حرب أخرى...
2006-08-15
إثنان من أصدقائي هما باسم المرعبي، الشاعر العراقي الذي غادر دمشق إلى السويد منذ منتصف التسعينات، وأحمد جان عثمان الشاعر الصيني الذي غادر دمشق أيضاً إلى كندا، بعد سنوات من العيش والدراسة والصداقات والزواج من امرأة سورية. هكذا يغادر الشعراء من متردّم.
يكتب لي باسم انه كان يبحث عن عنواني منذ زمان حتى أخيراً قرأ لي مادة منشورة في "كيكا" مأخوذة عن ملحق نوافذ منذ مدة وفي أسفلها العنوان الالكتروني الذي يصر صموئيل شمعون على ارفاقه بالمادة المكتوبة وهذه فضيلة لن انساها له، لا لشيء، بل لأنني كنت فعلا أبحث عن عنوان باسم منذ فترة طويلة، حتى انني قبل سنتين أوثلاث اتصلت بهاشم شفيق الذي يعيش في لندن أسأله إذا كان لديه أية فكرة فقال لي انلديه العنوان القديم لأن المرعبي انتقل إلى مكان جديد وليس لديه أية فكرة أين يقطنالان. إلى ان زرت دمشق وهناك التقيت بالصدفة بحميد العقابي الذي يقيم هو الاخر فيالدانمارك لأسألة ان كانت لديه أية فكرة عن العنوان فيعطيني اياه، لأقوم بعد عودتيإلى اميركا بمراسلة باسم وارسال بعض الكتب إليه لتعود كلها بخفي حنين مع الاهداءاتالمرصوفة على اول الصفحات البيضاء.
تقفز إلى دماغي رائحة عتيقة لفترة من الصعبعلي نسياتها، التسعينات وحرب الخليج ودخول صدام حسين إلى الكويت ونزوح العراقيينإلى الصحراء العربية وكان أغلبهم كتابا وصحافيين وسينمائيين وشعراء ومنها إلى ارضالله الواسعة. كل الدم الذي اريق في حرب ايران وخراب البصرة لم يكف، وكل الاشباحالتي ترقص لهذا العري امام الكاميرات لم يكف. كان لا بد ان تنهدم البلاد علىابنائها كي يكون لدينا اصدقاء شعراء ومجانين يبكون آخر الليل بعد بطحة عرق. كان لابد ان تخرب البصرة لأتعرف على الرجل الذي صدمته سيارة في شارع 29 مقابل المركزالثقافي الروسي وإذا به آدم حاتم الممدد على الاسفلت. أو في "الفريدي" الحانة التيلمحت فيها جميعهم، هناك حيث كان ينقصنا أبو نواس ليأتي إلينا من شارع هارون الرشيدويكمل معنا كأس البيرة على مهل وتحت ضوء دمشق ليموت آدم بعد فترة في صيدا وحيدا فيقبر ليس على مقاسه وليس له نوافذ لكي يتنفس آخر الليل.
لن الوم شاكر الانباريالذي افتقدته كثيرا بعد عودته إلى العراق وانقطاع اخباره. هذا الذي كان صعلوكاً منطراز غريب، الغرابة هنا انه كان يرسم ليلته قبل دخولها، يرسمها بقلم الرصاص في شارعبغداد في المطعم الديري والذي اغلب عماله اكراد وجزراويون من الشمال السوري وحينتأخذنا جميعا غفلة المكان إلى حواكير العاصمة وشوارعها الخلفية.. حيث المستريحون فيالغرف المهدمة، النائمون بسلام وطمأنينة الذين تعثرت بأحدهم، وأمشي في الظلام اتبعرائحة الشواء. أنا الذي عشت في دمشق قرابة السبعة عشر عاماً اتى الأنباري من العراقليعرفني عليها.
كان لكل حروب العراق ان تحدث لكي اتعرف على دمشق، ولأعرف ان ثمةقاصة قادمة من حلب سنقضي الليل كله نراقصها في الطابق السابع حيث كان وضاح السيديشرح لي ازمته العاطفية مع احدى خطيباته. تتزوج القاصة القادمة من حلب في النهايةمن رجل متدين من الكويت سأتحسس كل ذلك بهلع.
الخسارات والقطط التي تموء امامعربات الشواء والمطاعم بعد منتصف الليل في السوق العتيق القريب من ساحة المرجة. كلهذا الزمن ماذا سنكونه الآن، وأي ضمير يحتمل تلك الرنة دون أن يهيم على وجهه، ماالذي سأكتشفه وأنا أحاول أن أرفع الستارة قليلا عن المشاهد المرصوفة في رأسي كعلبسردين على رف. سأتذكر سحبانسواحالذي باع سيارته وبيتهلأجل أن تبقى مجلة "ألف" التي كانت سكناً آخر لنا، وحين خسر كل شيء انفض عنهالجميع. الغريب أنها بدأت الدور في ذروة هجرة العراقيين، ذروة حرب اخرى. في أوراقهمتجولت في الأهوار وبغداد والموصل وكركوك ونزحت معهم إلى الرفحاء. لم يكن عادياً انتقرأهم والنار تأكل كل شيء في بلاد أبيهم القائد والمنصور. ربما يكفي صوت حسين نعمةلتعرف كم عمر النخيل المحترق على أطراف دجلة في قصائد كريم جواد ومحمد مظلوم وهوشنكالوزيري وكولالة نوري وآخرين لفحتهم ظهيرة الجهات الأربع.
جلسة مرة جمعتنا معأدونيس في مقهى الروضة. وجه باسم المرعبي الهادئ والحاد والسيماء الخجولة كلهاانعكست في البحيرة الصغيرة المرصوفة قربنا. كنت انظر إلى أدونيس كأحد آلهة الاغريقوكانت تلك المرة الأولى التي اتعرف فيها عليه. وبعد ثلاثة عشر عاماً سألتقي به فينيويورك، في مقهى آخر، ولا أعرف ما الذي حدث بالضبط، تحديدا بعد أن قطعت أكثر منساعة ونصف في رحلة قصيرة بين نيوجرسي ومانهاتن لأراه.
كنت كالميت المرمي فيحفرة، وكان يلبس قبعة جميلة، وروحي ملفوفة بالسيلوفان، متأملاً المروحة التي فيالسقف طوال الوقت. أحمد جان عثمان يكتب لي الان من كندا، لقليل من كل شيء سأسألنفسي ماذا يحدث. ها إنني التفت إلى الوراء، إلى أيام المدينة الجامعية، حيث كانأحمد يدرس اللغة العربية في جامعة دمشق، وأنا أدرس في كلية الحقوق، وهو تمكن مندمشق اكثر من اهلها، ليصدر بعدها عدة دواوين، كتب عن أحدها في مجلة الناقد صديقناالمشترك ناظم مهنا.
هذا الصيني المأخوذ بالفلسفة والجدل سيقع في حب امرأةسورية، ليتزوجها ويقيم في مدينة أهلها "طرطوس". كان سورياً على طريقته. يأتي منيطرق بابه ليقول له عليك ان تغادر. الصين تريد رأس الشاعر. ليس أكثر من زقاق أريدأن أتمشى على رصيفه الضيق وليس أكثر من أعوام هدرناها بقليل من الصبر، وها نحنكبرنا وصرنا آباء مكشوفين، نبكي قبل أن ترف العين، وتلزمنا الحيلة لكي نثبت هذهالصفة امام الأبناء. يلزمنا سهول عريضة لنتوعد الأشباح وندفع أثمان أعمارنا على مهلوبضراوة لا تقل عن شتيمة في فم سائق تكسي وسط الزحام. ما اجملك يا افريقيا إذبامكان الشجر أن يعوي في غاباتك. أو أن أنهض ككائنات سبهان آدم الممسوخة بعينينمغمضتين دون صعوبة تذكر، هو الذي هجر المدرسة باكراً لأن الشمس التي يرسمها المعلمعلى السبورة تشبه شمس الحسكة. تكتب لي صديقتي عناية جابر انها ذاهبة إلى باريس، ترىهل يلزمنا كل هذا الذهاب إلى الامكنة ليتكسر آخر الغصن الذي يميل على ظلالنا. تأخرتبالكتابة الي، أنا الذي اقول لها دائماً: هذا الصيف سأنزل إلى بيروت، وسنذهب سويةلزيارة بسام حجار في صيدا. لن يكون لشيء أي أثر وأنا أبتسم ابتسامة المؤرخين ملقياًقليلاً من النظر على الأطلال التي ورائي وأنا أفتح زجاجة الكونياك دالقاً اياها فيحلق القط الذي لا يكف عن المواء طوال الليل تحت نافذة بيتي، فصار صوته ملوياً كأحدسكارى بلدتي الهائمين على وجوههم لا يلوون على شيء، سوى غناء جريح وعتابا مكسرةالاوصال عن المرأة التي لم يرها احدهم الا في ليلة الدخلة. سيغرق كل شيء بعد قليلوأنت تقدم لحمك للجرذان المرسلة في كل اتجاه.
08-أيار-2021
03-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
15-آب-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |