أنا أُرقِّم، إذن أنا مفهوم
2008-11-14
"أنا مريض"، يقولُ لصديقه. فيردُّ الصديقُ: "لا، شفاكَ الله!". أما لو كان عدوا فربما يجيب: "لا شفاكَ الله!" الردُّ الأول مُحبٌّ عطوف يليق بصديق. (لا،) تفيدُ الاستنكار. فالصديقُ يستنكرُ مرضَ صاحبه، وبعدها يدعو له بالشفاء. الردُّ الثاني، عكس ذلك، كارهٌ قاس. فهو يدعو الله بألا يشفي ذلك المريض: لا شفاكَ الله!
الفرقُ بين الردّين مجردُ فصلةٍ صغيرة (،) غيابُها غيّر المعنى من الضدّ إلى الضد. إذ أوجبت هذه الفصلةُ، بعد لفظة (لا،) الاستنكارية، برهةَ صمتٍ أعقبها دعاءٌ بالشفاء. بينما (لا) في الجملة الثانية، نافية. تنفي الرغبةَ في شفاء المريض. هكذا حوّلت الفصلةُ المعنى للنقيض. كذا إذا قال أحدهم: "أظنُّ أنكَ لا تحب الأوبرا." فيرد الآخر: "لا، أحبها!"، لأنه يحب الأوبرا، أما لو قال: "لا أحبها." فالعكس.
الفصلة، النقطة، النقطتان، الشرطة الاعتراضية ... هي علامات الترقيم، أحد أساسيات بناء الجملة. ونحن الكتّاب العرب، من أسف، لا نعتدُّ بها كثيرا. على نقيض الغرب الذي يوليها اهتماما أقصى، كونها من أهم عوامل إيصال المعنى. متى نقف. متى نسأل أو نتعجّب. متى نفسّر. متى نستدرك المعنى. متى نعترض الجملةَ بأخرى...
هذا في مستوى اللغة العادية في الصحافة والمقالات والدراسات. أما عند مستوى اللغة الإبداعية والأدبية فالأمر يختلف. إذ ثمة مدارسُ أسلوبيةٌ تتباين حول مدى التزام الكاتب بعلامات الترقيم. نجد كتّابًا يُسرفون فيها لخلق إيقاع يشبه الإيقاع الشفاهي، من أجل دفق طاقة حياة في الكتابة الخرساء. في مقابل كتّاب يبخلون بعلامات الترقيم لخلق حال استرسال وسيولة تحاكي حال "التداعي الحر للأفكار" في الذهن البشري. فالذهنُ حين يتناول فكرةً ما، تتقاطر عليه الأفكارُ مثل موجات أو شلالٍ حرٍّ منهمر لا ينتظمه قانونٌ أو هندسة أو وقفات. بعدها يقوم العقلُ بتنظيم فوضى الأفكار المتساقطة عليه من هنا وهناك، لكي يصوغَ الفكرةَ النهائيةَ محددةً واضحةَ المعالم. بعدئذ، لو أراد تفريغ هذه الفكرة على الورق، لابد يستسلم لقانون الكتابة وأجروميتها، ليصوغَ جُملا مفيدة تتخللها علامات ترقيم، وتحترم سيموطيقا الكتابة التي درج عليها اللسانيون واللغويون والكتّاب. على أن بعض الأدباء الجسورين، يفضلون أن تظلَّ جملتُهم الأدبيةُ على عفويتها الأولى. تماما مثلما أنتجها العقلُ أثناء مرحلة التداعي الحر، دون "صنعة" الكتابة وحِرفيتها. خاصة في رصد المونولج الداخلي للشخوص وما يستتبع ذلك من تفجير الزمن وعدم ترابط الأحدث. أولئك غالبا هم أبناء مدرسة "تيار الوعي" stream of conscious مثل الأمريكي وليم فوكنر والبريطانية فرجينيا وولف، والأيرلندي جيمس جويس، الذي كتب في نهاية رواية "عوليس" Ulysses، جملةً واحدة استغرقت أربعين صفحة، دون علامة ترقيم واحدة، ليرسم حال تدفق الأفكار في عقل مسز بلوم وهي تحكي ذكرياتها.
وها أنا أقعُ في الشَّرك ذاته! إذ انتويت بمقالي هذا التأكيد على أهمية علامات الترقيم في المقالات. كرسالة التماس مني إلى مصححي الديسك في الجرائد الذين أحيانا يُفسدون مقالات الكتّاب بإهمالهم تنضيد الحروف وعلامات الترقيم، فإذا بتيار الوعي يأخذني وتشطُّ بي الأفكارُ شرقا وغربا لأعرّج على اللغة الأدبية. وهي ما لم تكن تعنيني الآن، في هذا المعرض. وللحديث بقية.
الجميلة بحق![1]
فاطمة ناعوت
[email protected]
أما المثالُ الأشهر الذي ساقه معلمونا لشرح أهمية "علامات الترقيم" فهو هذه الجملة:
Woman without her man is nothing
ثم يطلبون وضع علامات ترقيم مناسبة. الرجالُ سيكتبونها هكذا:
Woman, without her man, is nothing.
المرأةُ، دون رَجُلِها، لا قيمةَ لها.
أما النساءُ سيكتبنها هكذا:
Woman: Without her, man is nothing.
المرأةُ: دونَها، الرجلُ لا قيمة له.
لا شيء أكثر من فاصلةٍ هنا ونقطتين هناك ليتغيرَ المعنى من النقيض إلى النقيض. وأعتذرُ عن إيراد المثال بالإنجليزية؛ لأنه بالعربية وحدها مضلِّلٌ، نظرا لتباين توظيف الضمائر بين اللغتين. إغفالُ علامات الترقيم، يُربكُ القارئَ، ويُحدث التباسا في المعنى، وكوارثَ ربما. قرأتُ قديما عن رجلٍ انتحر إثر رسالةٍ وصلته تفيدُ أن زوجته ماتت، والسببُ خطأ لغويٌّ بسيط. وبعدما علمت الزوجةُ بانتحار زوجها، انتحرتْ بدورها. شيءٌ يشبه عبثيةَ انتحار جولييت وروميو!
أما أطرفُ ما حدث معي مؤخرا بسبب عَجَلة المصحح في جريدة عربية، فهو أن ظهرت جملةٌ في عمودي تقول: "كأنما يضعُ إكليلَ زهرٍ فوق "مهمة" شاعر."! وأصلُها كان: فوق "هامَة" شاعر. ولأنه من الخطأ أن نقول: (هامٌّ، هامّة)، والصحيحُ: (مهمٌ- مهمّةٌ)، ولم ينتبه المصححُ أنني لا أقصدُ "هامّة" بمعنى: "ضرورية"، من الأهمية، بل أقصدُ "هامَة"، دون تشديد الميم، بمعنى: رأس. فخرجت هذه الجملة الكوميدية! كذلك "فان جوخ"، جعلها "فإن جوخ"! لأنه ظن أنني نسيت الهمزة تحت الألف! هم لا يقرأون السياق، بل ينظرون إلى الكلمات منفردةً فتحدث مثل هذه المهازل. ورغم أنني أرسلُ المقالَ مرقونا على الكمبيوتر ومُنضدًّا، إلا أن مصححي الديسك أحيانا ما يُفسدون الأمر. إما بسبب دوجمائيتهم اللغوية التي تستنكرُ على الأدباء والشعراء اللعبَ قليلا باللغة تبعا لأسلوبية كل كاتب، بما لا يمسُّ طبعا الأجرومية النحوية والصرفية، وإما لأنهم يحررون الكلمات خارج سياقها بشكل ميكانيكي، فتحدثُ مثل هذه الارتباكات، التي، من أسف، لا تُحسَبُ إلا على الكاتب نفسه!
أما ثالثة الأثافي من الجرائم التي تُرتكَب في حق الكتّاب، أو ربما يرتكبها الكتّابُ في حقِّ أنفسهم وفي حقِّ اللغة والقارئ على السواء، فهي الخلطُ بين الياء المقصورة، دون نقطتين تحتها: (ى)، التي تُنطق ألِفا، وبين الياء بنقطتين: (ي). فتختلط كلماتٌ مثل: علِيّ=اسم عَلَم، علَى=فوق؛ تعالِيْ=فعل أمر لأنثى، تعالَى=جَلّ وعلا، مثل الله تعالى، موسيقَى=الفن، موسيقيّ= صانع هذا الفن، الخ. والعربُ يأخذون على المصريين الخلطَ بين الياء والألف اللينة بما يشكّل ظاهرة. وعبثا حاولتُ مع الصحف ألا يبدلوا "ياءاتي" "ألِفًا"! يقولون ليس لدينا طابعات تطبع ياءً بنقطتين! كيف وهذا الحرفُ موجودٌ في صحفٍ غير مصرية! أما تنضيد الحروف فهو حُلمٌ صعبُ المنال. وأنا ممن يعتبرون تشكيلَ الحرفِ جزءًا أصيلا منه. ليس فقط لأن العربيةَ لا تُقرأ على نحوها الصحيح إلا مُشكّلةً، لأن الحرفَ يتغير نطقُه تبعا لتنضيده، عكس اللغات الأخرى، بل أيضا في المستوى السيموطيقيّ. فالتشكيلُ يُزيدُ الحروفَ جمالا، ويعضدُ صلتنا الوثقى بلغتنا الجميلة. الجميلة بحق.
(ملحوظة: أتمنى أن يُنشر هذا المقال بنقاط تحت ياءاته كي لا تكون قطعة كوميديا جديدة)
[1] - جريدة "المصري اليوم" 3/11/08
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |