خاص ألف كان قد سبقني إلى المقعد ، واسترخى واضعا أغراضه على المقعد المجاور له ، قرب النافذة ، اقتربت منه وأنا أدقق في رقم الجلوس وقلت : هذا مكاني ! . كان قد اختار الجلوس على الجهة المؤدية إلى ممر القطار ، وسألني من باب اللطف و بابتسامة صافية ، أي المقعدين أفضّل ؟ كان ذلك مكانه ، فقلت له : تماما ، جوار النافذة . وهو المكان الذي أختاره عادة حين أحجز للسفر ، بينما اختار جاري المقعد الذي يسهل له حركته وتنقله في القطار . استرخيت في مقعدي ، بعد أن أخذ أغراضه وسمح لي بالعبور إلى مكاني ، أرجعت رأسي إلى الوراء ، مسترخية لتداعي أفكاري ، إذ أنني لا أحب القراءة أثناء السفر ، ولا سماع الموسيقا ، بل أترك أفكاري تسترخي ، وتتفاعل ، وأحاول التقاطها وحبسها في ورقة بيضاء أو في دفتر ملاحظاتي ، تحت عناوين وعبارات واسعة اشتغل عليها لاحقا . فاحت رائحة البرتقال من جاري ، قشر برتقالته وأكلها بهدوء ، ثم فتح كتابه وراح يقرأ فيه . لم يكن عمره يتجاوز الثامنة عشر ، أنه تماما بعمر فتى السرفيس الذي حاول اغتصاب حريتي .
نسيت الفتى الجالس بجواري ، ونساني ، استغرق كل منا في عالمه ، هو في كتابه ، ورسائل هاتفه ، وأنا في صور حلب التي لا تغادرني .
" كانت سيارة السيرفيس الكبيرة التي تتسع لأكثر من اثني عشر راكبا شبه فارغة ، كنت أجلس في المقعد الثاني ، مكاني المفضل، لتحاشي أقدام وأرجل ركاب المقعد الأول ، حيث تتصادم أقدام الركاب وركبهم ، إذ يجلس قبالتهم ، ركاب آخرون ، في المقعد المعاكس لمقعد السائق . كانت تجلس خلفي سيدتان . أما هو ، فما أن صعد السيارة ، حتى اختار الجلوس جواري ، تاركا كل الأمكنة المتاحة له . ومع تحرك السيارة ، شعرت به يميل نحوي ، وانتابني توتر غامض ، أحسست وكأن هذا الصبي يخفي شيئا تحت سترته التي رماها على ساقيه ، وبدأ يتشنج . أحسست بأنفاسه القريبة لي ، فاستدرت نحوه بلطف وقلت : ممكن أن تبتعد عني قليلا ، أنت تلتصق بي ؟ فأجابني بعدوانية شرسة ، وصوت هامس : أخرسي ، أو أفضحك ! أذهلني رده ، فأنا المهددة بالفضح والفضيحة ؟ انتابتني رغبة بالصراخ أو صفعه أو فعل أي شيء عدواني يتناسب مع سفالته ، ولكني كنت مرتبكة وخائفة ، فمن الواضح أنه وضيع لدرجة أنه قد يؤذيني أكثر ... ما هي إلا لحظات ، حتى توقفت السيارة ، ليصعد ركاب آخرون أشاروا للسيارة للتوقف ، وبدون أن يتردد الفتى الصعلوك ، قذف نفسه من السيارة ، دون حتى أن ينبّه السائق أو يطلب النزول. تنفست أنها جاءت منه ، لا مني ... وبدأت جارتيّ ، السيدتان الجالستان خلفي بالتحدث بينهما ، إلي « الله يقصف عمره ، ابن حرام .... والله كنا آكلين همك ... وخفنا منه ... » ، السيدتان اللتان لم أسمع حتى تنفسهما أثناء وجود الفتي جواري .
وصل القطار إلى نانت ، حيث أتجه ، ولكن جاري الفرنسي كان قد غادر قبلي ، دون أن أنتبه إليه ، ربما ودعني ولم أكن هنا.
في طريق العودة من نانت ، وصلت إلى مقعدي ، جوار النافذة ، وتلاني جاري ، أيضا كان شابا ، ولكن في الثلاثينيات من عمره ، قبل أن يجلس ، سلم علي ، ثم استسلم لكتابه . وصلنا باريس ، فقال لي بلطف طبيعي وتلقائي : إلى اللقاء . تبين لي أني لم أقل مرحبا إلى جاري الأول ، الفتى الباريسي الذي رافقني من باريس إلى نانت ، ولم أقل له إلى اللقاء ونحن نغادر القطار، بل تركته خلفي بغباء ، إذ كانت حلب تضغط على صدري ، دون أن يعرف جيراني الفرنسيون أننا شعب لا نفتقد إلى اللطف ، ولكننا نعاني من أوجاع الذاكرة ، فلا نعرف إن كان أحدنا في حلب أو القاهرة أو عمان ، أو باريس أو أمستردام ؟
أقسم، أني لو أخذت القطار في المرة القادمة ، سأسارع إلى إلقاء التحية على الجالس بقربي قبل أن يفعل ، أكان رجلا أم امرأة ، وأني سأسارع في توديعه وتمني مساءا طيبا له ، أو نهاية عطله طيبة. وأني سأقرر أني لم أعد في حلب ، يجب أن أفهم هذا جيدا ، وأني ، ربما ، إذا عدت يوما إلى حلب ، وأخذت سيارة السيرفيس ذاتها ، وصعد إلى جواري الشاب ذاته ، فسوف أروي له ، ولجميع الركاب ، حكايتي مع فتيان القطارات الأجانب ، حيث تنام أي امرأة في كرسيها بأمان ، دون أن تضطر لشرح قصة حياتها ، ولروي مآسيها في سيارات الأجرة ، والباصات ، والسيرفيسات ...
سأقسم لهم ، أنني ، وغيري كثيرات ، نشعر بالأمان ، في بلاد الفرنجة ، ونطمئن في شوارعهم ، وقطاراتهم ، و" متروات " أنفاقهم ، وكافة وسائط تنقلاتهم ، كما لو أننا في أحضان أمهاتنا ، لا نخشى من يد تمتد وسط الزحام ، لتتسلل للمس جزء ما من أجسادنا ، ولا نشعر بلهاث غامض ينفخ قريبا منا ، ولا حتى نظرة قد تؤذي كرامتنا ... سأقسم لهم ، أني أتناول شطيرتي على أي مقعد في الشارع ، وأدخن على أي رصيف ، وأسترخي في أي حديقة ، وعلى أي عشب ... دون أن يقترب مني أحد ما ، دون أن يضيّق على حريتي كائن من كان ، دون أن يعرض علي أحد مصاحبتي ، أو يعتقد أني بحاجة لمصاحبته .
هل يصدق فتيان مدننا البائسون ، أو فتياتها الحالمات بقليل من حرية ، أن المرأة التي تجلس في وسط ساحة ما ، أو مقهى ما ، أو سينما ما ، وحيدة ، لا يتجرأ أحد على النيل من مهابة وحدتها ، أو كسر ألق صمتها ...
يحدثوننا بعد ، عن كرامة المرأة المصانة في البلاد العربية ، وعن تلك المداسة ، في بلاد الفرنجة ، فهل نصدّق ؟
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...