تجري أحداث ( الكومبارس ) رائعة نبيل المالح السينمائية في غرفة البطل، وهو عامل سوري يعمل في وظيفة صغيرة في أحد المسارح السورية.ينتظر الشاب حبيبته الأرملة، بكل ما يترافق هذا الانتظار من أحلام وأشواق. وحين تأتي الحبيبة تبدأ رحلة صراع مؤرق طوال الفيلم ويفشل البطلان بالمبادرة بالجنس الذي اعتقدا أنه فردوس سيتفجر ما إن يقفلا الباب عن المدينة. هناك في الغرفة تقف دمشق الكبيرة بينهما. دمشق التي يصورها المخرج في المشهد الأخير رمادية مزدحمة وبطيئة. يصورها عملاقا يبتلع البطل ببطء بينما يحاول الهرب من دمشق التي ترفض الخروج من الغرفة. ترفض الخروج منه.
يتكرر الانفصال في ( نسيم الروح ) لعبد اللطيف عبد الحميد، حيث تشاء الأقدار أن ينفصل البطل عن الحبيبة، ويتركها لزوج لا تحبه. يصور عبد الحميد لوحات شعرية للعاطفة التي ما تزال تتنفس تحت
جلد الحبيبين، الذين كتب لهما ألا يستمرا معا. بطل الفيلم يلتقي بفتاة تعمل في محل لبيع الورود. تلوح حكاية حب جديدة بين الاثنين، حب لن يستمر بعبثية غير مفهومة، وقسوة يمارسها المؤلف على أبطاله.
هذا الشرخ بين الرجل والمرأة سيظل حاضرا في قصائد العديد من الشعراء والشاعرات السوريين. هناك دائما انفصال. رجل ينتظر. امرأة تمضي بلا عودة. رحيل كارثي. أو لقاء مشتهى لا يكتمل.
في ( رجل نائم في ثياب الأحد ) يرسم حسين بن حمزة الزاوية الكئيبة التي يمارس الشاعر فيها طقوس الفقد لحبيبة كان يجب أن ترحل، لسبب ما:
" ثمة حياة قليلة في الرواق
ثمة المطر نفسه في الخارج
ثمة من ينسق أزهار خيبته
ثمة من يقيس غيابك
بالغبار
وهو بتراكم
على زجاجة العطر...! "
الدرَج في قصائد حسين بن حمزة غياب قسري يفترضه الشاعر أو يفرضه، الدرج كجزء خارج الغرفة، داخل النص داخل الشاعر. الدرج الذي هو انصراف الحبيبة الذي لا يمكن إلا أن يحدث.
" ما أريده...
أن تخرجي من حياتي
وأن لا أصنع شيئا
سوى
أن أستمع إلى الموسيقى
ترافق
وقع
ياسمينك
على
الدرج...! "
رحيل الحبيبة يصبح هو الحلم. هو النهاية التي لم يعد هناك بديل لها. لسبب غير واضح. لمبرر لن يذكره الشاعر. مازوخية؟؟ عبث؟ معاناة مزمنة من سوء فهم؟ أسئلة لذيذة تراود القارئ وهو يحاول فهم دراما النص.
الدرَج عند فراس سليمان محمد ( والذي سيتكرر في العديد من قصائده ) ليس الطريق الذي يرحّل الحبيبة، بل الطريق الافتراضي الذي يأتي بها:
" أرجوك لا تطقطقي على الدرج
فالعالم لا يحتمل أن يسمع دقات قلبي
لا ترنّي على الجرس فتفقئي عين الجيران
لا تدفعي الباب كعادتك ليصدر صوتاً أكثر حناناً من صوت أمي "
هل الحبيبة تأتي بالفعل أم أن خطواتها لوحة تبتكرها أشواق الشاعر؟ الجرس الذي يجلب الذعر بدل أن يأتي بالفرح، هل هو خوف مما سيحدث أم مما حدث؟ لماذا تحضر الأم في اللحظة الأخيرة بدلا من الحبيبة؟ كل شيء إذاً أكثر وضوحا منها. كل شيء أكثر تأثيرا، أكثف وجودا. حضور الحبيبة هش وسهل الانكسار أمام كل هذه التفاصيل، أمام هذا المزيج المرعب لألوان الخوف والحذر. ومن جديد الغرفة منتهكة، وبلا حرمة إذ أن لكل الجيران الحق في التواجد ( بشكل ما ) حتى في أكثر لحظاتهما حميمية. هذا الشرخ الذي يفرض نفسه كلما اجتمع رجل وامرأة لن يبقى لغزا عند فراس سليمان محمد، إذ أنه تراكم للخوف من العسكر بكل الدلالات التي تتحملها هذه المفردة:
" لماذا عندما أحبك أفكر ّبكل الذين أعرفهم
وأحسب أن جسدينا جثة واحدة محشوة بعدد هائل
من وسائد العساكر "
ويبدو أن قرار انفصال الشعراء عن حبيباتهم هو تكيف عاطفي لإنقاذ الحب! فالحب كي يحقق شرطه، أو استمراريته يجب ألا يحصل!!! إذ لتنجو فكرة الحب يجب ألا يعكرها الحب، بمعنى آخر فالحب هو بداية النهاية وهو عند فراس سليمان محمد بالمحصلة مقدمة للفقد:
" ولأحتمل مغبّة أني عندما اشتقت لأحبك اشتقت لأفقدك "
ويبدو أن ما يخافه فراس سليمان محمد، تعيشه مرام المصري للتو، حيث لم يبق من حكايات الحب، سوى الملل والتكرار، سوى برد ستنمو فيه كائنات الكسل، والخيبة:
" لأنه لم يعد بيننا حساء دافئ نتناوله،
حديث فاتر نكرره،
لأنه لم يعد بيننا غير سرير،
لا تنبت عليه إلا الطحالب
وليل لا يمحو تعب النهار،
لأنه لم يعد بيننا سوى أطفال
نجهز لهم أوهامنا على طبق "
وفي حين يبدو انفصال حسين بن حمزة وفراس سليمان محمد انفصالا رومانسيا، مازوخيا، ساديا بأسوأ حال، يكون
انفصال مرام مصري أكثر واقعية، أقل رومانسية، إذ لا ياسمين ولا أحزان، إنما حساء بارد وعلاقة باهتة!
انفصال من طين آخر تكتب عنه أنيسة عبود، فالرجل نفسه غير موجود بل مخترع، حتى بوجود شخص في الواقع ربما يكون هو، إلا أن الرجل الذي تحبه الشاعرة وتعاني من انفصالها عنه هو حقيقةُ كائن غير موجود بالمرة، كائن تخترعه المخيلة، ومكتوب على الشاعرة أن تعاني من غيابه:
" بيتك
فضاء
شاسع الذهول
أطويه
و أرتبه على طاولتي
أغيّر عتباته
و أفتح نوافذه على راحتيّ
بيتك
الذي لم أقرأ مصابيحه
و لم تقرأني عتمته الوارفة
أظنه
يمشي إليّ كل شوق
أنتظره
و لا يأتي "
في ( بلاد أضيق من الحب ) واحدة من أخريات مسرحيات سعد الله ونوس 1996 سيلخص فيها المسألة، مصورا الحب على أنه الصليب الذي يحمله النساء والرجال في المجتمعات المريضة، في البيئات الغارقة بوحل الزيف والعنف والذكورية. حين يصبح المحبّون أشخاصا غير مرغوب بهم في مجتمع سيركلهم دون شفقة وبكل القسوة التي يخزنها ويضغطها من سنين.
ملاحظة أخيرة:
معظم النماذج المذكورة تعود لفترة التسعينات، إذ إن المشهد حقيقةً طرأ عليه تغيير ملموس في أعمال السنوات الأخيرة ( بما تحمله هذه العبارة أيضا من تعميم ) حيث تبدو علاقة النساء بالرجال أكثر مرضيّة وتعقيدا، فرومانسيات التسعينات القائمة على الهجران والانفصال واستحالة اللقاء لم تعد سائدة، ومشهد هذه الأيام باهت وأقل حرارة. مرة يبدو صداميا وقحا مسرفا في عنفه وغرابته وتصوفه كما في قصائد لـ خلات أحمد. ومرة تتكرر فيه صورة نساء وحيدات مشلولات أو منذورات للخيبة كما في قصائد لـ هنادي زرقة وإيمان الابراهيم. وكثيرا ما تطالعنا صور لنساء مشغولات بأجسادهن حيث لن يكون الجسد رمزا للخصوبة بعد الآن بل أيقونة مخنوقة ومشوهة.