صخرةُ العالِم
2009-01-30
"يا مسجون كَسَّرِ الصخرة، للصخرةِ سبعة أبواب، شوف فين الباب واضربْ"، هكذا كان يزعقُ السجّانُ الخشن في وجه المفكر المصريّ الكبير "محمود أمين العالم"، وهو يلوّحُ بالسوط. السوطُ الذي نالَ من ظهر العالِم ورفاقه من مثقفيْ ومفكريْ ومناضليْ وثوّار مصرَ في معتقلات 59 الشهيرة. هذا أثناء النهار، أما في المساء، فكان العالمُ يدعو السجّانَ إلى زنزانته لكي يعلّمَه القراءةَ والكتابة، وطبعا يسرِّبُ في وعيه حقوقَه المهدَرةَ عند حاكمه وعند الحياة. أندهشُ وأهتفُ في عجبٍ: يا أستاذ محمود، يجلدُك بالنهار، وتمحو أميّتَه بالليل! فيقول، وابتسامته الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ وجهَه: طبعا يا فاطمة، كلٌّ منّا يؤدي دورَه. هو يظنُّ أنني مجرمٌ يستحقُ العقاب؛ لأن رؤساءه أفهموه أنّ "شيوعيّ" يعني: كافر وعدو الوطن، ولذلك جلْدُه لي واجبٌ يؤديه بإتقان، وأما واجبي، وحقُّه عندي، فهو تعليمُه وتثقيفه هو وسواه ممن جعلتهم الدولةُ جهلاءَ أُميّين كي تسوسَهم وتبطشَ بهم أعداءها من مثقفين يكافحون من أجل تحقيق الديموقراطية والعدالة لمثله من الأميين والفقراء. أسألُه: يعني لم تكره سجّانَك؟ فيجيبني: "مطلقا، بالعكس، هو ضحيةُ التغييب والجهل، بل أحبّه وأشفقُ عليه، وأصغي إليه إصغاءَ التلميذِ لأستاذه وهو يتأمل الصخرةَ، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها لأهبطَ بمِعولي عليها فتتحطم، ذاك عملي في عقوبة الأشغال الشاقة. لا تتفتتُ الصخرةُ إلا من نقاط ضعفها السبع، أبوابها السبعة. يعلمني بالنهار كيف أفتتُ الصخور، وأعلمه بالليل كيف يفتتُ أسوارَ العتمة من حوله." ثم يقضي الأستاذُ الجميل ليلَه الطويل بالزنزانة في كتابة القصائدِ على الحائط، ولم تزل تلك القصائدُ موجودةً في سجن القلعة، ترفض الحيطانُ أن تمحوها!
هذا هو محمود أمين العالم، الذي فقدناه بالأمس، من أسفٍ، لتسقطَ من صندوق جواهرنا أيقونةٌ حُرّةٌ نادرةٌ، ليت مصرَ تقدرُ أن تعوضها!
جاءني شابٌ في أحد المؤتمرات لأتوسّط له أن يصافحَ الأستاذ. فقلتُ: "اذهبْ إليه وحدَك، فليس أكثر تواضعا ورُقيًّا من العلماء، وهو عالِمٌ أيُّ عالِمٍ!" لكن حياءَ الشاب منعه، فذهبت وقلت: "هذا الشابُ يودُّ مصافحتك يا أستاذ." فينهض العالمُ الجليل من مقعده ويصافحه في نبلٍ قائلا: "أنا اسمي محمود أمين العالم." فأغتاظُ وأقولُ: "يا أستاذنا لا تقدّمْ نفسَكَ، فتلك صفعةٌ لنا، وأنتَ مَنْ أنت!" فيضحك قائلا: "بطلي بَكش يا بنت، هو أنا عملت حاجة؟ انتوا اللي حتعملوا وتصلحوا البلد دي!" يسيرُ في الشارع فيسلّم على البواب والسائس ويسأل عن أولادهم ويسمع شكاواهم! فأيّ رجلٍ هذا الذي فقدنا!
أما الطُّرفةُ التي لا أنساها فكانت يوم نشر "الأهرام" خبرا عن كتابي: "الكتابة بالطباشير"، تحت عنوان: "العالم يحذّر من كتاب ناعوت". وكان الأستاذُ قد كتب مقدمةً فاتنة لكتابي تحت عنوان "تحذيرٌ ومقاربة"، أعتبرُها، وأبدا، وسامًا فوق صدري أفاخرُ به العالمين. حذّرَ الأستاذُ محمود في مقدمته القارئَ من القراءة السطحية غير العميقة لهذا الكتاب. يومها أيقظني رنينُ الهاتف في السادسة صباحا، لأجد أمي تصرخ: "هببتي ايه في كتابك الأخير؟ وليه بيحذّروا الناس منه؟!" والحكاية أن "الأهرام" لم يضع كسرةً تحت اللام في كلمة "العالِم"، فقرأتها أمي: "العالَم يُحذّر من كتاب ناعوت!"، وارتعبتْ.
أستاذي الجميل، سلامٌ عليك، وقبلةٌ على يدك!
المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |