Alef Logo
ابداعات
              

لقد جاءت حنيفة

مـهـــا حسـن

2008-08-25


لم تزرني حنيفة منذ رحيلها ولا حتى لمرة واحدة، ولم أتمكن أبدا من التقاط انفعالاتها في حالات ظهورها المباغت في أحلامي، حيث تصر دوما على عدم الظهور بدقة، بل تظل محتجبة وراء صمتها ووجهها الرصين وكأنه يخفي أسرار العالم. لا تريد حنيفة أن أعرف أي شيء عنها، لا تريد محاورتي، ولا زيارتي.
على العكس منها، كانت أمها ، حليمة، جدتي، تزورني باستمرار، وتؤكد لي دوما أنها لم تمت، وفي كل زيارة لها، كنت اعتبرها الأولى، وتفقد ذاكرتي وتلغي دوما جميع الزيارات السابقة، وفي كل زيارة "أولى" أقول لها: يحاولون أن يقنعوني أنك ميتة، ووحدي أعرف الحقيقة. كانت تبتسم لي برصانتها الراقية التي تعلن أنها تعرف السر وما يخفى ولكنها تفضل الصمت ...
فات على رحيل حليمة، جدتي، أكثر من أربع وعشرين سنة، ولم تنقطع عن زيارتي طيلة تلك السنوات، مع أن زياراتها أخذت بالتراجع في السنوات الأخيرة،إلا أنها،رغم ذلك، تأتي.
رحلت عمتي حنيفة، منذ ثلاث سنوات فقط، وبذلك تراجع أكثر معدل زيارات حليمة لي، وكنت أعذرهما، حليمة و حنيفة “لا بد أنهما مشغولتان معا، فهما بحاجة للثرثرة !".

العلاقة بينهما عميقة ، كأي علاقة جيدة بين الابنة وأمها، لا سيما إذا كانتا متفاهمتين ومن مستوى ذهني وروحي واحد، ومع أني انضممت إليهما لا حقا، مسببة أذى روحي لأمي، بانتمائي إلى عالم حماتها وابنة حماها، جدتي وعمتي اللتين تواصلتا معي روحيا أكثر من أي كائن آخر في العالم . لقد غابت حليمة وأنا في مقبل شبابي، إلا أن وجود حنيفة في الحياة، عوضني كثيرا.

لم نكن نلتقي كثيرا، أبعدتنا الفوارق الثقافية، اتجهت أنا للكتابة والعقل، وخنت روحي التي كانت ترقص لاسم حليمة، ولمرأى حنيفة، وسجنت نفسي ضمن قواعد صارمة قائمة على الاختيار والوعي...
لم تتخذ حنيفة موقفا مني، فالعقد الروحي بيننا أسمى من العتاب أو النقد أو التأثيم ، وكلما التقينا، وغالبا بالصدفة، احتوتني بالحضن ذاته، وكأن لا شيء يغيّر ما تأسس في دواخلنا .

لم تعاتبني حليمة على هجراني لعالمي الروحي، بل تابعت زياراتها ، وإصرارها على أنها لاتزال حية ، وكل من يعتقد أنها ماتت ، مخطئ!

حنيفة كذلك لم تعاتبني يوما، إلا أنها تعاقبني بعد رحيلها، فإصرارها على عدم زيارتي ليس له أي تفسير سوى أنها: قطعت الحبل بيننا وألغت العقد.

إذا كانت حنيفة غاضبة مني وتعاقبني بالغياب، فأنا أستحق ذلك، فقد تنكرت طويلا لعلاقتنا، وجعلت عالم الفكر والثقافة فوق ارتباطنا، وتنكرت للروح والميتافيزيق باعتبارهما تخلفا وأسطرة وتراجعا ذهنيا مني، مخفية كل انكساراتي ودموعي، متجاهلة أن ابتسامة أتخيلها من وجه حنيفة البخيل بالفرح كافية لأن تعيد لي كل توازني الانفعالي.
هي سنة جديدة، لدي انتظارات كبيرة، وعود معلقة، مخاوف من فشل، مشاريع تنتظر تحققها... ودعمي الروحي غائب، حليمة منشغلة عني بموتاها، وحنيفة تصر على الصمت والغياب... وأنا هنا، في عالم الأحياء وحيدة، وجود فيليب القوي في حياتي، لا يتسلل إلى عقودي الخفية، يظل قابعا في غرف العقل والمنطق ساخرا من "ميتافيزيقيتي" التي لا يمكنني الانفصال عنها، باعتباري ابنة وفية للميتافيزيق، وإلا كيف احتملت فناجين أمي وتوقعاتها الخاطئة طيلة تلك السنوات .
كنت أعوض خسارتي الروحية لحليمة، بفناجين أمي التي لم تستطع أن تحمل لي أي بصيصا من الأمن وهي تنقب هنا وهناك في زوايا راكدة، فتؤكد: ما في شي ... فنجانك فاضي!
وحين رحلت حنيفة في صباح مبكر، وذهبت إلى الموت مبكرة بشجاعتها الصامتة ، البعيدة عن التهليل والادعاء ، تركت بداخلي رعبا من الوحدة ، كان ينقصه فقط أن تنهيه صوفي، بإصرارها على اللحاق بها، حليمة وحنيفة، لترقد في سافوا، بعيدا عن زيارة حنان، حيث حليمتي وحنيفتي، فتضع بذلك خطا أحمر تحت طمأنينتي.
البارحة جاءت ...نعم، لقد جاءت حنيفة ...

لم تأتي حنيفة بشكل طبيعي، بل جاءت محتفية، جاءت بعرس وزفة ونساء أحبهن ...
كانت ترتدي ملابس جميلة وأنيقة، كما لو أنها لا تزال عازبة، فقد كانت قبل زواجها أجمل فتيات جيلها، وأكثرهن اعتناء بأناقتها، وبعد الزواج أهملت نفسها كثيرا، وتصوفت واكتفت بثوب واحد بعد رحيل والدتها. جاءت حنيفة وابتسامتها تملأ وجهها ، وكأنها تعود لسنوات قبل رحيل حليمة ، حيث كانت ضحكتها حقيقية ، وجلبت معها دومنيك التي أشعر بالدفء كلما التقيت بها، وأوريلي المجنونة المتصعلكة، ومرت حليمة بيننا ...
جاءت حنيفة إذن، جاءت مفتتحة ومباركة سنتي الجديدة، جاءت بعرس وموسيقا وضحكات... جاءت بفرح... جاءت لتؤكد لي استمرار عقدنا، وأنها منذ الآن، ستكف عن الثرثرة مع جدتي، للاعتناء بنا، نحن الأحياء المساكين!
مها حسن

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

«تابو البكارة» في معرض القاهرة للكتاب

13-شباط-2009

رأي في الجسد

19-كانون الثاني-2009

لقد جاءت حنيفة

25-آب-2008

فتى القطار

21-أيار-2008

إضاءات جنسيّة

12-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow