لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ
2009-01-02
يحكي لنا التاريخُ أن امرأةً عربيةً من مدينة "زبطرة" أسَرَها الرومُ، وحينما همَّ أحدُهم بإهانتها صرختْ بملء صوتها وقلبها "وامعتصماه!". وكأنما بصرختها اليائسة تلك تستنجدُ برجلٍ ذي بأس يبعد عنها أميالا.
هو أبو اسحق المعتصم، ثامن الخلفاء الراشدين، الذي بنى مدينة "سُرَّ
مَنْ رأى"، المعروفة بـ سامرّا. ويقول التاريخُ إن المعتصمَ ما أن وصله صوتُها المستغيث، وكان في مجلسه في يده قدحٌ يهمُّ أن يشربه، حتى انتفضَ يهتفُ: "لبيكِ لبيك!"، وترك القدحَ قائلا: لا شربتُه إلا بعد فَكّ
أسْرِ الشريفة! ثم نادى جُندَه واستنفرهم للحرب. قاد جيشه وفتح عمورية وأذاق الرومَ ما لا يُنسى. ثم جاء بآسر الأسيرة وضربَ عنقه. وبعدها
قال للساقي: آتني بكأسي المختوم، الآن طابَ شُرْبُ الشراب. وفي ذلك كتبَ أبو تمام بائيتَه الفاتنة وخلّد الواقعةَ في بيت يقول:
لبيّتَ صوتًا زِبَطْريًا هَرَقْتَ لَهُ.... كَأْسَ الْكَرَى وَرُضَابَ الْخُرّدِ الْعُرُبِ
ورغم أن الواقعةَ تلك قد وردتْ في كتبِ مؤرخين ثقاة مثل "الكامل في التاريخ" لابن أثير، و"مآثرُ الإنافة" للقلقشندي، "وشذراتُ الذهب" لابن العماد الحنبلي، بروايات عدة، منها أن صوتَ المرأة قد أتاه وهو نائم، ومنها أنه وصله وهو في مجلس شراب، ومنها الميتافيزيقيّ، كأن سمعَ المعتصمُ صوتَ المستغيثة عن بُعد كوحيّ أو كهاتف ذهنيّ، ومنها المنطقيّ، بأنه نداءها وصله عبر ناقلين، إلا أن بعض العلماء قد كذّبَ الحكايةَ وأنكرها. وسواءٌ عندي صِدْقُها أم كَذِبُها. فأنا لا أصدق كتبَ التاريخ بوجه عام. أصدّقُ، وحسب، ما أودُّ أن أصدِّقَه بما يتفق وحدْسي حينا، وأحيانا بما يتفق مع فانتازياي وخيالي ورغبتي الخاصة في تجميل العالم ولو بالزَّيف والخيال. فأنا أتوقُ للجمال في شتى منابعه، البصرية والسمعية والفكرية والسلوكية، ولذلك كثيرا ما أخدعُ نفسي بحكايا أصدِّقُها لأنها تروي نبتةَ الجَمال الظمأى في روحي. ولو كانت حكايا من الأساطير القديمة أو حتى من كتب حواديت الجِنيّات fairy tales. ولذلك من حقي أن أنتقي من كتب التاريخ، الكاذبة غالبا، ما يروق لي، وأطَّرِح منها ما لا يروقني. و أنا أودُّ أن أصدق تلك الحكاية المعتصمية كيما يرتاح قلبي أن بتاريخنا أشياءَ رفيعةً وأحداثا يُفخَر بها.
أتقوّى بتلك الواقعةِ الجميلة الماضية، كلما صدمتني واقعةٌ قبيحة راهنة. كأن تستنجد امرأةٌ بمغيثٍ فلا تجد إلا وجوها جامدةً بلهاء تحدّق فيها بتلمّظ المُتشفّي. وبعد ذبح الذبيحة، تنهالُ الألسنُ الوقحة لتنال ما تبقى من جثمانها باللعق والنهش واللوْك المقزز. قالت نهى رشدي، التي استنجدت بالمارّة في رابعة النهار لينصروها على الحقير الذي تحرّش بها جسديا: "أنا مصدومة في الناس!!" لأن لا أحدَ ساندها، ولا أحدَ بصقَ في وجه الرقيع، ولا أحدَ رفع كفَّه وصفعه، ولا أحدَ حتى حال دون ما حدث بكلمة، هي عند الله أضعفُ الإيمان. بل، على النقيض من كل ذلك، تناول الناسُ البنتَ باللوم والتقريع. محاولين إثناءها عن الذود عن كرامتها والأخذ بثأرها. "متبدهليش نفسك! شوفي انتي لابسة ايه! بس لو كنتي محجبة! ايه اللي مخرجك من بيتكو؟" ومثل تلك الكلمات الانهزامية فقيرة الروح، التي أفضلُ منها الخَرَس.
ولأنني أعتبرُ، وليقلْ مَن شاء بجنوني، أن سقوطَ امرأةٍ بين براثن رجلٍ لا يقلُّ خطرا عن سقوط دولة في يد عدو، وأن ضياعَ شرف امرأةٍ وكرامتها على مشهد ومسمع السابلة لا يقلُّ جللا عن ضياع الأندلس من بين يدي العرب، لذا فسأسوق لكم بعض أبيات من نونية أبي البقاء بن شريف الرندي، التي قالها في رثاء الأندلس:
كَمْ يستغيث بنا المستضعفون وهُم/ قتلى وأسرى فما يهتّزُ إنسانُ!
ألا نفوسٌ أبيّاتٌ لها هِمَمٌ/ أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ؟
وطفلةٌ مثل حُسْنِ الشمسِ إذ طَلَعَتْ/ كـأنـما هي يـاقـوتٌ ومـرجـانُ
يـقودُهاالـعلجُ لـلمكروهِ مكرهةً/ والـعينُ بـاكيةٌ والـقلبُ حيرانُ
لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ/ إنْ كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
وعلى الجانب الآخر، مرَّ بخاطري الآن سؤالٌ خبيث: هل ستجد نهى رجلا يقدّر وعيَها بحقوقِها ويرغبُ في الزواج بها؟ أم سيخافُها الشبابُ كونها فتاةً "تعرف حقوقها"، وهي سمةٌ غيرُ مرغوبةٍ في الزوجة العربية، من وجهة نظر بعض الرجال؟
فاطمة ناعوت
[email protected]
[1] - جريدة "اليوم السابع" 23/12/08
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |