نيتشه والرجعية / ج1
2009-04-24
في مشروعية النقد:
غريب أن يستاء بعض المثقفين العرب من نقد نيتشه أو هايدغر أو فوكو، ومحاولة رفع هالة التقديس عنهم. أن يكون نَقدُ نيتشه غير بدعة فبإمكان كل قارئ أن يتفطّن لذلك من خلال الأدبيات التي كُتبت حوله منذ بدايته، أي منذ أن كان نيتشه مجرد كاتب مغمور ليس له أية شهرة على الساحة الفلسفية الألمانية. وفي هذا الصدد يمكن الإطلاع على كتاب رجل عاصره حيا وهو المفكر فرديناند تانيس، في كتابه "عبادة نيتشه. محاولة نقدية"[1]. ولستُ أنا الذي وصف نيتشه بأنه "نبيّ الشيطان ومحترف الكذب"، واتهمه بالتفسّخ الأخلاقي، بل معاصره هرمان تورك (H. Türck) في كتابه الصادر سنة 1891 بعنوان "فريدريك نيتشه وأخطاؤه الفلسفية[2]"
أما هايدغر فقد أخضعت كتاباته هو أيضا إلى نقد صارم، حتى أن هذا النقد جاءه من المقربين إليه، أي من أدرى الناس بفلسفته وتوجهاته السياسية، وأخص بالذكر، أستاذه هوسرل، وتلميذه كارل لوفيث، من خلال كتابيه "حياتي في ألمانيا"، و "هايدغر مفكر في زمن شحيح". هذا بالإضافة، إلى ردّات الفعل من طرف ثلّة من المثقفين الأوروبيين، مثل الإيطالي كروتشي (Croce) الذي وصف خطاب الجامعة بأنه "أحمق وعبودي" (stupido e servile)؛ أو الإنجليزي جلبارت رايل (G. Ryle) الذي قال، في مراجعة له شهيرة صدرت بمجلة (Mind, 1929)، بأن فلسفة "الوجود والزمان" هي كارثة (a disaster). فضلا عن مؤلفات أخرى لا تُحصى، وآخرها في الزمن كتاب فاي (Faye) "هايدغر، إدخال النازية في الفلسفة".
وفوكو أيضا لا تخلو كتاباته من أطروحات استفزت العديد من المفكرين ليس فقط اليساريين منهم بل حتى الليبراليين، سواء من جهة الطرح النظري أو حتى الاستتباع العملي. وقد جُوبهت هي أيضا بانتقادات حادة، ركزت على انتقائيته للمعطيات التاريخية، تأويلاته المشطة، اسكاته للأصوات النقيضة، ثم انتهاجه أسلوبا خطابيا قد غطى على مكامن الخلل في تفكيره مثلما بيّنا ذلك بدقة المؤرخان روسو وبورتر[3]. نقاده المشاهير، إذا اقتصرنا على العالم الأنجلوفوني هم، المؤرخ الفيلسوف الأمريكي هايدن واهيت (H. White)، الفيلسوف كريستوفير نوريس (Norris)، مؤرخ الطب النفسي أيريك ميدلفورت (E. Midelfort).
الفيلسوف الجدي والأمين لعلمه، لا يملك مقدسات، ولا يعترف بمناطق محظورة من النقد ومُحصّنة ضدّه. فكل انتاج بشري هو، بما هو كذلك، قابل للنقد مبدئيا وبالتالي ممكن نقده دون احساس بالذنب، أو خرق للمعايير الأخلاقية. الأديان ذاتها، التي في جوهرها إنتاج انساني بحت، هي بدورها لا تنجو من النقد بل ربّما تُقدّم، أكثر من غيرها، مادة لتفعيل الطاقة النقدية نظرا إلى أن أصحابها يدّعون امتلاك الحقيقة، والبعض منهم، المتفلسفون المؤمنون، يُروّجون لفكرة أن الدين لا يتضارب مع العقل، دينهم هم الذي يعتنقونه، أما الأديان الأخرى فهي إما مضادة للفطرة السليمة، أو ناقصة أو محرّفة. والمسألة كما، أوّلها أحد النقاد، هي مسألة جغرافية بحت، لأنهم لو وُلدوا في حضارة أخرى، وشبّوا على دين مغاير لتعصّبوا لدينهم ضد الأديان الأخرى، ولاعتبروه أكثر فطرية من غيره.
نحن لا ننقد المفكرين الغربيين لمتعة النقد، أو لأنهم غرباء عنا أو بسبب مخالفتهم لنا في الدين ونحلة المعاش، نحن ننقدهم على أساس مبادئ عامة تشترك فيها الإنسانية كافة، وعلى مدى انفتاحهم، وانسجامهم المنطقي، وجديّة أفكارهم ومدى استجابتها لمتطلبات الإنسانية جمعاء. أن يتحسّر رجل مثل نيتشه على العصر العبودي الذي باء بالأفول، أو أن ينصح الأرسطقراطية بإبادة من يعرقل مسارها من الفاشلين والمشوهين، أو أن يقول بأن الإعتراض الوحيد ضد فكرة "العود الأبدي" هو وجود أمه وأخته في هذا العالم، فهذه حقيقة أمور تثير تساؤلات جمة سواء من حيث جدّيّتها النظرية، أو حتى استتباعاتها العملية. ولا أراني مجحفا إن ارتبتُ في المضمون النظري لأقوال من هذا القبيل، لأن أي متعجرف دموي من جنرالات الحرب الأمريكان، يستطيع أن يتفوّه بهذه الكلمات دون أن يكون قد اطلع على الآداب اليونانية، أو على فلسفة شوبنهاور، أو تشبّع بأوبرا فاغنر. وبغضّ النظر عن الجانب الأخلاقي ـ لأننا لسنا حكّاما على تصرفات نيتشه الشخصية مع أفراد أسرته ـ وحتى إن مكثنا في ميدان النظرية البحت، ففكرة أن "العود الأبدي" قابل للنقض فقط لوجود امرأتين في هذا العالم، هي فكرة متهافتة فلسفيا وغير جدّية نظريا. لا يمكن أن يصبح وجود شخص ما في هذه الدنيا برهانا مدعّما أو مُفَنّدا لفكرة ما أو لأطروحة مبرهَن عليها أو مدحورة من طرف الأغلبية.
ومع ذلك فإن انتقاداتي هذه لا تذهبُ إلى حدّ نصح المتعلّمين بأن لا يقرؤوا نيتشه أو هايدغر أو فوكو، كلاّ علينا أن نقرأهم ونتمعّن كتبهم بعمق نظري وكفاءة علمية عالية، ولا أستبعد المتعة المتولدة عن قراءتهم والإطلاع على أفكارهم. لا أنكر أيضا أنني كنتُ في يوم ما أحد أولئك الذين استمتعوا، إلى حدّ ما، بأعمالهم التي كانت متاحة بين أيدينا. ولكن، يجب الغوص أكثر، يجب الاقلاع عن الإنبهار والتحلّي بروح نقدية مجرّدة عن الأهواء، حينها وحينها فقط ستبدو لنا الثغرات وتطفو إلى السطح سلسلة المعضلات التي لم نتفطّن إليها من قبل.
إذن، انطلاقا من هذه الروح النقدية، باشرتُ أعمال كانط ونيتشه وهايدغر وفوكو، وباشرتُ أيضا أعمال مفكرين عرب محدثين، ولقد رأيتُ أن هذه الطريقة هي أفضل الطرق في التعامل مع انتاجاتهم الفكرية: العرض المتأني لأفكارهم، الأمانة في إيراد النصوص، تأويلها بالرجوع إلى مؤلفاتهم ذاتها، الاستعانة بطيف من الأدبيات الثانوية، ثم التفكيك والنقد. وهذه الطريقة، هي حسب رأيي، أنجع بيداغوجيا، وأكمل علميا، لأنها تُتيح للقارئ امتلاك وعي صادق بأن مهمّته لا تنتهي عند حدّ قراءة نصوص المفكرين الغربيين، ولا تقتصر على استيعاب أطروحاتهم بأمانة، بل بالتفكير معهم وضدّهم. وبأننا أنداد لهم، ولسنا في حالة قصور دائبة.
1 ـ نيتشه في مرآة عصره:
العديد من فلاسفة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اعتبروا الشهرة التي حازها نيتشه في ميدان الفلسفة، شهرة غير مبرَّرة، وليس لها من سند علمي متين. المفكّر الفرنسي، ومؤرخ الفلسفة فوييه، في كتاب ألفه سنة 1902 بعنوان "نيتشه واللاأخلاقية" حاول تفسير هذه الظاهرة التي قال بأنها استفزت العديد من محترفي الفلسفة في الأوساط الثقافية الأوروبية. وقد رأى أن هذه الشهرة التي بدت للفلاسفة وكأنها فضيحة، لها أسباب ظاهرية وأخرى باطنية وعميقة. فأسلوب الاستعارة المقتضب يصلح لأناس ليس لديهم لا الوقت ولا القدرات الذهنية للتعمّق في أي شيء، بل إنهم يُصغون بانتباه شديد للألغاز الحِكمَويّة، خصوصا إذا كانت شعرية، إلى حدّ تبدو لهم وكأنها وحي منزّل. ثم إن غياب البراهين العقلية تُضفي على الدوغمائية المعارِضة مسحة من السلطة الروحية في أعين ذاك الخليط من أنصاف المتعلّمين، من أدباء وشعراء وموسيقيين وهاوين من جميع الأصناف. مفارقات تبدو في ظاهرها أصيلة تُعطي لمن يتبناها الغرور الوهمي بأنه مُبدع. إلاّ أن هذه الشهرة، يواصل الكاتب، لها أسباب أعمق وذلك أنها قدّمت تعاليم موغلة في الشخصانية والأرستقراطية على أنها قلبٌ نهائي لكل دين وأخلاق. كتاب زرادشت هو قصيدة شعرية تولّد نشوة في أذن السامع بغضّ النظر عن محتواه، وهو أيضا ردّة فعل، صائبة بمعنى ما، ضدّ الأخلاق الوجدانية التي كرّسها أولئك الذين يدعون إلى "ديانة العذاب الإنساني". بعد نقد هذه الوجدانية المُشطّة، نيتشه يُحارب العقلانية. والمفكرون العقلانيون الذين تتجه لهم سهام نقده على صنفين: هناك العلماء الوضعيون الذين يعتقدون بأن العلوم الصحيحة تكفي للتفكير الإنساني، وهناك الفلاسفة العقلانيون الذين يرون أن الواقع عقلاني وأن العالم في ذاته هو كائن مُنظّم تسري فيه العقلانية من جميع جهاته. لكن نيتشه يعارض هذين التوجهين، كما فعل شوبنهاور، بفلسفة الإرادة. إن أولوية الإرادة والقدرة على الوجدان والفكر هي جوهر تعاليمه وأسّها[4].
لكن، بعد قرن من الزمن، وفي فرنسا بالذات التي غدت فيها النيتشوية معقلا راسخا، ومَعينا لمعظم التيارات الفلسفية، تغيّرت النبرة وأصبحت عيوب نيتشه، هي فضائله الدائمة. هوبير سوفرين في كتابه "زرادشت نيتشه" يرى أن نيتشه سواء من حيث الأسلوب أو الأفكار هو فيلسوف مجدّد، لاراهني، وطريقته في التفلسف لا تتسع إلى البراهين وسلسلة الحجج التي كان يستخدمها الفلاسفة الكلاسيكيون: الثقافة الديونيزية كفت عن الانحصار في قوالب العقلانية وفضّلت الشعر والحكمة والاستعارة: « إذا كان هذا الأسلوب، النبوي الشعري في آن، أسلوبا غير معتاد، فذلك لأن نيتشه غير معتاد [...] سوف نرى في الواقع أن عبر تحويل القيم يشرع نيتشه في اعتراض جذري على كلّ ثقافتنا بواسطة المشروع الطموح المتمثّل في استبدالها بثقافة أخرى مختلفة وأرقى يمكن القول إنها فوبشرية [...] سنرى أن الملمح الجوهري للثافة الجديدة التي يتطلّع إليها نيتشه، إنما هي الإبداع، والعفوية، والفنّ، التي يشكّل اللعب أو النشاط الطفولي، أو الرّقص أفضل صورها، والتي يمكن أن يكون رمزها ديونيزوس، إله السكر والرقص، لا سقراط. إن ما يطالب به نيتشه إنما هو ثقافة يستعيد الديونيزوسي، المخنوق منذ اليونان الكلاسيكية بيد الأبولوني والسقراطية، يستعيد فيها مكانه بالضبط. لهذا السبب سوف يفضّل نيتشه على "سلاسل الأسباب الطويلة" التي كانت تفتن ديكارت كثيرا، الشعر والمثل السائر، والكلمة الجامعة، والمجاز والنشيد التقريظي، والإستعارة والمحاكاة الساخرة [...] ثمّة هنا فكر وتعبير ينبثقان من تلك الثقافة الأخرى المبشر بها ولا تجري قولبتها في قوالب ثقافتنا العقلانوية[5]».
لكن كيف كانت صورة نيتشه بالنسبة لمعاصريه؟ وما هي أهمّ المحطات التي مرت بها انتاجاته الفكرية؟
نبدأ من اختصاصه الأول وهو الفيلولوجيا: حينما اطّلع الفيلولوجي الكبير فيلاموفيتس مولّندورف، على عمل نيتشه "مولد التراجيديا من روح الموسيقى"، أصابه الذهول من كيفية تلاعب الأستاذ الشاب الذي يدرّس تلك المادة في جامعة بازل، بعِلمه لأجل ارضاء استيهامات فاغنر حول الموسيقى. وقال، بلهجة تأنيب قاسية، بأن استاذ الفيلولوجيا هذا قد شيّد أحكامه « على عبقرية مُموَّّهة وتحكّمات في علاقة مع الجهل (Unwissenheit) وقلّة حبّ الحقيقة (und Mangel an der Wahrheitsliebe)[6]».
أحد زملاء نيتشه، الفيلولوجي هرمان أوسنر (HermannUesener)، بعد تصفّحه "مولد التراجيديا"، أصيب هو أيضا بخيبة أمل وعبّر عن استيائه قائلا: « إنه عبث لا أكثر ولا أقلّّ. هذا الكتاب لا يصلح لشيء: مَن كتبَ شيئا من هذا القبيل فقد أعلن موته بالنسبة للعلم».
"مولد التراجيديا" كعملٍ فيلولوجي بحت، بدا للمختصّين أنه يمثل ضربا في العمق لعلم الفيلولوجيا، واستهتارا بمادئ البحث التاريخي. وفعلا، الفيلولوجي فيلاموفيتس، بعد أن عدّد الأخطاء الفادحة التي سقط فيها نيتشه، اختتم نقده بهذه الكلمات: « أعتقد أنني قدّمتُ البراهين على مُعاتبتِي إيّاه بالجهل ونقصان حبّ الحقيقة. ولكن أخشى أني أخطأت في حق السيد نيتشه. فإنْ اعتَرضَ علي بأنه لا يعبؤ بـ"التاريخ والنقد" ولا بذاك "التاريخ الكوني المزعوم"، وبأنه يريد "خلق عمل فنّي ديونيزي"، "وسيلةَ تَعزيَة ميتافيزيقية"، وبأن أقواله ليست لها الوجود العيني الفظّ للواقع النّهاري، بل هي "الواقع الجليل لِعَالَم الأحلام" ـ إن كان الأمر على هذه الشاكلة فإنني أسحب كلّ أقوالي، وأقدّم صاغرا اعتذاراتي. أترك له عن طواعية إنجيله لأن سلاحي لا يَفلّ فيه[7]».
فيلاموفيتس يؤكد على أنه
08-أيار-2021
13-تشرين الثاني-2010 | |
19-تشرين الأول-2010 | |
24-نيسان-2009 | |
18-آذار-2008 | |
الإحترام والتسامح بين المسيحية والإسلام / جوليو تشيبلوني ــ ت |
18-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |