نهج الإلحاد (1)
2010-10-19
لا يخفى على أحد اليوم أن هناك هجمة حادّة وشرسة تشنّها قوى دينية ضدّ المفكرين الأحرار وضد إنتاجات الحداثة. وهذه القوى الدينية الظلامية تستغلّ أرقى ما أبدعه العقل الإنساني لمصارعة العقلانية والعلمانية والإلحاد. إن هذه الهجمة الحثيثة المحتدمة، والمتصاعدة على جميع الجهات وعلى مختلف الأصعدة، في الشرق والغرب، غالبا ما يدور رحاها على مواقع انترنت بشكل مباشر وحينيّ. لقد برزت الآلاف من المواقع الدينية في أوروبا وأمريكا والبلاد الإسلامية، كلّها مُنشغلة بالمُنافحة عن دينها، والترويج لمعتقداتها، والتهجّم على الملل الأخرى. لكن هذا لا يكفي، يجب الخروج للدعوة والتجهّز لغزو دار الحرب وإخضاعها بالقوّة.
ودار الحرب في عرف الجهاديّين من أهل الملل الآن، هي كل المواقع ذات التوجهات العلمانية التنويرية. ومن المحتمل أن قوى الظلام هذه، إن لم تكن وليدة مبادرات شخصية هامشية، فهي مستندة على مؤسسات وتجمّعات دينية مدعومة بقوة مادية قاهرة. فبِفضل الابداعات التقنية للعقل البشري، الذي يُمرّغه أهل الظلام في الوحل، أصبحوا الآن قادرين على التصدّي لكل ما يُنشر من مقالات وآراء وأبحاث على الشبكة العنكبوتية، والوقوف بعنف ضدّ كل ما لا يتماشى مع نسقهم الديني ولا ينسجم مع مسلمات إيمانهم. وقد تكون هذه الهجمات المتواصلة والمكثفة هي تحقيق لأجندة معيّنة، وتعبير عن قصدية يقع التلميح إلى أغراضها أو يُعلن عن أهدافها من حين لآخر: الرّصد والمتابعة والهجوم على كل كتّاب المواقع التي تَفسح المجال لنقدَ الأديان، وتدعّم حرية الفكر، والعلمانية، مع التشنيع على كلّ من نادى بالخروج من الدين والتخلي عنه، وكل من رفض الخنوع لإله الأديان واختار نهج الإلحاد.
وبما أن عديد المواقع العلمانية أو الإلحادية، تؤمن بحرية الرأي وتضمن حق الإختلاف، بل تجعل من مبدئها المؤسس عدم الرّفض المسبق لأي رأي مخالف مهما كان مأتاه، فإن قوى الظلام ـ (هم الذين لا يؤمنون إلاّ بدين واحد، ولا يعتقدون إلاّ في حقيقة واحدة، ويُسفهون ما عداها) ـ تسلّلوا من هذه الفرجة، واستغلوها استغلالا فاحشا، لكي يُحققوا مُبتغاهم. تَقنيتهم مزدوجة: الترهيب والترغيب. الترهيب هو السباب والشتم والقذف وإلقاء أبشع النعوت على المفكرين الأحرار والعلمانيين والملحدين؛ الترغيب هو التظاهر بالدخول في اللعبة، والالتزام (ظاهريا) بقواعد الحوار العقلاني، ولكن الهدف هو إحداث البلبلة وتهميش القضايا، سواء على المستوى اللغوي أو المفاهيمي، واعتماد السباحة في العموميات، أو تجنيد بعض مقولات الفلسفة الحديثة، أو الإرتكاز على عدمية بعض مفكري ما بعد الحداثة الغربيين، والذين تمّ نقضهم في الغرب ذاته. ولكن اللعبة مكشوفة، لأنهم هم أنفسهم في الأخير، بعد اللف والدوران، والتقيّة المستمرة، يُفصحون عن أغراضهم المبيّتة، ويُظهرون وجههم الحقيقي. ففي البداية يتفادون قدر جهدهم ذكر الدين، ويتعلّلون بالموضوعية العلمية، بالدفاع حتى عن العقلانية، بالتجرّد الفكري، ويُنادون بحرية المعارضة والنقد، وبالحق في الإختلاف. ولتدعيم هجمتهم التديّنية يُقدّمون أمثلة لمفكرين متعاطفين مع الدين وغير ناكرين لوجود الإله، وتُرفَع رايتهم وكأنها حجّة ثابتة ضد الإلحاد.
المؤمنون الذين ما فتؤوا يُنافحون عن ركام من الأساطير والخرافات، والتي أفلست وانهارت أمام التقدّم الباهر للعلم الحديث وأصبحت جثة هامدة، مستعدّون، للتحالف حتى مع الشيطان ولاستخدام كل الوسائل، بما فيها استيعاب ما كانوا قد كفّروه من قبل. ألم يقل البابا راتسنغر أن العود الأبدي النيتشوي يمكن أن ينسجم مع بنود المسيحية؟ فالمتديّنون بارعون في عملية الإختراق والإحتواء: لا شيء ينبغي أن يستقل بذاته، أو يأخذ مساره الطبيعي، لا الدنيا ولا الآخرة. كل شيء: العلوم والفلسفة والعقل والايمان والدولة والدين، كلها يجب أن يُستحوَذ عليها، وتُدجّن وتُساق لتدعيم مقولاتهم الدينية. حتى أكثر الأساطير إذلالا للعقل وأبعدها عن الحس الإنساني السليم، يجب أن تُزجّ عنوة في بوتقة المعقول كي تحوز على مكانتها ومشروعيتها.
إن هذه القوى الظلامية التي، كما قلت، تستغل العلوم والتقنية المعلوماتية الحديثة، وهي إبداعات إنسانية متعالية على الألوهية والدين، تعمل جاهدة للإجهاز على مقومات العقل والنكوص بالبشرية إلى أحلك عصور الظلمات. الانجيليون الأمريكان، أشدّ الناس تعصّبا في العالم وأكثرهم تشبّثا بالأساطير، يُروّجون، في شبكاتهم، لفكرة المصمّم الذكي، يعني لفكرة وجود إله خالق حكيم، ويحاولون فرضها على المؤسسات التعليمية لطمس نظرية التطوّر. الإسلاميون لا يختلفون معهم قيد أنملة، ويروّجون هم بدورهم إلى معتقدات بالية مذلة للعقل ومستمدة كلها من أساطير العهد القديم، والتي هي بدورها آتية من أساطير بابلية وإيرانية تعود إلى غياهب العصر البرونزي.
إنّ هذه الأساطير المهينة للعقل، يُعاد الآن شحنها، وصقلها وتطهيرها ثم ترويجها في وسائل الإعلام وكأن لها مصداقية تضاهي مصداقية أي منظومة عقلانية. إن الغرض الأساسي من الأتعاب التي يتجشمونها، كما يتراءى من محاولاتهم اليائسة، هو توطيد الدين الذي يعتقدون أنه الدين الحق المهيمن على جميع الأديان. الإسلاميون، بعد السجالات والتمويهات، والكر والفرّ وحمل الأطروحة والنقيض، يُنزلون قناعاتهم الدائمة الراسخة: الإسلام هو دين الفطرة؛ الأديان التوحيدية الأخرى هي فاسدة؛ كتبهم ليست بالكتب المقدسة، بل هي محرّفة؛ القداسة هي للقرآن فقط، وهو كلام الله؛ محمد هو النبي الحق وما يُروى في التوراة عن موسى وفي الأناجيل عن عيسى هي أساطير وكفر. القرآن عقلاني والكتب الأخرى لا عقلانية؛ التكفير والإقصاء هو أمر ضروري لسلامة المجتمع، الملحد هو إنسان شاذ، مارق، كافر ولا مكان له في العالم الإسلامي، وإن وُجد فعلا يجب أن يُقام عليه الحدّ، كما كان يُقام على أجداده من المرتدّين والزنادقة.
دون أن أطيل على القارئ: أحاول في هذا البحث وما يليه، أن أبرهن على أن أفكار هؤلاء المنافحين الجُدد ليست صادمة، ولا مُقنِعة، ولا هي بالأصيلة. وسأثبت بالنصوص أنها كانت دائما عُملة رائجة حتى في الغرب، الذي يجعلونه الآن قدوتهم فقط في ما يخص اللاعقل أو التدين. ومهما فعلوا من محاولات لتجنيد أسماء من قبيل هايدغر وريكور وغادامير ودريدا وفوكو، فلا يستطيعون أن ينتشلوا نسقهم الأسطوري، أو ينقضوه من الإتلاف، لأنه مفلس بلا رجعة. وسأبرهن على أن الإلحاد، هو خيار مشروع، بل إنه الخيار الأنسب والأصح والأصدق. وأن أهل الأديان، والمؤمنون ككلّ، بعيدون عن أن يكونوا قدوة في الإنسجام العقلاني أو النقاء الأخلاقي الذي يزعمونه، إذ يكفي لتبكيتهم التعمّق في مبادئهم وسبرها على محكّ العقل، لكي ندرك مدى تهافتها المنطقي، ومدى فسادها الأخلاقي، وكيف أنها لا تعيش إلاّ في السفسطة والعنف، وبالتالي فهي الوبال على البشرية جمعاء، وأنهم مهما فعلوا لتزوير الوقائع، وتطهير سيرتهم، لا يُمكنهم أن يُنسُونا أبدا تاريخهم الطويل المُسطّر بالحروب والدماء.
1 - عود على بدء. استحالة الإنسان الملحد:
منذ بضعة أسابيع وخلال زيارة له إلى إنجلترا خطب البابا بندكت قائلا: «إنّ استبعاد الله والدين والفضيلة من الحياة العامة يؤدي إلى نظرة مبتسرة للإنسان والمجتمع، وبالتالي إلى رؤية دونية إلى الشخص ومصيره». إن أبشع التهم التي يمكن أن تُلقى على شخص في الغرب هي أن يُقال بأنه نازي أو ذو نزعة فكرية نازية، العديد من المؤمنين يطلقون هذا اللقب على الملحد، والبابا بندكت واحد منهم. هناك من أقصى الملحد من مملكة الإنسانية العاقلة، وهناك من أخرجه تماما من مملكة الإنسانية ورماه في حضيرة الحيوان. في القرن التاسع عشر قال أحد العلماء الفرنسيين: «الإنسان الملحد لا يمكن أن يكون إلاّ مجنونا أو مارقا (1)». فيكتور هوغو: «ملحد! ماذا يمكن أن يعنيه؟ كائن في صورة إنسان، يستحق أن يتبوّأ مكانه بين الدواب!». إن رفض الأولوهية هو بحد ذاته أمر شنيع أخلاقيا، فضلا عن أنه خلف منطقي: «كيف نتصوّر هذا، أن يكون ممكنا عدم الاعتراف بالعقل الأسمى في حضرة كون حيث يشعّ فيه العقل». هكذا يزعم مونسينيور ماينان (Meignan). أما الأب موانيو فهو بدوره يتساءل مستنكرا: «إنه أمر لا يمكن تخيّله؛ لا أحد يتردد في إرجاع الساعة إلى الساعاتي، الأكلة إلى الطباخ، ولكن يُرفَض إجلال المهندس السامي لهذا الكون البديع». أحد الخطباء يصعّد من النبرة: «إن التربية بدون الله، تلك التي تحرم الإنسان من نقطة انطلاقه ومن نقطة وصوله في الحياة، والتي تنزع عنه هدفه، تنتهي أخيرا بدحره عنوة في صفوف الدواب». بول دي كاسينياك (P. De Cassagnac) «رعب لا يوصف للمادية … هؤلاء الناس، العميان بالولادة، يرفضون سر الإله لأنهم لا يستطيعون إدراكه».
الإنسان الملحد لو أنه أصغى إلى صوت الطبيعته وعاد وانغمس في ذاته، لاعترف بالإجماع العام للبشرية على وجود إله، وهذا الإجماع نابع من غريزة أودعها الله في طبيعتنا. وعلى الرغم من محدودية عقل الإنسان وقصوره في سبر حقائق الطبيعة والكون يبقى اقتناع واحد صامد أمام الشكوك، يقول الأب رابان، ألا وهو حقيقة وجود الله. إنها الحقيقة الأكثر إشعاعا والأكثر شمولية للبشرية: «كل الأزمان وكلّ الأمم، كل المدارس متفقون على هذه الحقيقة. أفلاطون وأرسطو أكبر العلماء، اعترفا بهذه الحقيقة، من خلال ظلمات الوثنية. كلاهما أعطى براهين تُقبّلت من الخلف. أفلاطون برهن على وجود كائن أسمى من فكرة صانع العالم، الذي هو صنعة عقل، مثلما نبرهن على وجود المهندس من القصر الذي صمّمه. وأرسطو برهن على وجود إله بضرورة وجود محرك أوّل. إنها واحدة من البراهين التي اعتبرها ابن سينا الأكثر وضوحا عند أرسطو … إن أعظم العباقرة القدماء، فيثاغورس، أبقراط، سقراط، ثيوفراسطس، جالينوس، الذين درسوا الطبيعة بأكثر عناية، لم يستطيعوا فهم نظام وترتيب الأشياء، دون فهم الإله (2)».
كل هذه العوامل، يواصل الكاتب، تفرض معقولية هذه الحقيقة والتي لا تجد لها من معارض إلاّ في أصناف «عقول مخرّبة بالإحساسية، وبالغطرسة والجهل (3)». إن هذه الحقيقة تبدو في جلائها وقوّة إقناعها إذا قارنّاها بغطرسة المعتقد المضادّ لها، أي الإلحاد. فعلا « لا شيء أكثر وحشية في الطبيعة من الإلحاد: إنه تشويش في الروح متصوَّر في الخلاعة: لا يمكن أبدا لمن يزعم الشك في الدين أن يكون إنسانا حكيما، منظّما، عقلانيا». إن ذهن الإنسان الملحد هو ذهن بسيط منتفخ بذاك النزر القليل من الشهرة التي صادفته في العالم على حين غرة. فهو يعتقد جهلا أنه من الأجمل الشك في الدين عوض الخضوع له. وككل المؤمنين فإن الأب رابان لا يدّخر أي نعت تحقيري ضد الملحد: «إنه إنسان غاو، لم يكن لديه رأس حرّ بما فيه الكفاية، ولا العقل نقي للغاية، لكي يحكم بسلامة على أي شيء. إنه مبتدئ لم يَدرس شيئا في العمق، ولا يعرف إلاّ بعض الفصول من مونتاني، أو بعض الصفحات من شارّون. إنه حكيم مزيّف، لا يملك من الحصافة والتصرّف إلاّ لكي ينجّي ببراعة المظاهر، ويصنع شخصه، ويأدّي كوميدياه على أحسن وجه. إنه امرأة منسلخة المزيّة، منغمسة في ملذتها، ليس لها من عقل إلاّ ما كوّنته من تحرّرها. أخيرا، كل ما هناك من تخريب للأخلاق، من ضعف في العقل، وتشويش روحي في العالم، تقاوم ضد ما يعلمنا الإيمان عن الله ووجوده، بينما الاستقامة، الحس السليم، اعتدال وصلابة الحكم، تخضع لهذا المعتقد»
إن هذا الاجماع العامّ لكلّ الشعوب، والتي لم يوجد أي واحد منها على وجه الأرض دون الإعتقاد في إله، لهو غريزة طبيعية لا يمكن أن تكون خاطئة، لأنها كونية (4). ولذلك فإنه من البلاهة، يقول الأب رابان، أن نُصغي حول هذه المسألة لمشاعر اثنين أو ثلاثة من الملحدين، الذين نفوا الألوهية في كل الأزمان، لكي يعيشوا براحة بال في التفسّخ. هل من المعقول، يواصل الكاتب، أن يكون هذا الإحساس الكوني المجبول في الطبيعة، مجرّد وهم؟ ليس هناك من شكّ في أن هذه الحقيقة، ليست منفية إلاّ من طرف أنفس متفسخة بالشبقية، والأنفة. ماذا يستطيع الملحد أن يُقدّم من حجج لمعارضة هذا الإجماع عند كل الشعوب وفي كل الأزمان، ولتقويض هذا المعتقد؟ لا شيء، فهو لا يملك من حجة لاسناد كفره إلاّ الشك المحض، وكل أستدلالاته لا يمكن إلاّ أن تشكّل خليطا مشوّشا من الأفكار لا يقدر أن يتحمّلها إنسان ذو حس سليم. ذلك حينما يُزعم عدم الإعتقاد في ما يبدو قابلا للإعتقاد لكل الآخرين، فإن أحدهم يُحمل أحيانا على الإعتقاد في ما هو غير قابل للإعتقاد، «لأن قلب وروح الإنسان لا يشعران بأي شيء، كلما كانا لا مباليان إزاء هذا الإنطباع العامّ، أي الإيمان بالإله المغروس في الطبيعة (5)».
هناك اعتراض عملي يلزم الملحدين ويضعهم أمام مفارقة رهيبة لا يمكن الفكاك منها. وذلك حينما يُعمد إلى استخراج كل النتائج الممكنة من مبادئهم. فعلا، الملحدون إذا ساروا على هدي نسقهم فإن إرادتهم ستتعطّل وسيؤولون إلى التواكل والخمول واللامبالاة. أطروحة الملحدين هي أن الطبيعة علة كل شيء، هي كائن موجود من ذاته ومكتف بذاته، وتُسيّر العالم بحسب قوانين خالدة لا علم لها بها. «لا شيء ممكن إلاّ ما ف
08-أيار-2021
13-تشرين الثاني-2010 | |
19-تشرين الأول-2010 | |
24-نيسان-2009 | |
18-آذار-2008 | |
الإحترام والتسامح بين المسيحية والإسلام / جوليو تشيبلوني ــ ت |
18-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |