مسيحي "بس" طيب!
2008-10-24
استنكر صحافيّ مغربيّ مقالا لي عنوانه "الدين لله، فهل الوطن للجميع؟"، ذاهبًا إلى أن أصدقاءه بمصر "قالولو" إن لا محنةَ طائفيةً في مصر، والكلّ يعيش في حبور ووئام. والحقُّ أن كلامَه صحيحٌ، إلى حد ما، في شِقِّه الشعبيّ. فالمواطنون يتعايشون بمحبة مع جيرانهم وأصدقائهم دون كثير اكتراث باختلاف العقيدة. ولنا في صعيد مصر مثالٌ. فالمسلمون يعتبرون أعياد المسيحيين مواسمَ لهم، يطهون فيها أطايبَ الطعام، ويَرِدون مزارات المسيحيين للتبرّك والزواج والإنجاب. لكن المحنةَ، كلَّ المحنةِ، في النخبة والرؤوس العليا.
أما مقالي ذاك فكان يطرح الصعوبات، التي تقترب من العراقيل، التي تواجه بناء كنيسة في مصر، في مقابل التيسيرات المفرطة في بناء مسجد أو زاوية صغيرة للمسلمين. حدَّ أن تُعفى ناطحةُ سحاب من الضرائب لو فقط بنى مالكُها أسفلها زاويةً للصلاة! هذا جميل. تيسير بناء دور العبادة أمرٌ راقٍ وحتميٌّ وبديهيّ، ومتسقٌ مع مبدأ جمال العالم. لكنْ ماذا عن الكنيسة؟ أليست دارَ عبادة أيضا؟ ولن أخوضَ، مجددا، في تلك المعوّقات التي ورثناها عن فرمان وزارة الداخلية عام 1934 الذي يشترطُ بنودا عشرةً عسيرةً للسماح ببناء كنيسة. ويناقض، في توجهه العنصري، الخطَّ الهمايوني الذي كان أطلقه البابُ العالي عام 1856 ويساوي تماما بين كل المواطنين المصريين متجاوزا عقيدتهم، ومن ثم تيسير تشييد الكنائس مثلها مثل المساجد. (هل نتقدم إلى الوراء في كل شيء؟).
ليس هذا موضوعي الآن. مقالي هنا يطرحُ إشكاليةً تكادُ تكون فولكلورية. بل هي فولكلورية مادام جذرُها يكمن في الثقافة الشعبية الراسخة في لاوعينا بحكم التراكم الإرثيّ. وليس كلُّ ما ورثناه عن السلفِ الصالحِ، صالحا.
ولابد هنا من استدراك لغوي ذي صلة. "لكنْ"، أداةٌ استدراكية في اللغة العربية، وفي كل لغات العالم، تُفيد استدراكَ المعنى الأول بمعنىً نقيضٍ له. يعني ما يلي مفردة "لكنْ" مفترضٌ أن يناقض ما سبقها، منطقيا. نقول: عجوزٌ، لكنْ جميلة. نحيفٌ، لكنْ قويّ. ثريٌّ، لكنْ بخيل، فقير، لكنْ سخيّ، الخ. فالجمالُ والهِرَم، النحافةُ والقوة، الفقرُ والسخاء، ثنائيات متناقضة، لا يجتمعان في شخص إلا وفصلت بينهما "لكنْ" الاستدراكية. وفي الدارجة المصرية تعادلها كلمة (بَس). انتهى الاستدراك اللغوي، وأسألُ: كم مرةً قبضنا على أنفسنا نقول: عندي صديق مسيحي، بس طيب! أو: الدكتور بتاعي مسيحي، بس عنده ضمير! هذه العبارات لا يقولها متطرفون، بل هي جزءٌ من موروثنا الشعبيّ المترسّب والقار في مُكَوِّننا الإرثيّ البالي. حتى المثقفون يقولونها وهم أول من ينادي بإلغاء خانة الديانة في بطاقة الهوية، وكذا ا البند الثاني في الدستور المصري الذي يربط المواطَنةَ بالعقيدة. نقول هذه ال"بس" دون أن نقصد شيئا. نقولها من اللاوعي التراكميّ دون أن نتأمل كم هي مريرة ورديئة ومضحكة. نقولها لأصدقائنا في المقهى، ثم ننتقد بشدة دعاةً غُلاةً ممن يُشعلون الفتنَ الطائفية بكتابتهم التعبوية التحريضية مثل د. زغلول النجار الذي لا يني يثير ضده المسلمين قبل المسيحيين باستفزازاته التي لا تنتهي. أذكر منها، مثالا لا حصرا، مقالا كتبه في جريدة الأهرام قائلا فيه إن الإسلام هو الدين "الوحيد" الذي حرّم الربا!!! ورددتُ عليه في مقال عنوانه "الفتنةُ في مصر، أين تنام؟ ومن الذي يوقظها؟"، ساردةً له آياتٍ من الإنجيل، بل ومن العهد القديم أيضا، تساوي بين المُرابي وبين المشرك. كأنه لم يقرأ الأناجيل ولا التوراة، واكتفى بالقرآن!! وهو بذلك مسلمُ "وراثة" مثله مثل ملايين المسلمين والمسيحيين الذين ورثوا عقائدهم عن آبائهم دون فضل لهم في ذلك ولا جهد ولا اختيار، ثم ينقلبون شرسين عتاةً في الدفاع عن هذا الذي ورثوه دون إرادة، ناهشين لحوم مَن ورثوا إرثا مخالفا عنهم!! أية كوميديا سوداء! وكثيرة هذه النماذج للأسف بين أدعياء، ولن أقول دعاة، الإسلام، وفي المقابل نجد نماذجَ أخرى مثل "الأب يوتا" الذي أثبت بمدونته الأخيرة، الرديئة، أنه مسيحي "بس مش طيب"!! إلى أين أنت ذاهبةٌٌ يا مصر الجميلة؟
* اليوم السابع
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |