حين رقصت دمشق على الخشبة
2008-12-01
إلى أصدقاء لاوند هاجو.. مثلما إلينا أيضا
في لقاء صحفي معه، ذكر لاوند هاجو الراقص والكوريوغرافالسوري الراحل أن الأوروبيين الذين شاهدوا عروضه على مسارحهم، تساءلوا دائما إن كان بالفعل سوريا. مستغربين كيف يقدّم فنان من سوريا رقصا بهذه الحداثة وهذا الانفتاح، كيف ينجز سوري هذه العروض الجريئة بمواضيعها وأدواتها. وفي الحقيقة فإننا نحن في سوريا وإلى وقت قريب لم نكن لنصدق أن لاوند هاجو سوري. فلم يكن من السهل علينا تحديد أصل الاسم الكردي الذي يحمله، ولا التصديق بأن شخصا سوريا يمكنه أن يقوم بالمبادرة في تأسيس مسرح للرقص الحديث. فمن أين لسوري بكل هذا؟
لم يستغل لاوند مشروعه بكونه "صدمة" لمجتمع غير معتاد على هذا الفن. بل تعامل معه بجدية عالية واحتراف نال تقدير الاختصاصيين وحصد جوائز على أرفع المستويات.
في صباح الثاني عشر من نوفمبر، عثر عليه مقتولا في شقته. كان مجرد قراءة تفاصيل الجريمة رعبا وكابوسا، وكان من الصعب تصور الجسد الذي ملأ الخشبة حركة وحياة وحبا. مقتولا، ساكنا فجأة، مغدورا في فرحته.
وحيدا مثلما يحدث في أشد الروايات بؤسا وقسوة واجه عيني قاتله. مثلما لا يمكن أن يحدث إلا في أشد الكوابيس رعبا عومل هذا الجسد الجميل بالتكسير والتهشيم والحرق. مثل قصيدة حزينة، مثل مطر لا فكاك لوجعه سيفتقده جمهوره وستفتقده فرقته التي أسسها منذ سنوات. فرقته التي حملت اسم "رماد" وكأنها استشراف لهذه النهاية التي لم تكن لتخطر على بال أكثر المؤلفين فجائعية وعبثا.
بالتجريب والمثابرة والحب خرج مشروعه. نجح بفضل ثقافة وموهبة كبيرة في تحقيق تألق مميز أنجزه لاوند في عمر صغير. عناده كان بفعالية مؤسسة. ونجح في بضعة سنوات في شق الطريق لعروض راقصة قامرت بكل شيء بدءا من الاعتماد على راقصين غير أكاديميين إلى المراهنة على جمهور شبه أمي. وسط مشاكل في التمويل ومشاكل تقنية حتى في أبسط التفاصيل. هاجو كان نموذجا لا يتكرر كثيرا في جيله ومرحلته التي عاشها في سوريا. خرج مثلما تخرج أرق الأزهار وأكثرها هشاشة وسط أكثر الصخور صلابة وجفافا. مغامرا بل مقامرا ومراهنا على مشروع فاجأ الجميع بكسبه لرهانه حين كانت عروضه تقابل بتصفيق طويل وامتنان من جمهور لم يخذل هاجو ولا فرقته، رغم افتقاره لأدوات التلقي والخبرة وغربته عن كل ما يمثل هذا الفن من حداثة وانفتاح ولكن ليس عما يختزله من تواريخ وصراعات ومعاناة.
حاول لاوند هاجو منذ بضعة سنوات تقديم عروضه الراقصة على مسارح دمشق. وكنا مفتونين بعروضه إذ شكلت صدمة لذيذة لكل من شاهدها آنذاك. أن تقدم مسرحا للرقص الحديث في دمشق في تلك الأيام وحتى اليوم كان مغامرة حقيقية وشجاعة مثيرة. أشبه باحتجاجات الحرية التي غالبا ما كانت توءد قبل ولادتها ويتم تغليفها بأكياس قانون الطوارئ البلاستيكية السوداء ورميها في المحارق. هاجو صرخ صرخته الجريئة وسط قانون طوارئ رفعه مجتمع يخبئ رأسه خلف الحاجة وخلف الخوف. فجأة صار لدمشق جسد يرقص على الخشبة. صار لها جسد يتذكر ويحلم ويتألم ويتساءل. كانت عروضه صرخة "موت معلن" لجسد. محاولة دؤوبة لتجنب الجريمة قبل فوات الأوان. وصار لدمشق جسد فاتن ومغو وحر ورشيق. جسد تخلص من شحوم الكسل والهروب والتردد. راقصون بانطلاقة الشباب وعناده حاولوا رفع المرآة أمام عيوننا. حاولوا إقناعنا وتذكيرنا بهذا الجسد المؤجل والمنسي والمغضوض عنه النظر. حاولوا إثارة حسدنا واستنهاض الأسئلة والتفتيش. صرنا قابلين للشك بأن هذه هي أجسادنا. وأننا لسنا بفراغات تتحرك بل نحن تماما هذه الأحلام والهواجس التي تراقصت على خشبة المسرح والتي كانت ربما لولا لاوند لتأخر حضورها وتحليقها كثيرا.
كانت إذاً دروسَ محو أمية حاول هاجو إعطاءها لمدينة ترغب بفك حروف هذا الفن. راهن هاجو على حساسية جمهوره وتعامل معه باحترام وتواضع. قدم له الأسئلة وحاول معه فك الشيفرات. تركنا دائما في حالة ذهول وفوضى خلاقة من أسئلة ملعونة. حاول هاجو دائما تناول مواضيع كبيرة في عروضه وتقديم لوحات لشخصيات كان الجسد عقدة أساسية في أزماتها. بسيطا زاهدا رافضا لأي تشويش على الأجساد في اللوحة. متحيزا للجمال الصرف للجسد مفضلا في تلك المرحلة عدم التشويش على المتلقي بأية إضافات معقدة للملابس والديكور. واعيا تماما لأدوات التلقي، كان يريد خلق جسر قوي بين هذا الفن وبين جمهور لا يعرف حرفا من أبجدياته.
هذه سطور أكتبها لأصدقاء هاجو وكل من رافقه في حلمه. نحن بحاجة كبيرة أن يستمر هذا المشروع. أن يتابع تحليقه لـ"تلمس أصابعه الشمس". لا تتركوا لاوند يموت مرتين. ربما حين يسمع النائمون صراخكم يستيقظون ويعرفون.
كاتبة سورية
[email protected]
عن موقع كيكا
08-أيار-2021
01-كانون الأول-2008 | |
14-نيسان-2007 | |
14-شباط-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |