Alef Logo
يوميات
              

حدائِـقِ الأمسْ

محمد عريقات

2008-12-29


إلى الصديق الشاعر اسلام سمحان

بأي سنوات قادمة كنا نحلم ؟ بعد أن التقينا بعفويةٍ شعريةٍ قبلَ ثماني سنوات أتخمناهنَّ باللقاءات والقصائد والأصدقاء، أتذكر تفاصيل لقاءنا الأول كما لو أنني غادرت الطاولة تلك للتو وأنني مازلت أعدو في المسافة التي تفصلني عن الباب، أتذكر الوجوه والهمسات والفتيات الناضحات بالصحةِ المسكونات بهيولى الشاعر والأساطير، المتشوقات برعب طفولي لدخول الغرف وخلايا جنوننا المضاءةِ بقناديلٍ شيطانية، أتذكر النديم الأول وماركة الزجاجةِ الأولى التي فقأت عين الصحو بعد أن تغلبنا على الإثم والصداع ونزف المعدة المزمن، أتذكر أصيل الصباحات بكرنفالات رمضان حيث كنا ننتهز القهوة والتبغ والصديقات اللواتي يصنعن الساندويش والبهجة، أتذكر هزيع الليالي وعدد النجمات في كل ليلةٍ أزعجنا بها الأشباح والشبابيك المستسلمة للشخير والغـَنـَج المبتذل، حتى تطفئنا الشمس فنذوب بالكسل الأصفر وهي تصعد على قرني شيطانها الشبق.

كانت أياماً أرجوانية تتملصُ منا كأسماكٍ تتخبط بجدار الرحمةِ حتى تموت، وخلافاً لصـّياد كنا نعيدُها إلى البحر بمجانيةِ العبث وزورباويةِ الفسق والعهر والجنون، لأكثر من مرّةٍ رقصنا فوق خسائرنا وبترنا الأعراف والمسلمات المتربة التي تفسد مسرّتنا بفأسٍ صَدِءة منذ انفصالِ المشيمةِ وجريمةِ الختان، أيّ طهارةٍ منشودةٍ في استئصال هذهِ المضغةِ من رجولتنا ـ كنتُ أسألكَ دائما ـ ودوالي النجس تتفرع في دواخِلنا وفي قلوبنا العطنة الملعونة كتفاحَةِ آدم؟ فتجيبني بلهجتك الكافرة أن إيمان العجائزِ السفلة وصلَ إلى ما وراءِ ثيابنا الداخلية.
كنـّا بريئين لحظة الخطيئة
آثمينَ في صلاتنا المشوبةِ بالرياء
خفيفين بلا مسجدٍ أو كنيسةٍ
نضحكُ دونَ كراهيةٍ للدموع
نبغضُ الذلًّ والكبرياء
والرؤوسِ الفارغة.
لم يكن حلمنا باذخاً ذات نوم / يوم، كانت الدنيا بكلِّ قصورها وقبورها بمنطقنا بيتَ غائِط أو مكب للبشريين المطرودينَ من الجنةِ إلى أفاريز الكهوف والتوحش، كم من مرّةٍ نظرنا إلى القمر واتفقنا على أنهُ كوّة للصّرفِ الصحي السماوي، ونظرنا إلى حذاء بالي تحولت تقاسيمهُ الطاعنة في التلف إلى قصائِدَ ما بعد حداثوية، أيّ جنون أومس دفعنا لشربِ العرق في الشوارعِ العامةِ وحاناتِ الدرجة الرابعة التي يرتادها العاطلينَ عنِ العمل والجنس والتفكير والصعاليك وسياراتِ الإسعاف، أي شياطين سكنتنا حين احتسينا الفودكا بكوخ حَمام ضخم حيثُ الفِراخ شاركتنا المزّة والهديل ونحنُ نتفلُ بوجهِ صديقنا الكريم ما علقَ بألسنتنا من زغب ولعنات، أيّ قدرٍ ماكر أرسلنا منذ الفجرِ إلى إحدى الحواكير النائِية في السلط لنتفاجأ بكمائِنِ الخيبةِ والكآبةِ والنزفِ واستمناءِ الذاكِرة، حاولتُ الغناء إلا أن حنجرتي المفتوقةِ استعصت على الزقزقة، حاولتُ الرقص وإذا بي لا أتذكرُ زوربا إنما أتذكرُ الجدائِلَ والكتب والنبض العاصي وبرَكِ الوحل في بداية النفق الزنبركي للغيبوبة.
كنا ولم نزل نحلمُ بالكفاف والغدَقِ المفاجئِ نكره التخمة وأكياس نفايات الطعام أمام البيوت، نكره الأطباق الفارغة والتلوي الحامض، نمقتُ الذقون والعمامات والجببِ السوداء والقلنصوات ننفرُ من خيالاء المثاليين ووعظ فرجيل إما في السماءِ أو في شبهِ الجزيرةِ، نسعى لذواتنا للطمأنينةِ والسلام في حل الخلافِ الأولِ بينَ الله والشيطان، نزهقُ الفضيلة والرذيلة والتقاليدِ بأحذيتنا، ونبولُ على هذا الكوكبِ النحس ودراما الحياة التي ابتدأت بمعصية وعورة وزنا وقتل وغراب والتي تنتهي بظلمةٍ وجبان أقرع ودود نهم وهراوة وعسس، أية تفاصيل كرتونيةٍ هذهِ، دفعتنا إلى الإمعان في اللذائِذِ ولوي عنقِ اللحظةِ والدقيقةِ والساعةِ، وإلى الغلو الداخلي بالتحريض على الإذانِ والنكوس، لاننتمي أونحاربُ لا نحبُ ولا نكرهُ نحنُ فقط نخرجُ من الدوائِر.
أنظرُ إلى المديةِ في طبعكَ والوردة، إلى الأجنحةِ الصافات وإلى التي لا تبرحُ البئر، ثمـّة عصافير في البئرِ وأغاني مؤجلة صدقني، أنا رأيتها بأم وأخت وإبنةِ عيني، شاهدتُ الغجرَ ينشلونَ منهُ الخرخشة وأقواس قزح، شاهدتُ رعاة الخيبة يسوقون القطيع المنفوش كالغيومِ من السهوب والأزل، الكل يرتاد فرحك ومسراتكَ المؤجلة، أنسِجَتِ العناكب لم تستطع منع الرعاع ولا حتى الخفافيش المتدافة بعد لحظة سكون، حتى أنا المتعثرُ وراء دجاجةِ الفرح الفزعة في الأزقة لم أستطع أن أجلبَ لكَ المـَرقَ والنبيذ.
كنتَ تقولُ لي في مساءاتٍ خلت أنني صعب المزاج وأنني جوقة تعزفُ الصمت في لحظةِ الانفجار والتلاشي وضرورة العودة من الصراخ بشفتين مشروختين، تخافُ من موتي المبكر بعدَ كلِّ قصيدةٍ تعجبك، وبعدَ كلِّ نبوءةٍ لكَ أتحسس أعضائي الهشة فأشمّ بها رائحة تراب قبر مبلولْ أتفصَّدُ بعدها خوفاً ورغبات، وتقولُ بأنَّ ضباعا في روحي الحرون ستقودني إلى أوكارها وأنكَ لن تسير في جنازةِ هيكلي العظمي إن لم أقفْ عن الإسراف في البلادةِ والاستخفاف بأدويةِ الطبيب، وأقولُ لكَ أنَّ الحلم لن يخترقَ اليقظة بجرأةِ الواقِعِ وأنّ اليدَ المبتورة لا تتمكنُ من كشِّ ذبابةٍ عن أنف صاحبها لتجني العناقيد من فضاءِ العريش إنما هي فراغ كانَ من المفترضِ ملأهُ بدم وأعصاب وساعة نبض أنيقة.
أتذكرُ كيف قفزتَ لحظتها عن ثلاثينَ شهرٍ وقلتَ انتهى كل شيء، لنحتفلَ الآنَ بعيدا عن الأسود، ولنتحرش بالأبيضِ حتى يمتلئ.. أنت تخربش وأنا أمحو / أنا أخربشُ وأنتَ لكَ الخـَيارْ، إنما الأسود فلن ندعهُ يندلقُ مصادفة، ننتقيهِ بريشةِ الطاووس ونسطرُ أحلامنا في غفلة المستحيل.
فاقنعك أنَّ البلادة هي اليد الوحيدة التي تتدلى لتنشلك من الإنتحار إلى الجنون الذي يكسرُ أمامَ جموحكَ الحواجز البشرية وينتزع الدبابيس التي يزرعها القدر اللئيم هدايا لقدميك المطمأنتين، فهي حجرُ فلسفتي والأكسير الذي يحفظ لي حصتي من الأكسجين المنهوب بقبلة طويلة، مظلة نحتمي بها من وابل اللعنات وإن حقت علينا، هنالك عمرٌ طويلٌ يفصلنا عن الحقيقة يحدقُ إلينا كسراجٍ مريض يخترقُ ظاهرَ عتمتنا على استحياء ونحنُ نخترقُ باطِنهُ المظلم كشمسٍ عاهِرة، امضي إلى ذاتكَ بقلبٍ سليم، وامشِ إليَّ الهوينى تجدني في سباقٍ مع الريحِ إليك لي اسمَ رسولٍ ولكَ اسم رسالةٍ لم نؤدها بعد، هنالك ثمة نساء سنمر عنهنَّ مرورَ المتسولين نختلي أو نختفي بإحداهن أحد عشر دقيقة لا غير وهنالك أنخابٌ وعناقيد متدلية ستنالُ من صحونا بعد أن تموت وتبعث على أرصفةِ الحانات فيما بعد كعرسٍ من عمل الشيطان نقترفه ونصغي إلى مزامير الملكِ وشغف الدفوف التي يحملها السعف بأوردتنا المحتفلة.
ثمة بقيةٍ لا بأسَ بها ياصديقي وأياما تتقافز كالأرانبِ من حقيبةِ ساحرٍ، ثمة بقيةٍ في كيس الذرةِ المثقوب ثمة أيدٍ تلوحُ ..... ربما!.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

خُرم الإبرَة..

10-تموز-2009

منشار الرقابة الكهربائي

28-حزيران-2009

ساعَةُ الزَّهوِ

08-حزيران-2009

لم يزَلِ البكرُ حياً

01-حزيران-2009

الفتاةُ التي لم تجد غيرَ الصباح..

17-أيار-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow