هذه ليست كُرَة، إنها صديقي!
2008-10-17
بعدما قرأت "فاوست" جوته، ظلَّ حلمٌ واحدٌ يطاردني لسنواتٍ. أصحو من النوم ولا أجد مخلوقا في الكون! العالمُّ خاوٍ من كلِّ كائنٍ حيٍّ عداي. المحالُ والبيوتُ شاغرةٌ مُشرعةٌ نوافذُها؛ السياراتُ تركها أصحابُها كيفما اِتُفق في عرض الطريق مفتوحةَ الأبواب. أنادي أمي، أخي، جيراننا؛ ولا أحد! هل انتهى العالم ونُسيتُ على الأرض وحدي؟ ماتتِ البشريةُ؟ وأين الجثامين؟ لا شيء هناك. شعورٌ مرعب!
وأنا، أحبُّ الوحدةَ. قد يمرُّ شهرٌ دون أن أكلّمَ إنسيّا. مطمئنةً إلى أنه اختيارٌ وقرار. فالناسُ دائما هناك. والاستغناءُ عنهم لعبةٌ وجوديةٌ فاتنة. الوحدةُ فردوسٌ حينما تذهب إليها مُختارًا. لكنْ أن تُرغم عليها، فشيءٌ يشبه الجحيم.
في فيلم "المتروكُ جانبا"Cast away ، قُدِّر لرجلٍ، توم هاكنْس، أن يسقطَ من طائرة في الأطلسيّ. صارعَ الأمواجَ حتى وصل جزيرةً نائية. شرعَ الرجلُ، بعد أيام من انتظار الذي لا يأتي، في التكيّف مع حياته الجديدة. الوحيدة. ومثلما في الحياة البدائية، بدأ بإشعال النار، أصل الحياة. محاولاتٌ شتى أخفقت، وتمزّقت يداه جراء صكِّ حجر بحجر. وفي فورة وجعٍ وقنوط، أمسك بكفّه كُرَةً، كانت ضمن حمولة الطائرة، وألقاها بعيدا صارخا في ألم. انطبعَ كفُّه الدامي على سطح الكرة، فغدت أشبه بوجه أحد الهنود الحمر. ذهب إليها واحتضنها وأسماها "وِلْسُن"، الذي سوف يغدو رفيقه لمدة 1500 يوم، هي مدة بقائه في الجزيرة القصيّة. أحبَّ الرجلُ ولسن كما لم يحب أحدٌ أحدا. إذْ في الأخير وجدَ أُذنا صبورًا تُصغي إلى كلامه، وعينا ترقبُ صمتَه، وقلبا يحمل معه الوحدةَ والإقصاءَ. خبرَ معه الجوعَ والعطشَ والخوفَ والظلامَ والبردَ. والأهم من كل ذلك، الشعورَ المُرَّ بأنه زائدٌ عن الحاجة. متروكٌ جانبا. كان هاكنس يحاورُ ولسنَ، ويستمع إلى صمته. يغاضبه، يصالحه، يلاعبه، يطبّبه ويعيد رسمَ ملامح وجهه حين يتقشّر الدمُ من سطحه. حتى إذا لاحت، في آخر الفيلم، ظلالُ سفينةٍ بعيدة في عمق الماء، يحملُ الرجلُ صديقَه ولسن ويسبح به أميالا حتى يقترب من النجاة. لكن الموجَ القاسي أطاح بالكرة بعيدا. أنّى للموج بمعرفة المشاعر! صرخَ هاكنس، وبكى صديقَه "الكرةَ"، كما لم يبكِ صديقٌ صديقا.
لماذا اختار اسم "ولسن" ليمنحه صديقه الصامت: الكرة؟ لا شك عندي إنها إلماحةٌ إلى "كولن ولسن" صاحب الكتاب الكارثة "اللامنتمي" الذي يحلل طبيعة الشخصية النافرة عن السياقِ المجتمعيّ، اللا منتمية لقانونه الجمعيّ، الطامحة في عالم مثاليّ غير موجود. متخذا نماذجَ من مشاهيرَ "لامنتمين" مثل نيتشه، ديستوفسكي، فوكنر، كافكا، سارتر، فان جوخ، برنارد شو، وآخرين من أفذاذ هذا الكوكب ومجانينه المبدعين. أليسوا أيضا متروكين جانبا؟ نفروا من المجتمع ولم يقدروا أن يتكيفوا معه، لأن شروطَه "الصعبة" لا تتفقُ مع شروطهم "الصعبة"، وانعكس هذا "اللانتماء" بامتياز في أعمالهم الفنية والفكرية والإبداعية.
المهم، أن الإنسانَ، أيَّ إنسانٍ، حتى ذلك الراغب في الوحدة، الراغب عن الناس، لابد أولا أن يجد هؤلاء الناسَ من حوله، وإن لم يوجدوا، خلقهم. مثلما خلق هاكنس ولسن، ثم بعدئذ، ينأى عنهم ويتوحّد بذاته. لابد من وجود الناس، لكي نشعر بوحدتنا بينهم. وإلا غدا الأمرُ حفر فراغٍ في فراغ، أو صبَّ ماءٍ فوق ماء.
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |