الإحترام والتسامح بين المسيحية والإسلام / جوليو تشيبلوني ــ ت
2008-03-18
إن القراءة المُتمَعّنة للأحداث الراهنة تقودنا إلى التفكير في الأسباب العميقة التي ولّدتها وغذتها. واحد من بين هذه الأسباب، ذي الثقل المحدِّد، يَنبع من التصوّر الثقافي للآخر: والآخر هو كلّ مَن لا ينتمي إلى المجموعة التي تقف على إرثها التاريخي الخاص. وفي غالب الأحيان يُعمد إلى قراءة الأحداث التاريخية إمّا لتعليل مشروعية التعايش السلمي والحياة السعيدة، أو لتبرير الحرب والاستنزاف الدائم، والتآكل بسبب الظنون والمخاوف المتبادلة.
أبواق الدعاية لهذين التصوّرين، أعني العيش في كنف السلام والتعايش السلمي، أو العكس، أي الأفكار المسبقة والتعصّب، الشيء الذي يؤدي إلى اختلاق تعليلات لعنف جديد، هي وسائل الإعلام. ولكن الظاهر أن وسائل الإعلام مائحة في غالب الأحيان إلى اظهار البعد السلبي المثير من حياة المجموعات.
وليس من سبيل الصدفة أنها كثيرا ما تبثّ مشاريع عنف وحرب عوضا عن مشاريع انفتاح كوني، من طرف مجموعات مصغر مضغوط عليها، لدرجة أنها تلجأ إلى العنف كردّ فعل. لكن إن تصفحنا التراث التاريخي سنعثر على حالات سلام وحرب، وعليه فإن التاريخ يمكن أن يُقرأ كمُعلّم حياة (magistra vitae) أو مُعلّم موت (magistra mortis). إنه أمر مُعزٍّ وباعث للرجاء ملاحظة أن في ذروة الحملة الصليبية والجهاد الأصغر، نعثر على تجارب مشرقة في التسامح والتعايش السلمي.
لقد وقع اختيار الحقبة التاريخية وصنف الوثائق لأسباب هامة وعميقة، ذلك أنه زمن محدد، أصبح إطارا مرجعيا يحمل مخاطر تأويل تاريخي وكليشيهات ثقافية. لكن على نشازتها فإن زمن الحروب الصليبية والجهاد، وُجِد فيه رجال يَتَبنون فكرة السلم. فالوثائق التي تضمّ رسائل الحكّام الذين يقودون العالم آنذاك تبقى حجة شاهدة على ادراكهم فكرة التسامح، حتى من الزاوية الثقافية. هناك مستندات وثائقية ذات أهمية تاريخية محدِّدة وأخرى أقل منها أهمية. ومن بين الوثائق المهمة نجد تلك التي تخص المراسلات بين الحكام، أو بين السلطات السياسية والروحية العليا مثل البابا والامبراطور وأمثالهم في العالم الإسلامي.
لقد اعتمدنا في بحثنا هذا القراءة والتبويب المنظم للأحداث الخاصة بالتسامح والتعايش، الموزعة في آلاف السّجلات من الوثائق البابوية ومن المراسلات المباشرة لأمراء مسلمين، أو الغير مباشرة والمأخوذة من الأجوبة التي أرسلها البابا.
المؤرخ، كمحقّق ورَاوٍ للأحداث، له ثقافته الخاصة وشخصيته التي لا يمكن حذفهما؛ لكن، من الأكيد، على كل حال، أنه يجب أن يكون على أقصى درجة من النزاهة وصدق الضمير، من حيث اظهاره نزعة سلام بناءة. التاريخ، وقد كان قد نبّه على ذلك شيشرون هو معلم حياة، وهو بمعنى ما نور ساطع للحقيقة، وبالتالي حسب شيشرون، يجب أن يكون "صادقا بسيطا وصالحا".
هذا المقال قُدّم كنص مداخلة في الملتقى العالمي (تونس، 17 ـ 20 فبراير 2004) حول "الاسلام والمسيحية من أجل بناء العيش معا"، وهو يستبق إلى حد ما، الكتاب المخصص للتسامح بين الإسلام والمسيحية في عصر ما يسمى بالقرون الوسطى، بالنسبة للمسيحيّين، والذي يتفق مع عصر اشعاع الثقافة الإسلامية، قبل أن تقوم هذه الأخيرة بتجربة القرون الوسطى.
جذور التعايش: المساواة بين الناس
في مقالنا حول التعايش من الأجدر أن نتناول مسألة التسامح كمقاربة أولية وضرورية لهذا الصنف من التجمع والعيش معا. في البداية يمكننا أن نشتق من إيتيمولوجيا كلمة تسامح إطارا مرجعيا ذا أهمية ثقافية: فالكلمة اللاتينية (tollere) والتي تعني "تَحمّل / حَمل شيء ما" وتسامح وتعني نزول عند رغبة شخص ما، السماح له بشيء ما. في العالم القديم السفسطائيون كانوا أول من نقد مفهوم الحضارة، وذاك التقسيم الموروث بين اليونان والبرابرة؛ أما المدرسة الرواقية فقد اعترفت بالمساواة الطبيعية بين البشر، أحرارا أو عبيدا. وفي العصور المسيحية أصبحت فكرة المساواة بين الناس إرثا ثقافيا من حيث أنهم أبناء إلاه خالق واحد، كمحبة مشتركة بين الجميع ومتجسد فيهم. ولقد ساهم لاحقا في توسيع معاني مفهوم التسامح تضافر عدة عوامل من بينها مثلا المعرفة المباشرة بحضارات خارج أوروبا بسبب الحملة الصليبية والاكتشافات الجغرافية للقرن الخامس والسادس عشر والتي نبع منها الاهتمام بالثقافات الغريبة والبدائية. ومن هذه العوامل برزت ثقافة إنسانوية حلّت محل الثقافة اللاهوتية الشيء الذي أدى إلى استحداث نظرة علمانية وغير مقدسة للسياسة والأخلاق. ثم استتبع هذا التحول ردة فعل رافضة للعنف الجسدي، والتعذيب، والملاحقات الايديولوجية التي مارستها محاكم التفتيش، وضرورة وضع حدّ لحروب الأديان بين الكاثوليك والبروتستان بعد الاصلاح اللوثري، مثلت القاعدة لإعادة طرح صورة الإنسان ككائن حرّ في ذاته أكثر منه متديّن في ذاته.
التاريخ الحديث رأى في ج. لوك وفولتير وآخرين، المفكرين الذين قدّموا أطروحات مجدّدة بشأن موضوع التسامح. وهذا الموضوع في تطور مستمرّ، على الأقل من الجانب المثالي، والإنسانية على كل حال هي فقط في مرحلة البداية لحقبة من التسامح الجوهري. كارل بوبر (1902 ـ 1994) في مقاله "التسامح والمسؤولية الفكرية"، يبيّن ضرورة التسامح كشرط مسبق لمعرفة عميقة بمن هو مختلف عنا، وبالتالي فهو إثراء من حيث أن التقدم العلمي يفترض إمكانية النقد والحوار المستمرّين.
إن إيضاح مفهومي "الإيمان" و "الدين"، يساعد، من دون شك، على التمييز بين الأشياء وإرساء قواعد راسخة للتعايش السلمي. فالايمان يُمَوقع الإنسان في "اللاحدود" للإنسانية جمعاء، أما الدين فله في داخله، كمكوّن جوهري، الخصوصية الثقافية بما تحمله من تقييدات وحدود من الصعب اختزالها أو تذويبها. ومن المستحسن، على كل حال، أن تبقى التعددية الثقافية في العالم، وألاّ تذوب أو تُنَمذج طبقا لسيرورة عولمية سطحية وعقيمة.
إن كلمة إيمان، التي تُستخدم للتعبير عن "الأمان" و "الثقة"، تدلّ على التقبّل ـ الاستسلام للمشروع المقترح علينا "من خارجنا"؛ في الوقت الذي تعني فيه كلمة دين التعمّق (relegere) في الأشياء التي تخص الألوهية أو حقل الماورائيات، واتحادا أقوى بها (relegare). وبالجملة، الإيمان يشير إلى الدائرة الخاصة للوعي أمام تدخل المقدّس في الحياة الشخصيّة؛ أما الدين فهو التجسّد في ثقافة مخصوصة، حيث أن في داخلها يُعبّر الشخص عن ذلك المركب من الرموز الخارجية والطقوس، بالتكامل مع تنظيمات اجتماعية تحدّد وتميّز الجموعات الدينية عن بعضها البعض. بالتأكيد يمكن أن يكون المرء متدينا ولكن دون إيمان، أو أن يكون مؤمنا دون تعلّق مرضي بالخصوصية الثقافية لهذا الدين أو لآخر. وهذا التصرّف يأتي إثر العديد من السيرورات التطورية: العلم، الاطلاع على الثقافات الأخرى في جانبها الديني، التشبّث بالجوهري في حياة الإنسان أي أن يكون عادلا وراء الأديان، الانفتاح الصوفي الذي، طبقا للتجربة المؤثرة والشاملة للألوهية، يقلّل من شأن عامل الاختلاف بين الأديان.
كل هذه العوامل تساهم في تنسيب الادعاء بأفضلية دين على آخر، وتُجنّبنا المماحكات بخصوص أفضل الثقافات لأن كل من وُلد في ثقافة ما وتربى فيها فإنه يعتبرها الأفضل على الاطلاق: كما أن شخصا ما يولد بروما في القرون الوسطى هو بالطبيعة لا يمكن أن يكون إلاّ مسيحيا كاثوليكيا، لكنه إن وُلد بمكّة فسيكون بالطبيعة مُسلما. ولذلك فإن الثقافة التي يولد عليها الشخص تبقى إلى يومنا هذا العامل المحدّد في تربيته الذاتية واختيار نمط حياته.
بالنسبة للمسيحيين والمسلمين فإنه من الانجيل والقرآن تنبع المبادئ المُثلى المتعلقة بالانفتاح "الكلي" عن بعضهما البعض. فعلا، اليقين التام بأن الله ليس فيه أي تعصب وأن التعصب هو دائما ظاهرة إنسانية، هو الجذر الحقيقي والشامل للتعايش بين الناس. إذن إلاه واحد، أسرة إنسانية واحدة؛ خُلقت وتحيا باستمرار بمحبة الخالق الذي يعتني بالبشرية جمعاء. وعلى هذا الأساس فإن كلمة الله تصبح كلمات الله نظرا لتعدد الثقافات التي يتجلى فيها ذلك الإله الأوحد، وشعب الله يصبح شعوب الله، وبالمثل فإن أرض الله تصبح أراضين الله لأن كل أرض هي ملك له وحده، ولذلك تسقط القيمة الاستراتيجية للحدود الفاصلة.
هذا يقودنا إلى الموضوع الشيق للغريب المحبوب والمَحمي من الله والذي نجده في جميع الكتب الالهية. ففي الإنجيل، كما في الكتب الأخرى، نعثر على تمجيد للخصال الحميدة عند أولئك الذين لا ينتمون إلى "النحن"، إلى مجموعتنا الدينية الخاصة.
اليوم تُطرَح علينا بجدّية ضرورة التمييز بين الايمان والدين، والذي يفتح المجال لتفكّر اللاتوازي بينهما، والاختلاف بين مؤمن ومتديّن. وربّما يقود التناسب والتماهي بين المفهومين إلى إلتباسات عديدة: لا يخفى على أحد أنه يمكن للمرء أن يكون متدينا ولكن دون إيمان، أي ظالم، متعصب، مجرم. والدين بما هو أمر يخص ثقافة بعينها، يمكن أن يتأثر سلبيا، كما هو معلوم، من الضيق الذهني لمنطق الاقصاء والابعاد.
فالتسامح بمعنى الاحساس بوجودنا في حضرة الإله الأوحد وبأننا نخضع لمصير موحّد، يُحتم التشبث بالعدالة والسلام بين المؤمنين وذلك باستحضار التوتر الخلاصي الذي يوصل إلى ضفة الحياة الأخرى عند أولئك الذين يجعلون مرجعهم إبراهيم للتحاور فيما بينهم: الاستسلام إلى إرادة شاملة لأب واحد، بحيث أن الأبناء ـ الاخوة، يعيشون ويتعايشون في سلام. إن هذه المبادرة ليست إلاّ استثارة للمؤمنين، المسيحيين والمسلمين، ذوي القلوب الطاهرة والنوايا الطيّبة.
فلا يُمكن أن نَغُضّ الطرف عن المخاطر المتربّصة دائما، والمتأتية من تلك التأويلات الإنسانية المشطّة للنصوص، بحيث أنها تشكّك في كون روح التسامح نابعة من الله وليست مجرد نزوات إنسانية. ومن الأكيد أن من ينتهج هذا النهج فهو على خطأ، وبالتالي فمن يقتل شخصا ما فهو مجرم. وفي إطار ثقافة الأديان التوحيدية التي ترجع إلى تجربة إبراهيم فإن اليهودي الذي يقتل هو مجرم، وكذلك المسيحي أو المسلم. إن بسيط الحس السليم يقرّ بأن الأناس الطّيبين المتحضرين يُعرفون من خلال الأعمال التي يقومون بها أكثر من الأفكار التي يحملونها. ولذلك فإن تجميع أهل الخير في أمة واحدة ودحر أهل الشرّ في أمة أخرى دون سواها هو اختزال لا يستقيم أبدا. على أية حال فإن أولئك الطامحين إلى تحقيق السّلم، وهم أقلية، وجدوا في كلام الله كل العلل المدعّمة لأعمالهم، ولطموحهم نحو توحيد البشرية في كنف تعايش سلمي، مستقرّ ودائم.
الحرب هي نتاج الحرب: مَشاهد الاضطهاد، التقتيل والتدمير تُبيّن بصورة مكشوفة المخاطر الناجمة عنها والتي لا تُقدّم ولو خطوة واحدة بالإنسانية إلى الأمام. لكن ضدّ هذا التدمير تعلو أصوات النقد، الضمير الصادق، الهرطقة التي تصرخ في وجوه المتديّنين بأن الإنسان لا يمكن أن يُستعبد أو يُقتَل. يكفي التذكير بتجربة الرواقيّين القدامى في هذا الشأن، كمثال للإنفتاح والتسامح، كي تدخل فينا الرجاء في امكانية التعايش السلمي بين جميع البشر. ثم إن هناك أيضا تجربة المتزهدين من أهل التصوّف مثل القديس فرانشيسكو (Francesco d’Assisi)، أو المتصوفين المسلمين مثل عبد القادر الجيلاني، محي الدين ابن عربي، جلال الدين الرومي، من حيث أن تجربتهم تُمثل نماذج مبادرات مثالية لدعاة السلام في عصرنا الحالي. لقد تحدثنا في موضع آخر عن الثقافة الجديدة التي تستشرف الاختلاف بين الاعتقاد المستقيم والعمل الصالح، والمرور من الجدل حول اللاهوت إلى الجدل حول الأعمال الإنسانية.
2 ـ العادلون بين الأمم
كل الخلق يَرزخ تحت آلام المخاض للوصول إلى التنعّم بالسلام الدائم. ثقافة السلام تقاوِم بشدّة من أجل البروز إلى النور، مثل الأزهار التي تتعب كي تشق طريقها بين الأحجار. تلك الأزهار قاومت صلابة وقحالة الأحجار، كذلك فإن الأقلية الصادقة قاومت تعنّت المُتصلبين، من المسيحيين والمسلمين، طوال قرون من التاريخ. كان هناك حضور متجذر ومتواصل لرجال مائحين إلى تحقيق السلم طوال تاريخ المسيحية والإسلام، حتى في أوقات مستحيلة مثل عصر الحروب الصليبية. وأن يكون البعض أقليّة بسبب أفكارهم السلمية المنفتحة فهذا يمثل نمط حياة الإيمان الصادق، بعيدا عن الإنتماء الديني الخصوصي. هناك طريق آخر اتبعه المسيحيون والمسلمون، متعال عن الديماغوجيا والضيق التأويلي لمراكز السلطات الدينية. فالهرطقي، والمتصوّف، النبي، والشاعر نفسه الذي يطمح إلى التأمل في الجمال أينما كان، هم نماذج مختلفة لإنسانية وُجِدت في جميع الأديان التوحيدية، الأمس واليوم. المبدأ الأساسي الموجّه هو الإله الواحد الحافظ للكون بأسره والمعانق لمخلوقاته، يحبهم بنفس المحبة، دون تمييز.
لقد أشرنا إلى القيمة الفائقة للرسائل التي تبادلتها السلطات الدينية العليا، بالمقارنة مع وثائق أخرى. وبعد جهد قراءةٍ وتَريتبٍ وتَبويبٍ لأربعين ألف من السجلات التي تُشكّل مراسلات البابوات للحقبة الصليبية، اصطدمنا بالتجربة الخارقة للعادة لخَلفيّة ثقافة التسامح والتعايش. وفي هذا الموضع أستسمح بإيراد بعض الاشارات حول هذه المادة الضخمة.
يجب القول مباشرة بأن هذه الخلفيّة ترتكز على مستويين: الأول يخص جانب المبادئ المثالية (أرتودكسية) المصرّح بها بصورة علنيّة، والثاني يخص الأعمال (الممارسة). هناك حالات أشخاص تحدثوا عن جذور التعايش، في الوقت الذي عمد البعض الآخر إلى ممارسة ذاك التعايش في الواقع. وبالمثل فإنه ليس من النادر العثور على أشخاص هم متسامحون وغير متسامحين، وفي بعض الأحيان تجاه نفس الشخص.
هناك مرجعيات مختلفة لتقييم هذه الخلفية الثقافية: المبادئ المثالية التي تعود إلى الكلام المُوحى وتلك التي تعود إلى التجربة المباشرة. إن الفكرة الأنثربولوجية، أو كيفية تَمَثّل الآخر يمكن أن تكون منفتحة ومتقبلة، أو منغلقة وغير مستعدّة للتحاور والاثراء. وقد يكون التحاور مبني على الزعم الكاذب بامتلاك العرق الأكمل، الفكر الصحيح، أو الدين الحق، لكن هذه ليست من الحوار في شيء فهي، إن صح التعبير، "انفتاح مغلق". لقد أشرنا إلى المكتسبات في هذا الشأن المتأتية من خارج ثقافة الأديان التوحيدية. المحاولة الأولى كانت المرور، عن طريق قطيعة ذات استتباعات باهرة، من "المجموعة" المضيقة عند اليونان إلى الأخلاق الشمولية. ثم حدث انتقال من المساواة في الحقوق بين المواطنين الأحرار، إلى العدالة كتوزيع بين أفراد متساوين (أرسطو، الأخلاق، 1131 أ). أما في الفلسفة اللاحقة لأرسطو، وبفضل المدرسة الرواقية، فقد استُبطنت المساواة بالتأكيد على المواطنة العالمية للحكيم (ديوجين اللايارصي، حياة وأعمال مشاهير الفلاسفة، VII، 121). وبهذه النظرة فقد تجاوز الرواقيون فكرة أفضلية الإنسان الإغريقي على "البربري"، والتنظير إلى المساواة الطبيعية بين الناس، سواء أكانوا إغريقيين أو "برابرة". لقد بنى الرواقيين فكرتهم هذه على مبدأين موجهين لامكانية التعايش: العيش بحسب الطبيعية، أي بحسب اللوغوس الإلهي المغروس في جميع المخلوقات، واعتبار الإنسان مواطنا حرّا في العالم، وبالتالي فإن العبودية هي ثمرة الشرور الإنسانية، وليست بحالة طبيعية مقدّرة. هذه الأخلاق الكوسموبوليتية تواكبت في الحقبة الرومانية مع واجب الالتزام السياسي ـ الاجتماعي الفاعل، لتجاوز منطق الإقصاء والعبودية. وهذا المثال يتجسّد في شخص الإمبراطور ماركوس أوراليوس.
أما بخصوص نسق الأديان التوحيدية، فيجب القول بأنه من الضروري الاعتراف بتعدّد أنماط الوحي، وهذه الفكرة تُمثل المحور الصامد لإرساء وتسهيل خطاب التسامح والتعايش السلمي. وإذا كان المُتجَلّي هو الإله الواحد، الذي لا توجد فيه أي صفة من صفات التعصب، فإن أي شكل من أشكال اللاتسامح يعود إلى الإنسان وفقط إليه وحده. يجب النهل ممّا هو جوهري في كلام الله وإعادة انتشال الإيمان وبنائه على أرضية ثقافة تعدّد الأديان. بعد ألفي سنة من ميلاد المسيح وألف وأربع مائة سنة من دعوة محمد آن الأوان لقراءة الكتب المقدسة وإعادة قراءتها معا. فعلا، من الممكن العثور في الكتب المقدّسة على أغراض أساسية تتجه إلى المؤمن بغضّ النظر عن دينه الخاص أو ملّته، أو مجموعة انتمائه.
بالنسبة للمسلمين فإن الوحي يتحدّث عن إلاه خالق ومُعتنٍ بالإنسانية جمعاء (الإسراء، 70)؛ هناك تواصل بين الكتب المنزلة كما تشهد بذلك العديد من الآيات من سورة البقرة، آل عمران، النجم. هناك امتداد للوحي يجع السابق باللاحق: آدم، نوح إبراهيم، موسى عيسى، وهي دليل على ذهنية منفتحة على الكونية. الاختلاف بين الناس هو أمر مقدر من الله وبالتالي هناك اعتراف صريح بالتعددية على نطاق أوسع (البقرة، 213 ـ 214؛ سورة المائدة، 48؛ النور، 55) كل هذا مبني على قاعدة "لا إكراه في الدين". ثم إن القرآن لا يخلو من تقدير للذين هم خارج الدين الإسلامي مثل المسيحيين (البقرة، 59، 62؛ آل عمران، 48؛ المائدة، 47، 73، 82، 85؛ الأنعام، 52؛ الحج، 37؛). أخيرا هناك حث لجميع المؤمنين في مختلف الملل كي يتنافسوا على فعل الخير (المائدة، 48).
وفي الإنجيل نعثر على مواقف تبدو بالنسبة للمفسرين المَهرة موجودة في الكتاب المقدس للمسلمين. مثل الدعوة إلى الخروج من دائرة المجموعة المضيقة للتعارف والانفتاح على الآخر؛ إنها النقد الذاتي ووضع موضع استفهام القناعات الشخصية (متّى 16، 13 ـ 14)، تجاوز احتكار الإيمان في دائرة الشعب المختار، الشيء الذي يعيد التفكير في مفهوم الداخل والخارج من حيث هو مجرّد تعبير عن ثقافة ودين مخصوصين، ثم اضفاء أهمية جوهرية للإيمان (متّى 8، 10)، والاشادة بالخصال الموجودة في من هو خارج الحلقة الضيقة من المتدينين: السامرائيين مثلا (لوقا 17، 17 ـ 19). أخيرا المعجزات والآيات البينة كإمكانات يمكن أن تتحقق خارج المجموعة (لوقا 9، 49 ـ 50؛ متّى 9، 38 ـ 40؛ لوقا 11، 19).
الملاحَظ هو أن بالنسبة إلى هذه الكتب المقدسة فإن أطراف التجربة الإنسانية تتلاقى: كل كائن إنساني مخلوق من الله؛ ولكل مخلوق ميزان يزن أعماله في الحياة الدنيا (البقرة، 62؛ النساء، 124 ـ 125)؛ كل بني آدم مَدعوّون إلى التسابق في الأعمال الصالحة (المائدة، 48). وبالجملة فإننا ملزمون بالاعتراف بالمساواة وكرامة الإنسان على اختلاف ملّتهم وأديانهم، وتقييمهم على أساس أعمالهم وتصرفاتهم فردا فردا. فالعادلون منتشرون في جميع الأمم وينتمون إلى جميع الأديان، وليسوا حكرا على هذه المجموعة أو هذا الدين.
التقرّب من الله بطريقة مغايرة هو أمر مشروع (Licet diverso modo)، وهذه هي القاعدة الأولى للتعايش. وقد كانت من بين الاعترافات التي صرّح بها البابا بعد أن مرت عشرين سنة عن مجمع كليرمون (Clermont)، حينما تجسدت فكرة الصليبية، التي أصبحت إيديولوجيا: « فعلا، الله القدير يريد أن يُنجِّي الناس أجمعين، ولا يريد أن يهلك أحدا. إنه لا يرضى عن شيء أكثر من رضاه على الإنسان الذي لا يكتفي بمَحبّة الله بل بمحبّة غيره من الناس. وألا يفعل للآخرين ما يكره أن يفعله الآخرون إزاءه. هذه النعمة، حقا، يجب علينا نحن وأنتم أن نمارسها أكثر من أي أحد آخر، لأننا نؤمن ونعترف بإلاه واحد، حتى وإن كان بطريقة مختلفة. فالله الذي نحمده ونُعظّمه كل يوم هو خالق الدهر ومدبّر هذا العالم».
هذا الاعتراف للبابا في رسالة بعث بها إلى الناصر، أمير المؤمنين آنذاك، لهي ذات أهمية كبرى، وذلك لعدّة أسباب. فهي تبيّن صراحة تعدّد أشكال الاقتراب من الله، وتؤسس لمشروعية اختلاف التجارب الدينية، على أساس فكرة الإله الواحد. ذاك الإله القائم على الخلق أجمعين، دون إقصاء ودون تمييز. وبخصوص الممارسة العملية لهذه النظرة الكلية التي تضع الجميع في نفس المستوى من الإنسانية، فإن المؤرخين لاحظوا تنامي العزوف عن العنف والحرب نظرا لتسرّب فكرة احترام معتنقي الدين الآخر والكف عن اعتباره عدوا بسبب ملته.
والمسلمون أنفسهم يستثيرون المسيحيين ضد الحرب، بفضل اعتقادهم اليقيني الراسخ في المسيح، الذي جابه دون سلاح، بأقواله وأفعاله، كل أشكال العنف. والبعض من اللاهوتيين المسيحيين يقدمون مثال الرسل الذين، بدون سلاح، اكتسحوا العالم؛ مع الملاحظة بأن حمل السلاح لم يكن في صالح انتشار المسيحية، ولا القوّة أنتجت مسيحيين مقتنعين. إذن الاتصال القريب والمباشر بالعدوّ، حتى وإن كان بسبب الحرب، يكشف أن ما يُسمّى "عدوّ" ليس هو بالشرير والجبّار، لكنه شبيه جدّا بنا، وله نفس الفضائل والرذائل.
3 ـ النقد الذاتي والتقابل مع الآخر:
إن طاقة النقد الذاتي هي من بين الدلائل الأكثر انفتاحا للعقل الإنساني. من يريد أن يكون أمينا تجاه نفسه، يجب أن يغير من نفسه، أن يكون مستعدّا للمراجعة المستمرة لصَقل مواهبه وتحسين معاملاته مع الناس. التقابل مع الغير يسمح بالاثراء الذاتي والتطوّر الشخصي والجمعي. فالتلاقح بين المجموعات عن طريق التزاوج مثلا، يهذب النسل ويمتن عراه. والمجموعة الضيقة، التي لا تقبل بادخال الغريب في صلبها، وتكتفي حصرا بالتلاقح فيما بينها، غالبا ما تولّد مشوهين وقاصرين. ماذا نقول نحن عن أنفسنا؟ وماذا يقول الآخرون عنّا؟ من الأهمية بمكان الدور الذي يلعبه الوعي والوعي الذاتي للتحسن والمضيّ في تحقيق مشاريع مستقبلية. إن طلب الغفران من طرف البابا يوحنا بولس الثاني، بعيدا عن التقييمات الممكنة، يبقى في جوهره نوعا من الاستثارة لمراكز السلط الدينية الأخرى. لكن، علاوة على الوعي الذاتي، قد يكون من باب المساعدة التساؤل عن مشاعر الآخرين تجاهنا، وكيف هي نظرتهم إلينا. وذلك لأن توليد "أزمة" الثقة بالنفس، تمرّ عن طريق مساعدة وعينا الذاتي بأزمة الآخرين تجاهنا. يجب الخروج من المجموعة الخاصة للقيام بقراءة أحسن لمجموعتنا والمساهمة في الاثراء المتبادل. فنَقدُ سلطة الكنيسة أو سلطة المسجد، المسيحية أو الأمة الإسلامية، لا يُمكن أن تُعدّ ميكانيكيا، نقد للمسيح أو لله. إنه خطأ جسيم.
لقد تملكني التعجّب، حين مطالعتي للعديد من رسائل البابوات، كيف أنهم لم يتوانوا، وبكل جرأة، من وصف المسيحيين أبناء ملّتهم بأنهم أبشع من "المسلمين/الكفار". أي أن في المسيحية هناك مجموعات أبشع (peores) من الأعداء. المسيحيون المقصودون من طرف البابا بأنهم أبشع من المسلمين، أو عموما، من غير المسيحيين، هم مجموعات أو أشخاص بعينها. واضح أنه من بين هذه المجموعات المغضوب عليها نجد الهراطقة، بسبب معارضة الكرسي الرسولي، أو البابا نفسه للتضارب في أسس التعاليم اللاهوتية. ثم إن هناك مواطنين ببعض المدن المستقلة نسبيا مثل البندقية، أو سكان جهات مختلفة من إيطاليا وجزيرة صقلية. أما الأشخاص العينيين نذكر من بينهم (Marcoaldo d’Anweiler)، الإمبراطور فريدريك الثاني، (Ladislao d’Hongerie) وآخرين غيرهم. وبالجملة، فإن ملوك وأمراء وزعماء اتّهموا بأنهم أبشع من غير المسيحيين. والصفات تذهب من تلك العمومية: كافر، وثني، جاحد، ماكر، إلى صفات مأخوذة من الكتاب المقدس: أبناء بعليال، أذيال الشيطان، أو أعداء المسيح. مصطلحات المقارنة مشتقة من سياق العداوة الدينية، ومن القناعة بكُفر من لم يتلقّ التعميد وبالتالي يرزخ تحت سلطة الشيطان.
الأسباب التي أدت بالبابوات إلى اعتبار المسيحيّين المخالفين أبشع من أصحاب الديانات الأخرى ومن الوثنيين أنفسهم هي عديدة ولكن يمكن اختزالها جوهريا في سبب واحد. هؤلاء المسيحيين لا يقبلون أوامر البابا أو الكرسي الرسولي في مجالات مختلفة، مثل السياسة، واجب التعبئة للحرب الصليبية، عدم الرضاء بالتحالفات الغير مفيدة، أو رفض الذهاب إلى الحرب في الأراضي المقدسة. وفي بعض الحالات هناك صدام مباشر، إلى درجة التهكّم، بين مسيحي وخليفة المسيح، مثل حالة (Marcoaldo d’Anweiler). أما الحالة الأكثر فضحا، فهي حالة صِدَام الإمبراطور فريدريك الثاني مع البابا والذي لم يعبأ بتكفيره المتكرّر.
4 ـ من أجل التعايش. الخدمة الإنسانية والتبادل المعرفي
إن الخروج من حالة الصدام على مستوى القوّة والهيمنة، والدخول في جوّ المعاملات الانسانية المتبادل، هو القاعدة لانجاز مشروع التعايش السلمي. واحد من بين أعراض ثقافة التعايش هو تجربة الخدمة المتبادلة بأعمال عينية، خصوصا في حالة مدّ يد المساعدة للمحتاجين والمتألمين. علاوة على التحاور المفتوح والنزيه في المستوى العقائدي، التبادل الثقافي والتأثير المتبادل في مجال الفن والرياضة، والتجارة، فإن الخدمات المتبادلة لتضميد الجراح والقضاء على البؤس لهو من الأهمية الحيوية بمكان، خصوص في حالات الفتن والحروب. فالكلام الإلهي كمحبّة شاملة وتجسّد في شخص المسيح بالنسبة للمسيحيين، أو كالإله المتمثل في أسمائه الحسنى التسع والتسعين، له في أعمال الرحمة نواته الصلبة، فهي الغاية المُثلى حيث تتمظهر بجد إنسانية الإنسان.
ليس هذا المجال لايراد الشهادات العديدة المدعمة لهذا التوجه الإنساني، لكن الإنجيل وآيات عديد من القرآن، هي المواضع التي نعثر فيها على شهادات تحرّض على فعل الخير والرحمة بالمخلوقات، كخدمة مؤسسة للتعايش السلمي بين البشر.
وبخصوص هذه النقطة، أعني انشاء مشروع خدمات ليس فقط للمسيحيين بل للمسلمين، يمكن ذكر البابا إينّوسانس الثالث، من حيث تأكيده على أن الأعمال الخيرية «صالحة للمسيحيين ولغير المسيحيين». وقد عرض فكرته هذه في بداية توليه الكرسي الرسولي وذلك من خلال رسالة بعث بها إلى أمير المؤمنين الموحدي عبد الله محمد الناصر، (8 من جمادى الأولى، سنة 595 هـ، 8 مارس 1199 ميلادية). هذه الوثيقة كثيرا ما استُشهد بها عند التأريخ للعلاقات الدولية بين المسيحية والإسلام وخصوصا بين البابوية والإسلام. فمن حيث المحتوى يمكن القول بأن هذه الرسالة هي حالة استثنائية. بالتأكيد كانت هناك ظروف تاريخية مختلفة أثرت في البابا إينّوسانس الثالث جعلته يختار أمير مؤمنين من الغرب الإسلامي عوضا عن أمير من الشرق. على كل حال، بعيدا عن هذه التأثيرات الخارجية، بامكاننا العثور في نص الرسالة نفسها التي قدّمت أعمال بعض رجال الدين المسيحيين وعرّفت بقواعدهم الحياتية، على الجدّة في المشروع المسيحي للتحرر.
البابا يقدّم هؤلاء الناس لا كطائفة دينية بل كرهط ما (viri quidam) لهم مشروع تبنّوه بعد دراسة وتمعّن. ومعلوم أن المسلمين لا يقدرون، هذا إن لم يكونوا حانقين على المتدينين المحاربين، الذين يتزيّنون بالصليب. إينّوسانس الثالث يشرح كيف أن، بسبب منهاجهم في الحياة المعمول بها في طائفتهم، هذا الرهط من الرجال نذروا أنفسهم لفداء الأسرى المسلمين. هؤلاء المحررين يخصصون ثلث أموالهم لهذا الغرض؛ أخير البابا يُعلن بأنه مسموح لهم (est concessum) تحرير أسرى مسلمين لمبادلتهم بأسرى مسيحيّين وذلك بخرق القانون الكنسي ساري المفعول آنذاك، والذي أعيد تأكيده سنة 1215 في المجمع اللاتيراني الرابع.
فعلا، كان هناك حظر كنسي تام لأي شكل من أشكال التبادل التجاري مع العالم الإسلامي، وأي مخالفة في هذا الشأن تؤدي بصاحبها إلى التكفير والإبعاد. ولأسباب حسابات سياسية دنيوية امتنع التمبلار (Templari) سنة 1212 من تحرير الأسرى المسلمين، لافتداء الأسرى المسيحيّين على الرغم من الدعواة المتكررة. وقبل حادثة العصيان هذه، يمكن أن نشير إلى أن في معاهدة السلام المُبرمة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، لم يُعرَّج فيها على أية إمكانية لتحرير الأسرى أو افتدائهم. فالحسابات السياسية الاقتصادية تغلبت على مصالح آلاف الأسرى من المسيحيين والمسلمين.
لكن حسب إينّوسانس الثالث الفداء هو عمل رحيم: « من بين أعمال الرحمة التي أمر بها، ربنا يسوع المسيح، أتباعه في الإنجيل، لا تقلّ مرتبة هي فدية الأسرى». والبابا يأخذ بزمام المبادرة منطلقا من مجال منزوع السلاح: الرحمة. ولهذا الغرض لا شيء أنسب من النهل من إنجيل المسيح، من صُلب نص الوحي: فعل الفداء يتصدّر الواجبات الإنجيلية. البابا تبنّى هذا المشروع الثوري الذي فسح المجال للإنجيل لكن مع مخاطر الارتطام بسياسة المصلحة التي ينتهجها الأمراء المسيحيون.
في الجانب الإسلامي مشهورة جدّا حالات الرحمة والتسامح مع العدوّ المهزوم، مثل تلك التي ترويها لنا كتب التاريخ عن صلاح الدين الأيوبي. الدراسات القادمة يمكنها أن تسلّط الضوء على هذا الصنف من الخدمات المتبادلة من حيث هي تعبير عن إيمان أكثر منه عن تديّن، تجاه المسيحيين أو مَن هم خارج المجموعة. اليوم، على كل حال، انطلاقا من نماذج الخدمات المتبادلة هذه، لدينا أرضية صلبة لمواصلة مشروع الخدمات لصالح العدالة الشاملة والتعايش السلمي.
5 ـ وعود الماضي آمال المستقبل:
انطلقنا من فكرة أن التاريخ هو معلّم حياة، ونحن نعلم أن الإنسان الذي قام بتقدّم باهر في ميدان العلوم، هو في خطواته الأولى نحو أرساء جهاز ثابت لتحقيق علاقات سلمية بين البشر. لكن من المعلوم أيضا أن الاختراعات أصبحت في خدمة الربح ومجعولة لصنع آلات الموت الرهيبة، عوضا عن تحسين وضع الإنسان والمساهمة في بناء مجتمع سلمي.
حسب برنارد لويس، المسلمون في القرون الوسطى، لم يولوا أهمية كبيرة إلى ظاهر الحروب الصليبية، ولم تستثرهم كثيرا كما استثارت المسيحيين الغربيين نشوة انتصارات الحملة الصليبية الأولى. لم تصبح كذلك إلاّ بعد استثارات (Raynaud de Chatillon) في عهد صلاح الدين حينها تفطن المسلمون إلى مقاصد الصليبيين ومدى خطورتهم على وجودهم. في لعبة التمثّل هذه وطوال تاريخ احتكاكهم حدثت تغيرات عديدة على مستوى الوعي بالآخر العدوّ المجهول. عدوّ لأنه في غالب الأحيان مجهول.
إن عبارة "صليبية" كانت مجهولة عند المسلمين حتى القرن التاسع عشر حينما فرضت نفسها كظاهرة تاريخية، وذلك اعتمادا على كتب التاريخ الأوروبية. لقد حدث تغيّر جديد في وعي المسلمين بالمسيحيين إثر محاصرة مدينة فيينا من طرف الأتراك، التي أدّت إلى هزيمة أعظم قوة حربية في العالم الإسلامي. وهذا ما طرح سؤالا ما زال يَعتمل في أذهان المؤرخين المسلمين: كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
ثم جاءت حملة نابليون سنة 1798 ضد مصر، وقد اعتبر هجوما على قلب الإسلام، من طرف أمة أوروبية. ليس هذا فقط بل إن الإسلام شهد تجربة أخرى: الفرنسيون تم طردهم خارج البلد الإسلامي ليس من طرف المسلمين بل من طرف قوة أوروبية أخرى، الإنجليز. وقد ولدت هذه الأحداث الإحساس بأن العالم الإسلامي هو في أيدي الأوروبيين، ويخضع لهيمنة الإمبريالية التي تحاصره من كل مكان.
في مرايا الادراكات هذه، لا يجب أن تغيب علينا أهمية الدور الذي تلعبه المصالح الاقتصادية المتخفية وراء تلك الدينية، فهي التي تُسيّر المقاصد التوسعية، والتعلّة الدينية هي دائما تعلّة وليست إلاّ تعلّة لتحقيق المصالح الخفية والثاوية خلفها.
نعم التاريخ هو معلّم حياة أو موت. ومن الضروري أن يكون هناك رجال يعملون على تحقيق السلم، ولديهم إحساس شامل بأهمية العدالة لتحقيق أغراض التعايش السلمي الدائم. ليس هناك سلم بدون عدالة، ولا عدالة بدون غفران، هكذا كانت فكرة البابا يوحنا بولس الثاني التي اقترحها في اليوم العالمي للسلام سنة 2002.
الإله هو التسامح، والتعصب هو من صنع الإنسان. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة هي من البداهة بمكان هناك مخاطر أن تصبح غاية صعبة المنال. مثل فكرة أن الطيبين لا ينحصرون في جهة، والأشرار في جهة أخرى. وبالمثل فإن الولادة في مكان معيّن من الأرض لا ينبغي أن تُصبح عامل تمييز يحمله الفرد أينما حلّ، لأن كاثوليكيا روماني ولد بروما لو أنه ولد في مكة، مع كل احتمالات هذا العالم فإنه سيكون بالطبع مسلما.
إن عملية التعايش ليست مستحيلة في حدّ ذاتها، لأنها وقعت، وبالتالي فهي ممكنة من حيث أنها تجربة عينية. فمجال الخدمات الإنسانية هو المحكّ والعاجل الآن، ودئما. والأمثلة الحسنة وفّرها لنا التاريخ. نماذج التعايش وصلت إلى حاضرنا كوعد مستقبلي: نحن نرجو بحسب تعاليم الانجيل (متى 5، 34 ـ 48) والقرآن أن يتسابق المسلمون والمسيحيون في فعل الخيرات، لكي يشيّدوا على الصخر أسس التعايش السلمي.
08-أيار-2021
13-تشرين الثاني-2010 | |
19-تشرين الأول-2010 | |
24-نيسان-2009 | |
18-آذار-2008 | |
الإحترام والتسامح بين المسيحية والإسلام / جوليو تشيبلوني ــ ت |
18-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |