماً من غراريته يرتهن بحقبته التاريخية من جهة بدت بالنسبة له حقبة تأسيس للاستبداد الإسلامي. وكما قلت للتو فالخليفة العباسي كان مرعباً لخصومه وحاشيته على السواء، وقد لا يقل عدد ضحايا بعضهم أو وتيرة وصورة تنكيلهم عما كان عند الحجاج إن لم نجد فيها زيادة مرهونة بدورها بتعقد الصراع الاجتماعي والسياسي بعد الأمويين. وينبغي أن نضع هنا مسألة رد الفعل الذي جوبه به قمع الحجاج من جانب جمهور كان لا يزال حديث العهد بعصر اللاسلطة واللقاح. فضلاً عن ظهره كنقيض لشريعة مستجدة قننت القمع في حدود لا تسمح بانفلات من هذا المستوى. ومهما يمكن فالحجاج تبلور في الوعي الإسلامي كغرار متفرد للقمع الدموي والنظر إليه من هذه الجهة يمثل نظرة الناس إلى حكامهم بوصفهم ورثة الحجاج.
في خطابه الأول على منبر الكوفة يوم استلم ولاية العراق قال الحجاج عبارته المشهورة: «إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها». هو خطيب من البلغاء، وكان الحسن البصري يقول: «ما سمعت الحجاج يخطب إلا وظننت أن أهل العراق يظلمونه!» وفي هذه الصورة البلاغية التي أعلن بها سياسته حلّق الحجاج في خياله الأدبي إلى النقطة التي يتكامل فيها أديب مبدع مع جلاد متفرد. وهي تذكرنا بالخيال البريطاني في الهند حينما كان الموظفون البريطانيون يحشرون قططاً صغاراً في صدور الفلاحات لإرغامهن على دفع الضرائب. والجمع بين «بهاء»الثدي و«بهاء» القطة الصغيرة يقترب في إبداعيته من الجمع في الصورة الأدبية بين رؤوس البشر وعناقيد الكروم التي نضجت للقطاف.
في سعيه إلى بلورة سياسته القمعية استقصى الحجاج سيرة زياد بن أبيه للاستفادة من تجاربه ولعله تعرف عن طريق سماره إلى تجارب أقدم الملوك الروم والساسانيين. والتمس له سنداً من السنة فسأل الصحابي أنس بن مالك عن أقصى عقوبة عاقب بها النبي فحدثه حديث العرنيين (بتفح العين والراء) وهم جماعة وفدوا على النبي متظاهرين بالإسلام فتقبل إسلامهم ولما خرجوا ارتدوا ولقوا في طريقهم راعياً كان يرعى الغنم للنبي فمثلوا به وغرسوا الشوك في عينيه فوجه إليهم قوة ساقتهم إليه ففعل بهم مثلما فعلوا بالراعي. يقول أنس إن الحجاج بعد أن سمع حديث العرنيين خطب في الجمعة فقال: «تزعمون أني شديد العقوبة وهذا أنس حدثني عن رسول الله أنه قطع أيدي رجال وأرجلهم وسمل أعينهم»، قال أنس: «فوددت أني مت قبل أن أحدثه» وكان أنس يداري الحجاج وغيره من أهل السلطان لتمشية أموره المعيشية فلم يعترض عليه ليوضح له أن النبي فعل ذلك على سبيل المقابلة بالمثل في جريمة عادية وأنه لم يطبق هذه العقوبة على خصومه السياسيين. وقد استاء الحسن البصري لما بلغه حديث أنس وقال ليته لم يحدثه. ومن ثم جرى الفقهاء على التحرج في رواية هكذا أخبار حتى لا يساء استغلالها، كما مر في متن البحث في تاريخ التعذيب.
وسيلة القمع الأرأس للحجاج كانت القتل صبراً (الإعدام). ويقدر المؤرخون عدد من أعدمهم في غضون العشرين سنة التي حكم فيها العراق والمشرق ما بين مئة ألف ومئة وعشرين ألفاً. ويمكن التشكيك في الرقم. غير أنه يبقى مهما أنزلناه بعد احتساب نسبة المبالغة المألوفة عند الناس في مثل هذه الحالات ـ فريداً في بابه، ولا يفوقه أو يجاريه في تاريخ الإسلام إلا عدد الذين أعدمهم أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. وقد قدر ما بين مئة ألف وستمائة ألف. مع احتساب المبالغة هنا أيضاً. وطريقته بالإعدام قطع الرأس بالسيف. والذبح من الرقبة أو القفا في حالات. وطبق التعذيب للاستجواب. وتعذيبه هو الضرب والجلد رئيسياً. واستخدام طريقة بشعة في تعذيب رجل من خصومه لإرغامه على الكشف عن أمواله فكان يوضع عارياً على قصب مشقوق يردد جسد فوق القصب. لكن تعذيباته لم تتطور إلى المستوى الذي بلغته عند العباسيين، الذين كانوا يشوون الثائرين عليهم فوق نار هادئة، (بنفس الطريقة التي اتبعها الألمان في حرب الفلاحين) واستعمل الضواري في بعض العقوبات ولكن ليس على طريقة الرومان. والحدث البارز هنا هو قضية اللص الفاتك جحدر: أطلق عليه أسد جائع بعد أن شد يده اليمنى وأعطاه السيف باليسرى. وقد تمكن جحدر رغم ذلك من قتل السبع فعفا عنه الحجاج.
واقتدى بزياد بن أبيه في إعدام النساء. وكن قد نشطن في صفوف الخوارج. واقتبس طريقة زياد أيضاً في توسيع المسؤولية الجنائية لتشمل أقرباء المطلوب من الأبرياء. كما اتبع سياسته في منع التجمهر وكان يمنع الناس من الركوب مترادفين وألزم كل رجل أن يركب وحده. ومن أبشع إجراءاته القمعية إنزال الجنود مع العوائل بدلاً من أن يبني لهم معسكرات خاصة بهم يعشون فيها. وكان هذا الإجراء من أسباب ثورة عمت العراق والمشرق هي ثورة ابن الأشعث. وكانت من خارج صفوف المعارضة وقد قام بها وقادها نفس أتباعه وأعوانه من العراقيين. وانضم إليها الناقمون على سياسة الحجاج وبني أمية في بلدان المشرق. ولما بني مدينة واسط واستعصهما له، استحدث جوازات دخول للقادمين إليها. وأنشأ سجناً كبيراً في الكوفة يزعم المؤرخون أنه كان بلا سقوف ولا غرف فكان السجناء يتكدسون فيه دون حاجز فيما ينهم. وقد فتح السجن بعد موته. ويختلف الرواة في تقدير عدد من وجد فيه. أقلهم يقول إنهم أكثر من عشرين ألف سجين. وقال آخرون إنهم ثلاثة وثلاثون ألفاً. ونقل ابن عساكر رواية لمحدث يدعى ابن الأعرابي أنهم كانوا ثمانين ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة. وينبغي الشك على الأقل في عدد النساء لأن المسيسات منهن اقتصرن في ذلك الوقت على الخوارج ما لم نتوقع أن يكون بين السجناء متهمون بجرائم ومخالفات عادية.
وتوسع الحجاج في السخرة التي استحدثها معاوية فكانت معظم منشآته ومشاريعه تبنى بتسخير الفلاحين النبط.. وقد واجه هؤلاء الفلاحون محنة أخرى من الحجاج حين بدأوا يهجرون قراهم ويهاجرون إلى المدن. وسببت الهجرة انخفاضاً مريعاً في الإنتاج الزراعي. فشن الحجاج حملات لإعادتهم إلى الريف واستئناف الزرع. وكان عليه استخدام أساليب التحقيق البوليسية لمعرفة النبطي من العربي. وقد تعلموا العربية بسرعة لأن لغتهم السامية كانت قريبة الشبه بها. والنبطي حين ينطق بالعربية لا ينطقها بلكنة الأعجمي نظراً لتماثل الأصوات. ومن وسائل الكشف التي استعملها جهاز الحجاج شم الأيدي إذ يقال إن أيدي النبط ذات رائحة تتميز بها. ولعل هذه من طريقة عملهم وعيشهم مع قلة اهتمامهم بالنظافة على سوية الفلاحين. وكان النبط الذين يكتشفهم جهاز الحجاج يحشرون ويعادون إلى قراهم، وكانت هذه المظلمة سبباً آخر لوثبة ابن الأشعث، التي أسهم الفقهاء في تأجيجها. وكان الفقهاء يأتون إلى أماكن تجميع النبط معلنين احتجاجهم بالبكاء معهم. ولم يكونوا قادرين على غير ذلك في المعارضة العلنية لسياسة الحجاج قبل أن ينخرطوا في ثورة ابن الأشعث الدامية. ولم تحقق الحملات، على أي حال، مردوداً مكافئاً بسبب توزيع المهاجرين على المدن العراقية. ثم أصيبت بالإخفاق التام بعد حركة ابن الأشعث. وقد تحدث المؤرخون عن هبوط الإنتاج الزراعي زمن الحجاج إلى حوالي الخمس مما كان في عهد الراشدين وأوائل الأمويين من خلال حصائل الخراج التي أوردوها لمختلف الحقب. ويرتبط ذلك بالنزوح الجماعي للفلاحين.ومن الجدير بالذكر أن هذا الشكل من الهجرة كان يشجع عليه الإسلام الذي اتجه إلى توسيع رقعة المدن على حساب الريف والبوادي. وحرم على المهاجر أن يعود إلى موطنه السابق. كما حرم إعادته من طرف السلطة. وتفنن في ذلك بحديث: «لا تعرب بعد الهجرة» أي لا عودة إلى مواطن الأعراب لمن هاجر إلى المدن.
كان كل إنسان في عهد الحجاج عرضة للسجن أو القتل أو الإبعاد لأي تصرف لا يرضى عنه الوالي. ومع بقاء اللقاحية العربية فاعلة في وجدان الناس لا سيما فرسانهم وشعراءهم فقد حصل نفور واسع من سياسته التي تضمنت الإذلال المتعمد لأي شخصية حرة تتمسك بثوابتها الجاهلية أو الإسلامية بإزاء سلوك الوالي. وكانت علاقته مع الشعراء سيئة خلافاً لسائر الحكام المسلمين. ولم يتقرب إليه سوى جرير بن الخطفي وهو من خلصاء الأمويين وكانت علاقته بهم علاقة مادح بممدوح من المستوى الذي تمعير في البلاط العباسي. وقد تحداه الفرزدق رغم أنه اضطر إلى مدحه:
ومن قبلُ ما أعييتُ كاسرَ عينه
زياداً فلم تَعْلق عليَّ حبائله
وهرب منه شعراء ولغويون إلى الجزيرة العربية. منهم أبو عمرو بن العلاء أحد كبار جامعي اللغة العربية قال: طلبني الحجاج فهربت إلى واد بصنعاء فأقمت زماناً فسمعت إعرابياً يقول لآخر: قد مات الحجاج فقال الأعرابي:
ربما تجزع النفوس من الأمر
له فُرجة كحل العقال.
فلم أدر بأي شيء كانت أشد فرحاً أبموت الحجاج أم بسماع البيت..
ويحدث آخر: هربت من الحجاج حتى مررت بقرية فرأيت كلباً نائماً في ظل حب (زير ماء) فقلت في نفسي: ليتني كنت كلباً لكنت مستريحاً من خوف الحجاج. ومررت. ثم عدت من ساعتي فوجدت الكلب مقتولاً فسألت عنه فقيل: جاء أمر الحجاج بقتل الكلاب.
أراد صاحب هذا الحديث أن يبين شمول ظلم الحجاج للبشر والحيوانات. لكن في حديثه مدلول مهم ينبغي الالتفات إليه. فالكلاب لم تكن تعارض الحجاج حتى تشملها إعداماته. ثم المنحى الآخر (الوجه الآخر) لهذا الطاغية النموذجي هو ما نجده مشتركاً في مجمل سيرة الحكام المستبدين والدول الاستبدادية القديمة لا سيما في الشرق. إن الأمر بقتل الكلاب هو إجراء يندرج في تنظيمات الحجاج المدنية والصحية. وهنا كانت لرجل ثقيف منجزات مشهودة. والحجاج منظم دولة ومجتمع مرموق. وإليه يرجع أقدم تنظيم للبريد السريع بإنشاء سلسلة منظرات أقيمت بين بحر قزوين وواسط لنقل الأخبار بالإشارة. وقد استعمل فيها الدخان نهاراً والنار ليلاً. وفي مواجهة نقص الإنتاج الزراعي الناتج عن هجرة الفلاحين أنشأ الحجاج مشروعات ري كبرى صممت بطريقة تجمع بين سكان المدن وسكان الريف. ومن أضخم هذه المشروعات نهر حفره من الفرات عند بابل وسماه نهل النيل مضاهاة لنيل مصر. وبنى حول النهر مدينة سماها مدينة النيل استمرت عامرة عدة قرون ثم تقلصت بتمصير الحلة المزيدية في أوساط القرن الخامس الهجري. وقال ياقوت عن النيل أنه خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير. وحفر الحجاج نهراً آخر من دجلة في جنوب وسط العراق سماه نهر الصين. نسبة إلى قرية هناك تعرف بهذا الاسم. و نهر ثالث هو نهر الزاب وهو غير الزاب الكردستاني. واستزرع البقاع المحيطة بهذين النهرين. وفي بنائه لمدينته واسط أظهر الحجاج خصاله الشخصية كحاكم متمدن. كان الغرض من تمصير المدينة أمنياً للابتعاد عن الكوفة المعادية له. لكنه بذل جهداً لاختيار موضع ملائم حضرياً ضمن الموقع الاستراتيجي الذي تحدد بتعاً لضرورات الأمن. ولهذا الغرض شكل هيئة من الأطباء لارتياد الموضع. ويلاحظ هنا إناطة اختيار موضع مدينته بأطباء. وقام الأطباء بجولة ما بين عين التمر عند مدينة كربلاء إلى قرب البصرة فوقع اختيارهم على موضع واسط. وذهب نفسه ليراها فاستطاب كما يقول ياقوت ليلها واستعذب أنهارها (أو نهارها) واستمرأ طعامها وشرابها. وكان الموضع مملوكاً لدهقان فارسي فاشتراه منه. وكان بمقدوره كطاغية أن ينتزعه بدون عوض. لكن طغيان الحجاج كان سياسياً. وعني بنظافة واسط فحرم التبول والتغوط داخل حدودها. وعاقب المخالفين بالسجن. وكانت هذه محنة للبدو والفلاحين المارين بها. وكان من المعتاد أن يقضي الغرباء حاجتهم في الفنادق والمساجد لكن البدو لم يتعودوا ذلك.
كان آخر ضحية للحجاج هو سعيد بن جبير وهو فقيه من أصل حبشي تتلمذ على يد ابن عمر وابن عباس في المدينة وأقام في الكوفة، ثم انضم إلى حركة ابن الأشعث مع زملائه من الفقهاء. وبعد اندحار الحركة لجأ إلى مكة فقبض عليه واليها الأموي وأرسله إلى الحجاج فقتله بواسط. وكان الحجاج يتوجس من قتله لجلالة قدره. وصادف أن مات بعده بأقل من سنة ويروى أنه كان يهذي في ساعة الاحتضار: مالي ولسعيد.. مالي ولسعيد.. وقد ربط الخيال الشعبي بين موته العاجل، وكان في الخامسة والخمسين ومعافى، وبين قتله لسعيد.. ونسبوا لسعيد أنه قال له عندما قدمه ليقتل، أنه سيكون آخر قتيل يقتله.
وقف الوعي اللقاحي مشدوداً أمام ظاهرة الحجاج وكان لم يفق بعد من صدمة زياد وابنه عبيد الله. ولم تنجح إجراءات القمع الاستثنائية في حمل الناس على الهدوء. فكانت حركات التمرد مستمرة طيلة حكمه، وشارك فيها الخوارج بنشاط «بنيما انكفأ الشيعة لالتقاط الأنفاس». وكانت أكبر الثرات هي التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث واشترك فيها أهل العراق على اختلاف مواقفهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية. وكانت آخر معاركها أضخمها وهي معركة دير الجماجم التي دامت مائة يوم ولم يتوصل الحجاج إلى كسبها إلا بعد أن توصل إلى شراء بعض الأطراف في معسكر الثوار ليلعبوا في ساعات الصدام الأخيرة دوراً يشبه الأدوار التي لعبها الرتل الخامس في الجيوش العربية في الحروب العربية الإسرائيلية. ومن التحديات الكبرى الأخرى حركة شبب الخارجي وفيها أيضاً بقي الحجاج عاجزاً. حتى ساعده القدر فسقط فرس شبيب به في نهر الفرات أثناء إحدى جولاته القتالية. ووردت حكايات كثيرة عن فدائيين كانوا يردون على الحجاج أو يشتمونه في وجهه ينبغي أن يكون معظمها من صنع الخيال الشعبي. وكان من منتقدي الحجاج في زمانه إمام أهل العراق الحسن البصري رغم أنه عارض الحركات المسلحة بحكم منزعه اللاهوتي. وكان حكمه في الحجاج أنه فاجر فاسق. ولا يقصد بالفجور هنا معناه الجنسي بل المعنى العام للعصيان وارتكاب الكبائر كالقتل ونحوه لأن الحجاج لم يعرف بالإفراط في الجنس ولم يكن زير نساء كما لم يشرب الخمر ولم يشتهر بحب الغناء. وكان عمر بن عبد العزيز يندد بالحجاج في حياته مستفيداً من مكانته كأمير أموي. ولما جاءته الخلافة كان الحجاج قد مات منذ أربع سنوات فنفى أسرته إلى اليمن وكتب إلى عامله عليها: «أما بعد فإني بعثت في عملك (ولاتيك) قدر هوانهم على الله» ابن عساكر 4/84. وفي «إحياء علوم الدين(2/132)» أن عمر بن عبد العزيز عين رجلاً في ولاية فقيل له إنه كان يعمل مع الحجاج، فعزله. فقال له الرجل: إنما عملت له على شيء يسير. فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً.
ومن ذيول ولاية الحجاج وثبة يزيد بن المهلب في البصرة وكانت تحت شعار العمل بالكتاب والسنة «وأن لا تعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، وكان للحجاج كاتب من أعوانه يدعى يزيد بن أبي مسلم عيّنه زيد بن عبد الملك والياً على المغرب فأراد أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في إعادة المهاجرين من البربر إلى قراهم فوثبوا عليه وقتلوه. وأقرهم يزيد على ذلك لتسكينهم. (طبري 5/359).
وعقد ابن عبد ربه في «العقد الفريد» فصلاً بعنوان: «من قال إن الحجاج كان كافراً» استوفى فيه أقوال الفقهاء وغيرهم في تكفير الحجاج، والتكفير هنا لازم عن سياسته لا عن عقيدته، لكن الفكر الديني تحرج في إدانة الحجاج. نبه رجال الدين إلى تدينه وإيمانه الصادق. وعند أهل الدين أن المسلم إذا لم يكن من أهل الأهواء (خارجي، أو معتزلي، أو باطني) فهو مستحق للغفران ولا يجوز لذلك الحكم عليه بشيء من أفعاله لأن الإيمان لا يضر معه شيء.
أدولف هتلر:
أدولف بن ألويس (Alois) ولد أبوه نغلاً فاتخذ لقب أمه إذ لم يكن يعرف أباه. ثم حمل لقب هتلر باختياره. فهو في هذا اللقب «دعي» النسب. وقد ترددت أقوال عن يهودية الفاعل الذي جاء بالويس إلى الدنيا. وإن لم تجد لها سند يوثق به.
اشتغل الويس موظف جمرك وتزوج وولد له أولاد أحدهم أدولف. ونفهم من هذا أن أدولف هتلر كان يحمل عقدة زياد بن أبيه، التي خلا منها الحجاج بن يوسف. اتجه أدولف أول الأمر إلى الفن، وكان يهوى الرسم، لكنه أخفق في دخول أكاديمية الفنون الجميلة لأن علاماته الامتحانية كانت دون المطلوب. فبقي على مؤله الثانوي. ولم يبذل جهداً للانشغال من أجل كسب الرزق. وإنما اعتمد على التقاعد الذي ورثته الوالدة من الوالد.. إلى أن ماتت الوالدة وانقطع التقاعد فتشرد أدولف، وكان يعيش في مأوى البلدية متنقلاً من مأوى إلى آخر. ولم تكن له قدرة على توطيد وشائج مع الناس وأظهر نزعة عدم تسامح مبكرة. وفي ثقافته السياسية في صباه، نزع إلى مقت الشعوب غير الجرمانية. وبسبب حرمانه ومنبوذيته كان يمقت العالم البرجوازي. لكنه لم يتحول إلى الاشتراكية بسبب كرهه للماركسيين. ويأتي هذا الكره ليس من دوافع طبقية بل من أممية الماركسيين ورفضهم للشوفينية الألمانية والعنصرية الجرمانية. وإلا فإن منسحقاً مثله كان بمقدوره أن يجد الملاذ في طبقية ماركس الجذرية.
تقول الموسوعة الأمريكية إن أدولف كان غير سوي جنسياً. فقد عشق ابنة لأخته غير الشقيقة، وعاشرها كعشيقة، لكنها انتحرت فيما بعد لشعورها بالاختناق تحت ذراعي طاغية كما بدا لها، فعاشر إيفا براون، وكانت شغيلة في حانوت، وبسبب تشرده لم يتكون لديه مزاج عائلي فأبقى علاقته مع إيفا حرة ولم يتزوجها شرعاً إلا في أيامه الأخيرة.
الثقافة الأساسية لأدولف هتلر هي ثقافة العنف. وقد درسه بإمعان من شتى الوجوه. ومن هنا توجه إلى الجيش: أراد أولاً الدخول في الخدمة العسكرية فلم يقبل لعدم لياقته، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى أتاح له فرصة التطوع. وكان ذلك كما تقول الموسوعة البريطانية بمثابة إنقاذ له من الإحباط والحياة المدنية غير الهادفة. واشتغل في البداية ساعياً للمقرات. وقيّمت شجاعته الفعلية بصليب حديد من الدرجة الثانية عام 1914 ومن الدرجة الأولى عام 1918. وفي 1919 انضم إلى حُزيب العمال الألماني كوكيل سياسي عن الجيش. ثم ترك الجيش وتفرغ للحزيب الذي تطور فيما بعد إلى حزب و الحزب الاشتراكي الوطني (النازي).
ظهرت قدرات أدولف هتلر كبلطجي مع تشكيل «عصابة الذراع المتين» التي خصصت لحماية اجتماعات الحزب. وقد استطاع الهيمنة على العصابة ووجهها لمهاجمة الاشتراكيين والشيوعيين. ونما نفوذه سريعاً مع نمو كفاءته في هذا المضمار وفي ظروف كانت ألمانيا فيها متوعكة الروح بعد هزيمتها الشنعاء في الحرب. وأظهر هتلر إلى ذلك مواهب سياسية وتنظيمية ساعدته على التقدم في نشاطه الحزبي. وقد وفر فشل الحكومة الألمانية في السياستين الداخلية والخارجية فرصة لنمو شعبية الحزب النازي استفاد منها هتلر لدفع الحزب إلى المقدمة. وأبدى في هذه المرحلة قدرة عجيبة على الدعاية والتأثير الجماهيري. وقد تكاملت هذه العوامل في مجملها من ذاتي وموضوعي لإعطائه دفعة هائلة أوصلته إلى قيادة الحزب وأوصلت الحزب إلى السلطة. ومن طريف ما حصل أنه وجد الطريق ممهداً إلى السلطة بالانتخابات دون حاجة إلى عنف! وكانت الانتخابات التي نجح فيها هتلر وحزبه هي آخر انتخابات في ألمانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
الشخصية القمعية لهتلر معروفة، وإجراءاته معروفة ولم تتحول بعد إلى تراث شأن سياسة الحجاج. فقد عايشها جيلنا الذي أدرك مآسي الحرب العالمية الثانية، وهذه الحرب أشعلها هتلر وقد ابتلعت عشرين مليوناً من الأوروبيين عدا المجندين من آسيا وأفريقيا.
تهيأت لهتلر وسائل تعذيب وتنكيل لم تتوفر للحجاج بسبب التقدم الصناعي والتكنولوجي. وقد مكنه ذلك من ممارسة القتل الجماعي الذي لم يكن يتيسر للحجاج بدون السيف. ومعروف أن هتلر استخدم أفران الغاز لإبادة اليهود وغيرهم من خصومه السياسيين والإيديولوجيين، وأن ضحاياه من اليهود وحدهم بلغوا ستة ملايين، مقابل مائة ألف من ضحايا الحجاج. ويرجع الفارق في الكم إلى الفارق في التطور التكنولوجي.. لكن هناك عوامل أخرى حكمت هذا الفارق الضخم في كم الإرهاب الرسمي بين الغرارين، نضع في الاعتبار فروق الشخصية:
1 ـ تشرد هتلر وعائلية الحجاج.
2 ـ شرعية ولادة الحجاج ونغولة هلتر. وهذه لا علاقة لها بمسألة الدم وإنما تنتج مضاعفاتها السلبية في شخصية الفرد من النبذ الاجتماعي. فالمجتمع البشري حتى في أشد حالات الانحلال العائلي كما في الغرب لا يزال يميز بين ابن الحلال والنغل.
3 ـ سوية الحجاج جنسياً وعدم سوية هتلر. وتجربته مع ابنة أخته تكشف عن مضاعفات حادة للنبذ الاجتماعي في شخصيته، وحيث أنه لم يعرف بالشبق أو الإسراف في الجنس والتهتك، فإقدامه على ابنة أخته يجب أن يكون من ملابسات شخصيته الاجتماعية ـ أصله العائلي.
4 ـ انعدام الروادع بالنسبة لهتلر وحضورها في حالة الحجاج. وهنا نقف على جملة أمور:
ففي حالة الحجاج، هناك شرعية يبقى الجلاد مضطراً إلى الرجوع إليها في حالات معينة. واستفساره من أنس بن مالك يكرس هذه الضرورة. وثمت واقعة يرويها المسعودي في أخبار الحجاج من «مروج الذهب» تلقي ضوءاً على هذه الحالة. قال جيء برجل من بني عامر من أسرى «دير الجماجم» فقال له الحجاج: «والله لأقتلنك شر قتلة» فقال الأسير: «والله ما ذلك لك..»قال: ولم؟ قال: لأن الله يقول في كتابه: «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب.حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما مناً بعدُ وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها».
وأنت قد قتلت فأثخنت وأسرت فأثخنت فإما أن تمن علينا أو تفدينا عشائرنا. فتراجع الحجاج أمام النص وأطلق الأسير. وأنكر مرة أن يكون الحسنين من ذرية النبي فرد عليه متبحر يدعى يحيى بن يعمر كان من الحاضرين وقال له: كذبت. فقال له الحجاج: لتأتيني ببينة على ما قلت من كتاب الله أو لأضربن عنقك. وتفيد بعض الروايات أنها كانت مناسبة عيد الأضحى فأراد الحجاج أن يضحي به للعيد بدل الشاة. فأحاله إلى آية تتحدث عن إبراهيم فتقول: «ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا. ونوحاً هدينا من قبل. ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون. وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين» وهنا قال يحيى: عيسى من ذرية إبراهيم وهو إنما ينسب إلى أمه مريم. والحسن والحسين ابنا رسول الله من قبل أمهم. فتوقف الحجاج عن قتله إلا أنه نفاه إلى خراسان حتى لا يواصل دعايته في العراق.
ووفرت الثقافة الأدبية للحجاج رادعاً آخر. فكان البعض من ضحاياه يتخلصون من القتل بعبارة بليغة يطرب لها فيعفو عنهم. وتدخل في بابه البلاغة مواقف مصارحة تعجبه فيفرج عن أصحابها. و من نوادر قضية الأسرى في وثبة ابن الأشعث أن أسيراً قدم ليقتل فقال له: إن لي عندك يداً (فضلاً). قال ما هي؟ قال: ذكر ابن الأشعث أمك فرددت عليه. فسأله من يشهد لك؟ فقال: صاحبي هذا. وأومأ إلى رجل من الأسرى. فشهد له الأسير، فسأله الحجاج: وأنت ما منعك أن تفعل كما فعل؟ فأجابه الأسير الشاهد: لقديم بغضي إياك. فقال الحجاج: أطلقوا هذا لصدقه وهذا لفضله.
هتلر لم يكن في وضع مماثل: فهو لم يكن يرجع إلى شريعة سماوية أو أرضية يذكره بها ضحاياه، وكان يفتقر إلى الثقافة، ومعارفه تقتصر على السياسات العسكرية. ويمكن أن نضع إلى جانب ذلك فوارق الوضع الحضاري والقيم الثقافية بين الأوروبيين والعرب. حيث الغلبة في أوروبا للأدب القصصي، وعند العرب للأدب الغنائي. وبالتالي فحتى لو كان هتلر امبراطوراً مثقفاً فإن بيتاً من الشعر أو نثرة بليغة ما كانت قادرة على جعله يلغي قراراً بالقتل. وثمة أيضاً اختلاف طريقة أو آلية القمع. ذلك أن ضحايا الحجاج كانوا يوقفون أمامه فتتاح لهم فرصة للكلام. وكان هو يناكدهم ويتبادل معهم الشتائم. أما هتلر فيصدر أوامره بالإعدام عن طريق المحاكم، وبالإبادة الجماعية عن طريق جهازه البوليسي والعسكري، وبالاغتيال عن طريق عملائه السريين. فليس له علاقة مباشرة بضحاياه تسمح لهم بمحاورته وجهاً لوجه.
لدى البحث في خلفية الجنوح لدى الغرارين نجد ما يلي:
هتلر ألماني مأخوذ بتفوق العرق الجرماني وتحركه الشوفينية الألمانية في وسط مشبع بهذه النزعات التي تنتشر على نطاق أوروبا كنعصرية للعرق الأبيض، وتتفاعل في ألمانيا العرقية الجرمانية. والعنصرية البيضاء لا ترى للإنسان حرمة خارج النسب الآري (مشروطاً بالإقامة في أوروبا، لأن الآريين الشرقيين مشمولون بالتحيز العنصري). وهي لذلك تبيح دمه. وكانت إباحة دم اليهود من هذا الباب. لكن الألماني الذي لا يوافق على هذه العقيدة يعامل كمرتد. ومن هنا إباحة دماء الاشتراكيين والماركسيين الألمان.
ولهتلر رافد من الأيديولوجيا الألمانية المتمترسة بمبدأ القوة والدولة كما تناوب على إشباعها وتأريثها فيخته ونيتشه وهيجل وشوبنهاور وغيرهم . وهو على عدم عنايته بالفلسفة مريد تاريخي لنيتشه.
إيديولوجيا الحجاج هي الحق الأموي المصعّد إلى مرتبة الحق الإلهي. وكان الحجاج يؤمن بالخليفة الأموي إيماناً دينياً هو الذي جعله يقول وقد مرض يوماً:
إني والله لا أرجو الخير إلا بعد الموت!
جاعلاً من إيمانه بالحق الأموي طرقه إلى الجنة. وهو الطريق الذي بلطه بأجساد المعارضين لبني أمية. ولم تكن للحجاج مشكلة عرقية فضحاياه الأكثر عدداً كانوا هم العرب. كما لم تكن وراءه فلسفة تنظّر للعنف الدموي فيما عدا الخلفية الدينية التي يستمد منها المتدين حين يكون في السلطة مقومات وجدانه القمعي. والحجاج من المتدينين كما يستفاد من سيرته الشخصية.
ماذا قدم الغراران للحضارة والمدينة؟
تقول الموسوعة البريطانية إن هتلر لم يقدم للبشرية أي مساهمة مادية وأخلاقية وإذا استندنا إلى النية فهتلر معاد للإنسان ويتعذر عليه فعل ما يخدم البشر عن وعي. لكن مغامراته العسكرية حملته على تنشيط الصناعة والتكنولوجيا. فتقدمت ألمانيا في زمانه أشواطاً بعيدة في هذا المضمار. وقد انتقلت التكنولوجيا الألمانية إلى البلدان الأخرى فخدمت تطور صناعاتها وتقنياتها. ويأتي هذا الإنجاز غير المقصود في مجرى نمو مدنيّاتي تعيشه ألمانيا والمحيط الأوروبي.ومن شأن هكذا وضع أن تنخرط فيه السلطة بصرف النظر عن نياتها وطريقتها في الحكم. وهو نفس ما يقال عن منجزات الحجاج كتحققات سياقية في مجرى مدنية نامية. ولا مجال بالطبع للكلام عن منجز حضاري قدمه أي من الغرارين الدمويين. فهما مفلسان أخلاقياً: المدنية يهم فيها الجلادون. أما الحضارة فإنشاء معرفي اجتماعي يتكامل فيه جهد الثقافة مع الفعل الشعبي كنقيض للسلطة كمروّج من جهته للقيم الأخلاقية التي تدخل في المنظومات المعرفية لأهل الفكر، ولا شغل للسلطة هنا.
خطوط الإدانة:
مرت بنا آراء المسلمين بالحجاج ومواقفهم منه. والاتفاق على إدانته شامل لجميع المذاهب والفرق بمن فيها الحنابلة الذين أظهرت جماعاتهم انحيازاً للأمويين.وقال عنه الذهبي وهو حنبلي متعصّب: «له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه» (سير أعلام النبلاء ـ ترجمة الحجاج) وهذا أدق تقييم يحظى به الحجاج: حسناته، إنجازاته، مفردات مغمورة في بحر من الذنوب، وكأنها قطع صغيرة من الذهب غرقت في المحيط ففقدها صاحبها وتلاشت آثارها..وذنوب الحجاج هي القتل وليست هي الذنوب الدينية التي يتمسك بها رجال الدين في تمييز الفاسق من المؤمن، فالحجاج كما بينا لم يكن يشرب الخمر أو يستمع إلى الغناء ولم يعرف بالزنى وكان يتمسك بالفرائض والعبادات ويؤديها على أحسن وجه. وهكذا فحين يجعله مؤرخ حنبلي غارق في بحر الذنوب فلا بد أن نتصور حجم الإدانة التي لقيها هذا السفاك المسلم من مُداينيه المسلمين. ويخرج عن الخط شعبيته في بلاد الشام، الموالية للأمويين آنذاك. ويقال إن شامياً وقف على قبره بعد دفنه وقال: «اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج» والمقصود بالدعاء أن الحجاج ستكون له مكانة الشفيع عند الله، وهي مكانة تختص بالأنبياء، والشامي يدعو أن تشمله شفاعته حتى يدخل الجنة، ولا يدخل في حساب شعبية الحجاج الشامية إسناد ثقافي. إذ لم يتجرأ فقيه أو متكلم شامي على تزكية الحجاج. وكان الفقهاء والمتكلمون معارضين في جملتهم للأمويين، ولكن ذكر ياقوت في مادة «واسط» من معجم البلدان أن رجلاً يدعى الوهاب الثقفي دافع عن إنجازات الحجاج، ولم أقف على ترجمة لهذا الشخص، ولعله كان مدفوعاً بعصبيته القبلية.
جوبه أدولف هتلر بنفس النطاق الشامل من الإدانة على مستوى أوروبا والكوكب.. لكن ألمانيا مشت وراءه مثلما سار أهل الشام خلف الحجاج، وقد واصل إلى السلطة بالانتخابات، والانتخابات في أوروبا حرة دائماً. وثمة ما يجمعه بالكثير من الألمان وهو العرقية الجرمانية والشوفينية الألمانية مع عبادة القوة والعنف، ولقي هتلر دعم آباء وفلاسفة ضخام من قبيلة عزراباوند ومؤسس الوجودية مارتن هايدجر، وتبنى مبادئه قطاع واسع من مثقفي الطليان والإسبان والبرتغال. ولا يزال شطر وافر من الرأي العام يتمسك بذكرياته من وراء الانخراط في الحركات النازية والفاشية الجديدة. ويمكن القول إن الغرب في جملته يصدر بهذا القدر أو ذاك عن منطلقات هتلر في التعامل مع الشعوب الشقية الملونة. لكن التنوير الغراوي ومعه الكوكبي في العموم يواصل تصديه للهتلرية. وللماركسيين فضل الصدارة في هذه السيرورة المديدة، التي ينتظم فيها العديد من الأحرار غير الماركسيين بل والمتناقضين مع الماركسية إن في منهجها العلمي أو اقتصادها الاشتراكي، وبين المعارضين للهتلرية رجال دين تأثروا بالمنحى الإنساني للأناجيل، وقفوا من هتلر موقف الفقهاء المسلمين من الحجاج، وبخلاف هتلر لم يكن للحجاج نصير من الأدباء غير جرير، الموالي للأمويين. ولم يدافع عنه أحد من الوسط الثقافي طيلة العصور الإسلامية.
أوصاف الحجاج لمن يريد رسمه من الفنانين:
كان أخفش لا يقوى على فتح عينيه في الشمس. ساقاه نحيلتان مجرودتان وبدنه ضئيل. وكان دقيق الصوت غير مكتمل الرجولة في نطقه برغم ما تمتع به من الفصاحة والبلاغة. هكذا وصفه المؤرخون. ومن الأفضل أن ينظر إلى هذه الصفات في حذر لأنها قد تكون انطباعية أكثر منها حقيقية.. والحجاج في الفولوكلور الشيعي أعور، وهي صفة مشتركة لجلادي الشيعة مثل يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد والشمّر بن ذي الجوشن.
08-أيار-2021
24-حزيران-2006 | |
01-أيار-2006 | |
23-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |