ليلةُ غفران
2008-12-27
"لم أبكِها، ولن أبكيها، لأنها الآن في عالم أفضل!" لو قرأتُ هذه الجملة في رواية، ما صدقت أنْهكذا تنعي أمٌّ ثكلى ابنتَها المغدورة! لكنني شاهدتُ ليلى غفران تقولها. وصدقتها! أيُّ شيء موغل البشاعة واللاإنسانية يجعل أبًا مكلوما، وأمًّا مصدوعةَ الروح، يقفان بجَلَد، لا ليبكيا صغيرتيهما، بل يكاد يحدوهما شعورٌ بالزهو؟! لابد أن ما يجعلهما فرحيْن، بما يزلزل النفسَ حَزَنا وغمًّا، هو شيءُ أكبرُ من الموت. وأيُّ شيء أكبرُ من الموت؟ الشعورُ برِخص الحياة وسطَ بشر ملوثين بالشرّ والخَوْض في الأعراض للتسلية وتزكية الوقت. وربما لتبرئة النفس من دَنَسها. فالملوَثُ يفرحُ بوجود ملوثين مثله. كيلا يكون الخيطَ الأسودَ الأوحدَ في ثوبٍأبيضَ. كيلا يظلَّ فريدا في دنسه. تماما مثل جمهور المسرح الأرسطيِّ حين يخرج متطهرا من خطاياه بعدما يَلقى البطلُ حتفَه في نهاية العرض.
ادخلوا مواقعَ الانترنت التي نسجتْ أكاذيبَ حول المغدورتين، نادين وهبة، لتعرفوا كمَّ الميكروبات التي ترعى في صدور المُعلّقين! مدهشةٌ حقًّا لُزُوجةُ التشفّي المريض التي تقطرُ من ألسنٍ تستمرئ لَوْكَ جثث لا حول لها، لا تعرفُ كيف تردُّ السهمَ عن النحر!
هنا نفهم جدا كيف تتحول المحنةُ منحةً! فلا تبكي أمٌّ ابنتها! لأنها غادرت عالما موبوءا بالقيح والقبح. وكيف يقفُ والدٌ ليتلقى التهاني لأن ابنته تركت هذا العالم الملوَّث. لم تقل غفران تلك العبارة الفاتنة من منطلق كهنوتيّ، كما نعزي أنفسنا عن موتانا بأنهم انتقلوا إلى عالم أجمل جوار الرب، بل نطقت عبارةً لا مجازَ فيها. لأنها ضّنت بابنتها على عالم رديء. وأنا، لا علمَ لي بالعالم الآخر وكيف يكون، لكنه دون شك أفضلُ من عالمنا الذي تحول فيه البشرُ إلى ضوار جوعى تنهش لحوم المَيْتة.
هؤلاء، الذين تفننوا في الشماتة بموت فتاتين كل ذنبهما أنهما تنتميان إلى طبقة لا يعرفها معظم المصريين؛ إحداهما تحيا ثراء فادحا؛ والأخرى ابنةُ فنانة مشهورة، ما بالهم! هل يكفي أن نكون شعبا فقيرا حتى نكره ونحقدَ ونضحك من عذابات الغير؟ حدادٌ فقير قتل لحفنة جنيهات، ومئاتٌ فقراءُ الروح مثّلوا بالجثث مجانا وهم يحتسون الشاي أمام الحواسيب! أسألُ نفسي الآن: لو أن حادثا كهذا مرَّ بمصرَ قبل نصف قرن، أكنا سنصدمُ بمثل أولئك؟ أسألُ: هل تلك الوحشيةُ أصيلةٌ في المواطن المصري؟ أم طارئة عابرة؟ ألم يعد المصريُّ قادرا على الحب حقا؟ أيفرحُ لمصائبَ سواه؟! بظني أن المصري، في جوهره العميق، أرقى من ذلك، لكنه القمعَ والتجويعَ والترويعَ أفقرَ أرواحَنا وأزرى بوعينا، فوصلنا لتلك الحال الشائخة!
والآن، هل بليلةِ غفرانٍ سامحتِ الأمُّ الثكلى زاهقَ روح ابنتها لأنه حرّر روحَها من جسدها فطارت إلى حيث عالم أجمل؟ وهل أقلبُ الطاولةَ وأقول إن الشامتين هؤلاء قد قدموا مَكرُمةً لأمّ وأبٍ يقطرُ قلباهما دمًا؟ من عجبٍ،نعم! فلولا النهش في اللحم الذبيح ما برأ الثاكلون من أوجاعهم! وما زفّت الأمُّ ابنتَها بفرح إلى عالم أكثرَ نقاءً من عالمنا، ناظرةً يوما تلحقُ بها فيه! وما ابتسم الأبُ بفخر بعدما أخرسَ تقريرُ الطبيب الشرعيّ الألسنَ الوقحة فيما يثبت أن ابنته غادرت هذا العالم بريئةً من أدرانه، عروسا عذراء!
جريدة المصري اليوم بالاتفاق مع الكاتبة
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |