يُعلّمُ سجّانَه الأبجدية في المساء، ويستسلم لسوطه بالنهار
2009-01-24
ها هي مصر تفقد درّةً حرّة نادرة أخرى، ليتها تعوضها! ويحدث أن صبيًّا صغيرا اسمه محمود. من أسرة رقيقة الحال تسكن أحد أحياء القاهرة القديمة. ويحدثُ أن يُفصل الصبيُّ من مدرسته لأنه لم يسدّد المصروفات. التعليمُ في مصر الملكية لم يكن مجانيًّا في عشرينيات القرن الماضي قبل ثورة يوليو. تطبقُ الأمُّ كفَّها حول كفّ صغيرها وتمشي به إلى مطبعة في الحي ليعمل في صفّ الحروف وتجميع الكلمات. سرعان ما سيتعلّم الصبيُّ الذكيُّ الحرفةَ وتبدأ ملامح مستقبله ترتسم. لكن اعتباطيةَ المصادفات، أو عبثَ الأقدار، حسب نجيب محفوظ، لا، بل الأدقُّ أن ذكاءَ المصادفات وانتقائية الأقدار وتفوقها الحدْسيّ، كان لها رأيٌ مخالفٌ بشأن الصبيّ الواعد محمود إذ رسمت لمستقبله خطّةً أخرى. يحدثُ أن يمرضَ فؤاد الأول، ملك مصر آنذاك، بمرض خطير. ثم يحدثُ أن يُشفى بمعجزة ما، أو بمصادفة ما. فيقرر، ذات لحظة كرم مباغتة، أن يدفعَ مصروفات التعليم لكل أطفال مصر هذا العام. ويعود الصبيّ محمود إلى مقعد المدرسة ليكمل تعليمه الذي كاد يُحرم منه. ويدرج في سني الدراسة حتى ينال ليسانس الفلسفة من جامعة فؤاد الأول. تحدثُ مثل هذه المصادفات في أوج فلسفتها ورقيّها ونخبويتها، التي لا تخطئ، لكي تحظى مصر بمفكر كبير ومناضل سياسي رفيع الطراز اسمه "محمود أمين العالم".
وهنا، ليس من قبيل المصادفة أن تكون رسالة الماجستير التي قدّمها بعد تخرجه بعنوان "فلسفة المصادفة". وفيها يحاول أن يربط بين المصادفة الموضوعية من حيث مُدخلاتها الفيزيائية وقانونها الرياضيّ تبعا لنظرية الاحتمالات، وبين دلالاتها الفلسفية والسوسيولوجية. لنعيد التفكير، على نحو مغاير، في كل مشهد يحدث أمامنا.
سألني يوما: "ماذا لو أن رجلا ما، يسير في شارعٍ ما، وتسقط على رأسه شرفةٌ ما، فيموت؟ هل هذه سلسلة مصادفات؟" قلتُ: نعم!" فقال: "خطأ، بل أن المصادفة هي ألا يسيرَ في هذا الشارع عينه، وألا تسقط الشرفةُ عينُها عليه، في اللحظة تلك بعينها؟"
والكلام عن العالِم في شِقّه الفكريّ والفلسفيّ والسياسيّ والتنويريّ لا ينفد. وأحرى به مفكرون كبار تناولوا تجربته الثرية وفكره الرفيع. لكن الكلام عن شِقّه الإنسانيّ هو ما يستهويني هنا مادمتُ قد شرفتني المصادفةُ أن أعرفه عن كثب. قدّم لي العالم، تلك القامةَ السامقة، نموذجا فريدا في البساطة والتواضع ورقيّ الخلق. رأيته غير مرّة في تجواله اليوميّ يكلّم البسطاء من العامة، يسألهم عن أحوالهم، ويستخبر آراءهم في مستجدات أحوال الوطن. يسألُ البوابَ عن ابنته ويداعب حفيدته، ويربت على كتف سائس الجراج: "ازاي صحتك دلوقت؟ تمام؟ عال عال." وأسألُه: "أستاذ محمود، هل يعرفون مَن أنت؟ هل يعرفون أنهم يقطنون على مقربة من محمود أمين العالم المفكر الكبير؟" يقول: "لا، لا، يعرفون أن اسمي محمود وخلاص، وأحيانا ينادونني: يا حاج!" ثم يضحك ضحكته العذبة التي تقول لك: ثمة غدٌ أفضل رغم كلِّ شواهدِ الضد!
تلك الابتسامة ذاتها يلتقي بها الشباب: يرحّب بهذا، ويخبر ذلك أنه قرأ قصيدته الجميلة في المجلة، ويشدُّ على يد ذاك بمحبة ونبالة. يركض شابٌّ لكي يصافحه ويأخذ صورةً معه، فيبادر العالمُ بالمصافحة ويقدم نفسه قائلا: "أهلا، أهلا، أنا اسمي محمود أمين العالم." وابتسامة رائقة باشّة تكسو وجهه تليقُ بنبيّ. فيرتبك الشابُ ويفقد المقدرة على تقديم نفسه، فأهتفُ: "يا أستاذ لا تُعرّفْ نفسَك! فالمعروفُ لا يُعرّف، وتقديمكَ نفسَك إهانةٌ لنا كونك رمزا من رموز مصر. أَبَعدَ كل ما قدّمت لنا وللوطن من فكر وعمر وجهد وكفاح مازلت محتاجا أن تعرّف نفسك؟!" فيبتسم بحياء ويقول: "اسكتي يا بنت وبطلي بكش، هو أنا عملت حاجة! انتوا اللي حتعملوا وحتصلحوا البلد دي." كان يراهن على الشباب كثيرا.
وبقدر ما كان متباسطا مع الشباب ومع البسطاء من الشعب، بقدر ما كان قاسيًّا مع الطليعة والنخب المثقفة، إذ يرى أن أخطاءهم خطيئةٌ، كونهم قادةً لا ينبغي لهم إلا الصواب. وكان دائما ما يردد في ذلك قولة إليوت: After Such Knowledge, What Forgiveness?، بعد هكذا معرفة، أيُّ غفران!؟
حدثني أنه أيام اعتقالات 59 كان السجّان يجلده بالسوط صباحا، والعالم يجلس في المساء إلى ذلك السجّان ذاته ليعلمه ويمحو أميّته!! فهتفت مندهشة: كيف؟ قال: عادي، كلٌّ منا يؤدي عملَه! هو يجلدني لأن قادته أفهموه أنني عدوُّ الوطن والدين، ومن ثم فواجبه أن يعاقبَني، لأنه يحب الوطنَ ويحبُّ الدين. وأنا أقوم أيضا بدوري التنويري معه فأعلمه، ذاك أن واجبي نحو وطني أن أنوّر أبناءه ما وسعني ذلك. فأنا أفهم جيدا أن محنة هذه الأمة تكمن في وعيها. ودور كل مثقف أن يبني وعي الناس، قبل أن يحاسبهم على أخطائهم. يَقدرُ واحدٌ من نسيج محمود أمين العالِم أن يغفر لسجّانه وجلاده. هو لم يكظم غيظه، ولم يعف عن الناس وحسب، كما تأمر الآية القرآنية، بل كان من المُحسنين كذلك، مع من آذوه وعذبوه. والحق أن العالم حين جلس إلى السجان وراح يعلمه الأبجدية والقراءة، فيما خطوط السياط تقطر دما من ظهره، ومن روحه، لم يكن نبيًّا ولا مسيحا متسامحا، بل كان مثقفا حصيفا يعرف أين يكمن عدوه. عدوه لم يكن ذلك الجاهل الذي يحمل سوطا في يده، بل عدوه، وعدو الوطن بأكلمه، هو "الجهل" ذاته. ولذلك راح يحاربه.
ثم يأخذه السجّان إلى حيث الصخور الضخمة ويقول له: كسّرْ يا مسجون! للصخرة سبعة أبواب، في واحد منها فقط تكمن نقطة الضعف. ويجرّب العالم فيخفق في كسر الصخرة. لا يجد الباب السابع. فيسمحُ "العالِمُ" للسجان "الجاهل" أن يعلمه كيف يحدد مكمن الضعف في الصخرة!
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |