نمو حركة المفردة والإيقاع داخل النص
2008-11-22
قصيدة (المسافر) للشاعر الإيراني (سُهراب سبهري) نموذجاً
حينَ يكونُ الشاعرُ راكباً زورقَهُ مسافراً منذ آلافِ السنين دون أن يعلم أين ستفكُّ أصابعُ الفراغ الطريّة رباطة حذائه، وحين يكون المسافرُ هذا محموماً بحرارة التكليم فإنّه يرسلُ كلماته كطائراتٍ ورقيّة تتلمّسُ مثل أعمىً زرقة السماء...
في هذه القصيدة يقدّمُ لنا الشاعر (سُهراب سبهري) رؤيته الخاصة لمفردة (المسافر) وهي العنوان الذي قدّمه الشاعر عنواناً لقصيدته ولمجموعته المعنونة بهذا الاسم، فهو يضعُ مُفردة (المسافر) أمامه لينظر إليها من زوايا عدّة مختلفة، ليعطيها بذلك دلالات أكبر وآفاق أوسع؛ إذ المسافر لديه ليس مساوياً للمغترب بمعناه اليومي التقليدي فحسب، بل المسافر هو أيضاً الشاعر الذي يجول في الكون, والذي يتجاوز الزمن فيخترقه فيعبّر عن رحلةِ الإنسان المعاصر في وجع الضياع أو ما يسمى (الاغتراب)..
ونجدُ هذه التحوّلات ماثلةً من خلال عدة خطوط ملكت سير القصيدة:فهو يستهلُّ قصيدته بمؤشرٍ زمني يحدده بالغروب الذي يعني الأفول أو الوصول في اللحظة الأخيرة، أو اللحاق بأخر مهرجان الشمس، وذلك الوقت هو [زحمة حضور الأشياء التعب] وأثناء ذلك [ثمةَ نظرةٌ كانت تبصرُ حجمَ الوقت] وهذه النظرة هي نظرةُ المسافرِ التعبة، ويستندُ الشاعرُ على هذا التحديد كعتبةٍ لدخول عوالم القصيدة قبلَ أنْ تنزلَ خطواتُ المسافر من الحافلة، فهو بهذه الإستهلالات يهيئُ العبارات للحديثِ عنْ السفرِ الموازي للغربة بمفهومها اليومي التقليدي الذي يمثلُ إشكالية في المجتمعات وبخاصّةٍ الشرقية، فالغربة بهذا المفهوم هي الهروب من (المكان)، ثُمّ الحنينُ إليه و العودة، أو حُلُمُ العودة، لكننا سنجد مسافر سُهْراب هُنا عائداً، ومع أنّه يكونُ في الوقت الحرج (الغروب) إلاّ أنّه يصلُ ويلتحمُ بالحياةِ من جديد وهذا ما يعبّر عنه بقوله: عند الغروب/ في زحمة حضور...حجم الوقت.
فعينُ المسافر المنتظرة تعلمُ أنّ الوقت متأخّر ومع ذلك فهي تصلُ في النهاية: نزلَ المسافرُ من الحافلة / يا لها من سماء صافية/ وخطفَ امتدادُ الشارع غُربته.
نجدُ هُنا كيفَ أنّ الشاعر احتفل بكلمة النزول، لأنّه ليس نزولاً وحسب، وإنّما هو نزولٌ من الحافلة (الغربة).
ونرى كيفَ أنّه وازنَ شعور النزول بالسماء الصافية التي توازي صفاء روحه لحظة النزول، والتضادُّ واضحٌ هُنا فالسماء صافية ما يعني أن الحافلة خانقة،ثُمّ يواجهُ زمنَ السفرِ ومُدّتهُ التي أخذَتْ منهُ شروقه كُلَّهُ ولم يتبقَ له منها سوى الغروب بمفردة (امتداد الشارع)، فامتداد الشارع خطف زمن غُربته، ووازى الغُربةَ الصعبة بامتداد الشارع.
ومفردة (مسافر) تأخذُ أبعاداً أُخرى من خلال سير القصيدة فهو تركَ المسافر ذاكْ ليدخلَ أعماقاً أُخرى فبعد أن كان يتكلّمُ عن مُسافرٍ ما، راحَ يتحدثُ بضميرِ المتكلِّم ليُعطي لنفسه آفاقاً أكبر ومساحةً فيقول:
- مازلتُ على سفرٍ (يخطرُ لي أنّ زورقاً ما يجوبُ مياه العالَمْ) وأنا مُسافرُ الزورق منذُ آلاف الأعوام /أُغنّي لكل الفصول/ وفي أيّ مكانٍ يستطيع أثر القدمِ ناقصاً /وفي أيّ مكانٍ ستفكُّ أصابع الفراغ الطريّة/ رباط الحذاء، هُنا يكون المسافرُ هو الشاعرُ الذي يجوبُ مياه العالم منذُ آلاف الأعوام، فيكونُ الشعرُ وحده عنصر الغناء لجميع الفصول، فيواجهُ بالمواويلِ الحيّة الانقراض أي الموت، والشعرُ يحملُ همومَ العالم ما يجعله مُسافراً دون وجهة يبعثُ الأغنيات ولا يدري أين سيفكُّ رباط الحذاء.
فالمكانُ يبدو مجهولاً وهمياً ما يدلُّ على استمراريّة الحُلُمْ خارج حدود المكان مكتفياً بالزمن وحده والسفر عبره (منذ آلاف الأعوام)، وفي منحىً آخر نجده يختارُ الاغتراب عن المجتمع والواقع من خلال حالةِ الحُلُمْ والتمنيّ بالرجوع إلى الطفولة التي تُعبّر عن صعوبة الزمن المعاش ما يدفع بالمرء إلى تمنّي الطفولة البهيجة:
ابعثني لمطاردة الطائرة الورقية لتلك الأيّام /وخُذيني إلى خلوة أبعاد الحياة/ ودُلّني على مقام الهباء الرقيق، فالتمني بالرجوع إلى الطفولة أو الهباء الرقيق هو عُنصر الخلاص من الواقع المعاش فهذا التحّول يبرز مدى صعوبة الاغتراب عن الحياة والمجتمع واللجوء للشعر إزاء الغربة.
هذا ما كان بالنسبة للحديث عن حركة سير القصيدة ومواكبتها للتحوّلات التي أصابت المفردة، لكن القصيدة قد نجحت في نقل هذه الأحاسيس عبر عناصر عدّة تتمثلُ رُبّما في ابتداعه لحركة إيقاعٍ جميلة داخل النص بعيداً عن الوزن التقليدي، فحركة الإيقاع تبرزُ من خلال إضفاء طابع السكون على الأشياء والمفردات (سجادة الفراغ، الحياة الصافية، صمتُ المرج، هجمة الفراغ، سكوتَ الرجلين، أصابع الفراغ).
وإزاء هذا السكون نجدُ احتفاء بالحركة الجميلة الموزونة، فالريحُ عنده لا تزمجرُ ولا تأتي كعنصرٍ للدمار وتعبير عن القلق وإنّما /تهدي أريجَ الحديقة/، والحزنُ لا يبدو قاتماً سوداوياً بقدر ما يأتي موسيقياً ذا إيقاعٍ جميل /إنّ ترنُّم الحزنِ الموزونِ هذا سيبقى مسموعاً إلى الأبد/.
والحياةُ عبارةٌ عن إيقاعٍ هادئ على حجارة مكَار التي تروي الأسطورة الإغريقية أنّها تُصدِرُ صوتاً موسيقياً إذا ما ضُربت بالحصى لأنّ أبوللو سبقَ أن وضع قيثارته عليها /الحياة ضربةٌ هادئة على حجارة مكَار/، وحركةُ القطاف من مشاعر الموت حيثُ يبدو الموتُ هادئاً في النصْ ومُتآلفاً مع الشاعر فالمرأةُ تتعاملُ مع الموت بحنيّة من خلال حركة القطاف الهادئة كانت يدها البدوّية تقطفُ بحنان /ندى اللحظات من جسد مشاعر الموت/، والحوارات التي نتلمّسُها في القصيدة تبدو غنيةً وفاعلة في حركة النص إذ يُضْفي عليها إيقاعيةً متوازية، خاصةً أنّ حواراته خارجةٌ عن المألوف، فالحوارُ لديهِ لا يتكونُ دوماً من قطبين فيكون اللاحقُ ناتجاً عن السابق، وإنما يُفاجئنا حواره البعيد عن المسرحي والقصصي من خلال الاستئناف فيلقي جملة، ثُمّ يتبعها بجملة يُفترضُ أنْ تكون ردّة فعل عن الجملة الأولى، لكنّها تُفاجئنا بأنّها امتدادٌ للانطباع ذاته في صيغة جديدة أو انفعال جديد إزاء الحدث، وهذا ما يُعطي حيويةً للحوار ولحركة النصْ، وهكذا يبتعدُ عن مطبَّ الدخولِ في المسرحي والقصصي فيكون الحوار حالةً شعريّة خاصّة لا يمكن تصنيفها إلاّ في القصيدة:
- أين حفلُ الخطوط ؟
- انظر إلى التموّج؟ إلى تشظي جسدي
- من أي جهة سأصل السطح الشاسع؟
- وأملأ امتدادي إلى المساحة الرطبة للكأس الملأى بالسطوح الصامتة
- في أي مكان ستصيرُ الحياة رقيقةً كما انكسار آنية /وتُذيب حرارة فم الحصان/ سرّ نمو الخبّازى،
ويبدو الحوار هذا مونولوجاً داخلياً بينه وبين ذاته وهذا الحوار (المونولوج) توالد مع تغيّر حركة مفردة المسافر، فحين كان يحدثنا عن المسافر (المغترب) بدا الحوار سؤالاً من شخص آخر هو المضيف إلاّ أنّه هُناك أيضاً لم يتجاذب أطراف الحديث تجاذباً تقليدياً:
يا للتفاحات الجميلة..! والحياة منشيةٌ بالعزلة
- ما معنى جميل
- جميل يعني تعبير الأشكال ألوانه...
...- وماذا عن بلسم الحزن
- إنّه يمنحكُ صوتاً إكسيرياً مُصفّىً.
فهو يصدمُكَ بأسئلةٍ بسيطة وجميلة كالسؤال عن معنى جميل وبلسم الحزن وحيث أجوبةٌ شعريّة غارقةٌ في شعريتها وللنصّ آفاقٌ أُخرى حيثُ إسهاب في الحديث عن المكان الجغرافي الذي يأخذُ دلالات إنسانية عميقة ويُكثَّفها لتُعطي معانٍ أكبرْ: (فينسيا، بابُل، العراق، الطور، تاج محل، باغ نشاط فلسطين...).
ويستندُ على الملحمي والتاريخي هُروباً من المعاش إلى الحُلُمْ والتاريخ: (سُهراب، حُلُم القادسية الهنيء، خيول المغول...)، وحيث الأسطورة مستعيراً منه دلالات توازي الانكسار الحاصل والبحث عن عناصر خصبة غير متناهية: (حجر رينوس، بجيرة هامون، صخرة مكَار)، والمقدّس الذي اختاره دالاًّ على اتجاه إنساني عام، فتعامل مع المقدّس مُسقطاً إيّاهُ على الذاتي:
- يشيرون إلى ستارة إرميا النبي /وأنا بصوتٍ عالٍ عالٍ أقرأ سِفْرَ الجامعة/ وأنا المسافرُ الوحيد الأتي من سياحة أطراف طور المحموم بحرارة التكليم.
وتوظيف الشاعر للملحمي والتاريخي والأسطوري و المقدّس جاء جميلاً حيثُ هي ومضاتٌ يطؤها دون أنْ يغرق فيها بعيداً عن حالات الإسهاب التي قد تُغرقُ بعض النصوص.
وهكذا فإنّ القارئ للقصيدة قد رأى تطوّر حركة المفردة من خلال تنوع زاوية النظر وتبادل الضمائر وتناوب الزمن من الماضي للحاضر، وقد لاحظنا نمو حركة الإيقاع من خلال إبراز ثنائية السكون والحركة بتناوبٍ يُبرزُ عنصر الإيقاع ومن خلال حواراته الجميلة التي أضفت طابعاً إيقاعياً.
08-أيار-2021
07-نيسان-2018 | |
17-تشرين الأول-2015 | |
24-أيار-2014 | |
20-نيسان-2014 | |
23-حزيران-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |