لم يزَلِ البكرُ حياً
2009-06-01
على مشارفِ اللحظاتِ الأخيرةِ من ذلكَ اليوم المجنون، والذي تعدى بهِ المطرُ مفهوم النعمةِ والغدق على العباد والدواب، اشتعلَ المخاض بالسيدة أمـّي وعلقت قدميّ أبي في شرَكِ الأرتباكِ العنكبوتي بينَ الفرحة التي سقطت فجأة والخوف من الألمِ المتكومِ أمامهُ والذي تعدى أيضاً دائرة الطـَلق والولادة.
وأخيرا سقطت الثمرة بعدَ محاولةِ القطفِ المستعصية بكلِّ غرائبيتها وعطنها، فاقِدة لغريزةِ التشبث بالشجرةِ مرَّة أخرى بدافِعِ العطشِ المتشوقِ للحليبِ الدافئ الدافِقِ من الجذور، كانَ عمري لحظتها تسعة أشهرٍ ونيف وكنتُ مسجى فوقَ أريكةٍ في لفائِفٍ بيضاءَ أتذكرُ أني شتمتها دونَ حولٍ وقوةٍ، اتسمـَّعُ لعراكِ الموت والحياة فوقَ راسي، أستعيدُ ما قالهُ الطبيبُ لأبي على مسامِعِ الطفل الذي هوَ أنا (ستطيرُ روحهُ البريئة من النافِذة بجناحينِ صغيرينِ إلى الله) شدتني الكلمة الأخيرة من الجملةِ ورحتُ أطوفُ على حلقات الضوء كلما كررتـُها، وبما أنَّ الصراخ هوَ لغتي الوحيدة آنذاك رحتُ أستفسِرُ عن هذهِ الكلمة طيلة الليل وكلما شاهدتُ اليأس يتصاعدُ أكثـَفَ من عيونِ والديَّ يزدادُ صراخي حِدَّة ومجازاً.
لماذا أنجبوني بكلِّ هذا الوهن؟ ألأنَّ الحبل السري لم يتسع لمرور برتقالة؟ أم لأنَّ أبي راودَ أمي في ظروف فسيولوجية سيئة، فلم تجد المغلوبة على جسدها غيرَ الإمتثال لعمائِهِ الحالك من دونِ خاطِر؟ تلكَ أسئِلة تجيب على نفسِها بنفسها وستظل تحفرُ في طفولتي الطيـِّعة حتى يرنُّ معولها الدؤوب بصخرِ الرجولةِ الصلد، كانت صحتي تزداد اصفراراً وخريفاً منذورة بهبـَّةِ ريحٍ خفيفةٍ لتسقـُط تحتَ مكانسِ عمال النظافةِ، ومن أكثرِ الأشياءِ إيلاماً وفتكاً أمـّي وهي تتفقــَّدُ نبضي كل صباحٍ على يقينٍ مسبق من أن تجد الطبلَ مثقوباً والطبال تحولَ إلى عصاً تـصلحُ لطبلٍ آخر، فتتفاجئُ وتحمدُ الغيبَ على سعادتها المشوَّهة.
إلا أن اختلاف النهارِ والليل أنساها هذه العادة المتشائِمة ولم تعد تيقظُ طفلها خوفاً من التباسِ النوم والموت عليها، وذلكَ بعدَ أن انتشلتهُ الجدة سامحها الله وصنعت دواءهُ من أعشابِ الحواكير التي لا تزال بذاكرتها، حتى شاءت الأعشاب أن تدبَّ الخضرة في عروقي بدلا من الكلس وأن تربطني بعنقِ أمّي لا بحبل الأكلوكوز الذي لا طعم لهُ ولا رائِحة غير الإختناق، فرحتُ أنمو وأكبر أراهِقُ أعملُ أقرأ أكتبُ أخونُ أصونُ أصادِقُ أزني أسكرُ أكذبُ أتفذلكُ أتهنبَقُ، وكل ذلكَ على مرآى والديّ المشدوهينِ أمام طفلهم في نهايةِ عقدِهِ الثالث، إلا أن هاجسهمُ القديم ظلَّ يحيط بأسطورتهم التي لا ترى في نفسِها غيرَ مزرابٍ للعائِلة خاصة بعد توافدِ الأخوانِ والأخوات فيما بعد والذين لم يسلبوا من دلالهِ نقرة طير يحسدوه على بروتوكولات البكرِ التي لا يجيدها /
لمَ لم تدعها هباءً ؟
لماذا نثرتَ بذارك في أرضِ غانيةٍ كي أجيء؟
تبعتَ هواكَ فأشعلتَ شمعَ الخميسِ وأطفأتَ
نارَ احتراقكَ فيَّ أردتَ وجودي فجئتُ من الربِّ نقمة
وأتعبتَ أمـّي بتسعِ شهورٍ لأبكي وجودي..
أما الآن وقد نجحتُ بتغير أشياء كثيرة بجهدٍ شخصي في التزويق والتنسيق ودملِ الشقوق المزمنة في جدار العقلِ الباطنِ للعائِلة، فشلتُ أمامَ سلاسل الوجودِ الثقيلة وعناء الجسد في السيطرة على الروحِ العربيدة والتي تعاني أيضاً من ضيقِ قفصها الطينيّ متشوقة لساعةِ فنائِهِ التي لا يستقدمُ عنها لحظة ولا يستأخِرُ، وما بين الصديقينِ اللدودين [الجسد والروح] أتمزقُ بحرابِ كربلائهم السرمديةِ، فاقِداً وقاية الحرص من العائِلة التي لا تكترثُ بأمراضٍ وآلامٍ لا تظهرُ على الجسد ووظيفته، فحينَ أصرخُ من رأسي يعودني كل الذين قرأت أسماءهم على شجرة العائِلة التي لا أحبُّ ثمرها، والتي احتضنَ أحد أغصانها عش طفولتي الموبوء فتدليت منهُ كإجاصةٍ خامِجة، تداعت لها بقية الأغصان بالسهرِ والحمى، وحين أصرخ متألماُ من وجودي تكتفي السيدة أمـّي بفك رباطي وترك الجزء الأسفل مني عارياً وتغادِرِ الغرفة حتى تدرأ عن نفسِها الحاحي المقيت بشيء من التجاهل.
في الماضي كنتُ مهيـّئا لأن أملأ حفرة صغيرة بجانبِ سورٍ، يحفرها أطفال يكبروني أثناء لعبهم عن دون قصد وهدف، لا أتركُ ورائي سوى رائحة سرعان ما تتلاشى عن ثياب أمـّي، وذكرياتٍ خفيفةٍ لم يأخذ إزميلها في العمقِ، بل هي أشبهُ بخطوطٍ متماوجةٍ تتركها بجعة الماء خلفها، أما الآنَ ياصديقي وبعد أن تحول الأثيرُ إلى صخرةٍ اكتظّ بداخلي موتٌ يملأ مقبرة، ففي كل صباح تبيضُ الرزنامة لي يوماً فاسداً تؤثثهُ الخيبة وتدير أمورهُ كربـّةِ بيت متسلطة، تزوجتُ من جسدها مثنى وثلاثٍ ورباع على شرعِ اللهِ وسنةِ ابليس، تثبتُ لي عند كلِّ قران أنَّ الحب جناحين صغيرين وديباجة بيضاء لشيطانٍ أسود، فهل يصلح الخمـّارُ ما أفسدَ الدهرُ؟ وهل يصلحُ الشاعِرُ ما أفسدَ الشعرُ فيه؟ فها أنذا أبصرهُ في الظلام وأجسُّ قمحَ لونهِ في المرايا وأشربهُ من مسامي ولا أتعرف، كباسطِ كفـِّهِ في الماء وكحجرٍ لم يكن بالأمس نجمة، محبطٌ إلا بكَ يا صديقي هامدٌ لولا جوقة في وريدك، تعيدُ حنين الفخار إلى يدي اللتينِ سرقهما الكريستال ذاتَ ومظٍ ، ألوّحُ لكَ بهما وأقول شكراً لكَ ولسارة / جدّتي.
08-أيار-2021
10-تموز-2009 | |
28-حزيران-2009 | |
08-حزيران-2009 | |
01-حزيران-2009 | |
17-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |