ليلةٌ تضيئُها النجوم
2008-12-12
آمنَ فيثاغورس، الفيلسوفُ الإغريقيُّ وعالمُ الرياضيات، وتلامذةُ مدرسته الفيثاغوريون، أن ثمة موسيقا تنبعثُ من الشكل الكرويّ. وأن كلَّ كوكبٍ في مجموعتنا الشمسية، بما أنه كرويّ، يُصدرُ نغمةً وهو يدورُ حول الشمس. وفي دورانها معًا يتآلفُ النغمُ فيصنع لحنا أوركستراليًّا فردوسيًّا. لكنْ، في لوحة "موسيقا الأجسام الكرويّة": Music of Spheres، للهولنديّ "فان جوخ" لن نلمسَ هذا التناغم العذب، بل سنكاد نهرب من رنين الأصوات الصاخبة التي يترددُ صداها بين التلال والأشجار والوديان. هي إحدى اللوحات التي تصوّر قوى الطبيعة الغاشمة حين تقهرُ الإنسانَ الموغلَ في الضآلة والوهن.
أكّد الفكرةَ نفسها في لوحة: "ليلةٌ تضيئُها النجوم"Starry Night التي حللها النقادُ على نحو كهنوتيّ بالغ العمق. السماءُ الغاضبةُ القاتمةُ بنجومها تحتلُّ الجزءَ الأفقيَّ العلويّ الأكبرَ من اللوحة، في مقابل المدينة التي تقبعُ بتواضع في الأسفل. وشجرةٌ سوداءُ عاليةٌ تحتلُّ رأسيا مقدمة اللوحة، في مقابل برج كنيسةٍ ضئيل في الخلفية. كأنه يقول إن كلَّ ما صنعته الطبيعةُ ضخمٌ مَهيبٌ، في مقابل ضآلةِ وضِعة ما صنعه الإنسانُ: السماءُ في مقابل المدينة، والشجرةُ في مقابل البرج.
قضى هذا الفنانُ الحزين عمرَه القصيرَ، 37 عاما، بلا بهجة. رغم مقولته العذبة: "قرّرتُ أن أصنعَ السعادةَ عن طريق خلق الجَمال." عاش منهزما خائرَ الروح، ولم يمتلك الثقةَ في نفسه مطلقا، على رغم ثقته المطلقة في اللون التي تجلّت في ضربات فرشاته الكثيفة التي سيتعلم منها، فيما بعد، أبناءُ المدرسة "الوحشية" ثم "التعبيرية"، كيف يمنح اللّونُ الإنسانَ طاقاتٍ نفسيةً وروحيةً كبرى. حَلُمَ أن يكوّن في "آرل"، بالجنوب الفرنسيّ، جماعةً فنية مع صديقه "بول جوجان". لكنهما كانا متباينيْ الطباع جدًّا، وكثيري الشجار. وفي إحدى غضباته، هجم فان جوخ على جوجان وضربه! ثم، في فورة ندمه، عاقبَ نفسَه وقطع جزءًا من أذُنه! (ليس صحيحا ما يُشاع بأنه قطعها ليرسلها إلى إحدى معجباته، على شاعرية هذه الشائعة!) ثم سجّل الواقعة في بورتريه شخصيّ بضمادة حول الوجه. صارع جوخ حالات صرع حادة جعلته متقلّب المزاج دائما. ما وسم لوحاته بالتباين اللونيّ. ففي حين خرج بعضُها مفرطَ الإعتام، أشرقَت أخرى بألوان زاهية مفعمة بالحياة. وعلّ حياته العصيّةَ تلك سبّبت شعبيته العالية؛ لأن الناسَ قدّرت له الثمنَ الذي دفعه من أعصابه، لكي يورثَ البشريةَ ذلك الكنزَ الفنيّ المدهش.
في آخر خمس سنوات من عمره رسم لنفسه أكثر من ثلاثين بورتريه شخصيًّا تمثل حالاته المزاجية المتأرجحة بين الكآبة العميقة والبهجة الطفولية العارمة. وحين ضربتْ عقلَه الهلاوسُ عام 1888، ظلَّ يكافحُ ما كان يظنّه "أرواحا شريرة" حتى أودتْ به في الأخير منتحرا. التجأ قبل موته بعامين إلى ملجأ كنيسة سانت ريمي هربا بهلاوسه من الناس. لكنّ هذا لم يمنع رسمه أجمل اللوحات هناك. وقبل موته بعام، سيأوي إلى فندق صغير ليعيش تحت رعاية أخيه ثيو. ثم تبدأ صحته في التدهور السريع. وفي إحدى نوبات الإحباط يخرج إلى حقلٍ قريب ويطلقُ النارَ على صدره، ثم يتحامل ويعودُ مترنحا إلى سريره في الفندق، ليموتَ بعد يومين في 29 يوليو 1890، وآخر كلماته لأخيه: "الحزنُ سوف يدومُ إلى الأبد!"
***
اللوحة المرفقة
ليلةٌ تضيئُها النجوم. فان جوخ- 1889
عن المصري اليوم بالاتفاق مع الكاتبة
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |