يا باب الورد، حِصَّة وين؟
2008-02-18
"...يا باب الورد قلْ لي: وينها اللي كلّ دقيقة تمتحني وتعنّ بالبال/ وهي تسكنْ حنايا الروح/ مع البحرين/ يا باب الورد حصّة وين؟/ ولا أظنك تجاوبني/ والليالي معاك تميل/ وأنا واقف وقدامي/ كتير أبواب..." مستحيلٌ أن تستمع إلى هذه القصيدة بصوت شاعرها مع موسيقى محمد قاسم حدّاد إلا وتتجمّع الدموعُ في مآقيك. وحينما يصل الشاعرُ إلى سؤاله الطفوليّ الموجع: "يا باب الورد حصّة وين؟" ستضبط دمعةً وقد خانتكَ وطفرت. ليس فقط بسبب الغُصّة التي تغمرُ صوتَ الشاعر مع هذا السؤال، بل لأنه السؤالُ الأصعب الذي لن يجيب عنه أحد. يطفرُ الدمعُ لعجزك عن الإجابة، وعجزك، من ثم، على تحمّل السؤال وتبعته. سؤالُ الطفل حين لا يعود يرى أمه: فين ماما؟ ويحارُ الكبار. لأن الإجابات الكلاسيكية:
ماما راحت السما، راحت عند ربنا؛ لم تقنع طفلا أبدا. لأن الطفلَ إذْ يسأل، لا يريد إجابةً، هو يريد الماما. ولا شيء أكثر.
أما القصيدة فللشاعر البحريني الجميل علي عبد الله خليفة، وأما "حصّة" فأمُّه التي فارقتْه قبل سنوات على أن غصّةَ فراقها لا تفارق. إلى أين تتركنا أمهاتُنا ويرحلن؟ ولمَ؟ وما لونُ الحياة بعد تلك "الخيانة" المقدورة؟ لو أن أمك رحلت فسوف يُمثّل سؤالٌ كهذا لغزا مُرًّا لا يني يناوئك ولا تنفكَّ تبحثُ له عن جواب. ولا جوابَ ثمةَ سوى تردادِ السؤال في قاعك إلى الأبد. ولو أمُّك معك، فسوف يَمثُلُ السؤالُ كزلزالٍ تتمنى ألا تشهده. أما لو كانت تحتضر بين يديك وأنت عاجزٌ عن نجدتها، ونجدتك، فسيغدو السؤالُ تعويذتَك لكي تستبقيها أياما أكثر، تشفعًّا بأنك بعدُ غيرُ مستعدٍ لذاك السؤال الشاهق.
أخبرني حسين سليمان، الروائي السوري، أنه حين أراد الخروجَ من حب الصبا الأول، ظلَّ يردد اسم حبيبته بصوت عال. بعدها خرجت من قلبه إلى الأبد. هو يؤمن بنظرية طبقات اللاوعي عند كارل يونج، وبتكراره نداءها يحاول استخراجها من ظُلمة اللاوعي الأعمق السحيق، المتحكِّم في مادته النفسية، إلى مساحة الوعي السطحيّ، وفي أثناء تلك الرحلة الطويلة الوعرة، تُستهلَك طاقةُ الحبيبة، حتى تنفد. وهي إن نفدتْ طاقتُها، ماتت. بالنسبة له. وأعترفُ أنها حيلةٌ على قدر رهيب من القوة "النظرية"، وها هو أكّد "تطبيقيتها". ولكن، هل تُجدي تلك الحيلة النفسية الروحية مع الأم؟ فيظل يردد خليفة اسم "حصّة" كي تخرج منه؟ أو يخرج منها، وأظلُّ أردّدُ، بالمقابل، اسم "سهير" لتخرج مني؟ ليتها تُجدي. لن تجدي. لأن الأمهات لسن كائناتٍ عابرةً تمرّ بحياتنا، بل هي أحد مكوّنات مادتنا النفسية. وحين يختفي عنصرٌ من مادة ما، تتبدل طبيعُتها. تتشوه. لذا نظلُّ حافظين تلك الذكرياتِ المكوِّنةَ ذاكرتنا العميقة، ولو آلمتنا، من أجل البقاء. من أجل ألا نتشوّه.
أمهاتُنا، اللواتي شاهدناهن في طفولتنا كالأميرات، كيف يمرضن ويضمرن ويضؤلن حتى يتحولن إلى كومة من العظام الرقيقة تتمدد فوق سرير فلا يكدن يشغلن نصفَه؟ أين يذهب الجمالُ والشباب والتوقّدُ. وأنا طفلة كنتُ أرى أمي أقوى نساء الأرض شخصيةً وبأسا وذكاءً وجمالا. كانت في نظري كائنا خارقا كما إلهات الرومان جمالا، وإلهات الإغريق حكمةً. والآن، أرمقها فوق سرير النهاية مثل طفلة يمكن حملها فلا أقوى على النظر. أخاف. أغضب. أثور. أشعر بأن ثمة مؤامرة منها ضدي. فضعفُ الأمهات قبل إسدال الستار تعسّفٌ وتآمرٌ منهن علينا. أجهد أن أتذكر كم مرةً قست عليّ وأرغمتني على الاستذكار وعدم اللعب؟ كم مرّةً ألقمتني طعامًا لا أحبه لأنه مفيد، كم مرة عنّفتني وأبكتني. وتخونني ذاكرتي. ليس لأن ما سبق لم يحدث. بل لأنه حدث كثيرا. لكن الذاكرة متآمرةٌ أيضا مثل الأمهات. ترفض أن تمنحنا ما بوسعه أن يخفف عنا وجع المشهد. كل ما هنالك أجدُني أخاطبُ تلك السيدة الشاحبةَ في غيبوبتها النبيلة: عودي إليّ ولا تمضي قبل أن يشتدّ عودي. فقط عودي!
هل سيغضب علي عبد الله خليفة لأنني أضغط الآن بسنِّ قلمي على مكمن وجعه؟ ربما يلعنني. لكن، لا بأس أن يمارس المرءُ شيئا من الأنانية فيخفف بأوجاع الأصدقاء أوجاعَه الخاصة. ثم أن خليفةَ شاعرٌ، ويدرك أن القصيدة متى كُتبت لم تعد له. هي مُلكٌ لكل البشر فيما عداه هو حصريا. ومن ثم تغدو "حصّة" كلَّ أم تقسو على طفلها وتتركه وحيدا. وأنا بعدُ طفلةٌ، ولو تعديت الثلاثين والخمسين والسبعين. كلُّنا طفلٌ حالَ الكلام عن الأم. طفلةٌ أنا، لا أقوى أن تتركني "حصتي" وتمضي. إلى أين تمضين يا أمٌّ وثمة كفُّ ما تزال تتعلّقُ في طرف ثوبكِ؟ ثمة طفلةٌ تحتاجك!
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |