الجميلةُ التي تبكي جمالَها
2009-02-06
عن رحلةِ أدائِه العُمرةَ، كتب الشاعرُ بهاء جاهين مقالا في الأهرام قائلا في نهايته: "نحن شعبٌ جميلٌ متحضّر. مازالتْ فينا عذوبتُنا الكامنة. إنه الفقرُ وغيبةُ سيطرة الدولة(القانون لا الأمن) هو ما أدي بنا إلي التزلّف والبهلوانية وفلسفة الهراء التي أبدعت الموسيقي المنحطّة والرقصَ المتهتك والكلماتِ التي تجتهدُ أن تصلَ إلي مَثَلٍ أعلي من السوقية. ليس المصريون من السوقة. فلماذا نُصِرُّ علي أن يرانا الناسُ رعاعًا مُنْحلّين؟ عندما كان عبد الوهاب وأم كلثوم والسنباطي وزكريا أحمد وبيرم يحيون ويبدعون بيننا (أغفلَ الابنُ، حياءً، ذِكْرَ الأبِ العظيم صلاح جاهين، أحد أهمّ رموزنا), كان المصريُّ عملاقا في عيون العرب. فكيف غدوا يروننا، في زمنِ أقزامِ الفنِّ، أقزاما؟!"
ذكرّني مقال جاهين برحلتي قبل سنوات للمغرب. أخبرني استقبالُ الفندق أن بعض أدباء المغاربة الشباب جاءوا لتحيتي. وبمجرد أن نزلتُ ابتدرني شاعرٌ: "إزيك يا أُختي؟" (مع مَطِّ حرف الياء في كلمة "أختي"، وإشباع الضَّمة على الألف، أما حرف "التاء" فقد حارَ بين التاء والشين مثلما حرفي Ch بالإنجليزية، والمحصلة أن الكلمة غدت: "أووختشي")!
انزعجتُ جدا! وانسحبتُ. عددتُها إهانةً! استوقفني كبيرُهم ليستوضحَ سببَ غضبي. فقلتُ: هذا خاطبني بما لا يليق! فقال ببراءة حقيقية: هو اعتبركِ أختا له، ففيمَ الغضب؟ فأوضحتُ أن اعتراضي على الأداء، وأسلوب النطق! فاندهشَ. وقال إنهم اتفقوا على أن يفاجئوني بنطق الدارجة المصرية تقرّبًا منّي ومحبةً، وإنهم ظلوا يتدرّبون على الأسلوب كما "تفعل النساءُ في أفلامنا"!! وسألني: ألا تتكلم المصرياتُ هكذا؟" فأجبته: لا طبعا! إنما شريحةٌ بعينها من النساء تبتذل اللغةَ والسلوك، كما في كل بلد آخر. ذاك هامشٌ، لكنّ "متنَ" البلدِ شيءٌ آخر. ولما جلسنا، شرحتُ لهم الفرقَ "البيّنَ" بين القروية الفاتنة، بذكائها وحدسها ولهجتها المموسقةِ العذبة؛ كما جسدتها الأسطورةُ سعاد حسني في فيلم "الزوجة الثانية"، والقاهرية التي تسكنُ الحارةَ الشعبية، بنبلها وشهامتها وأصالتها؛ كما جسدّتها الفاتنتان: زينات صدقي قديما، وعبلة كامل راهنًا، وبين المرأة التي تبتذلُ القولَ؛ لفقرٍ في وعيها أو شرخ في روحها. وأن المصريات لسن مَنْ يظهرن في بعض الأفلام المنحطة الراهنة، التي تسيء لمصرَ وأهلِها! إن مرآةَ مصر الحقيقية، لو اعتبرنا السينما بعضَ هذه المرآة، مطويةٌ في أفلامنا القديمة "الأبيض والأسود". حين كانت حتى الراقصةُ راقيةً في لغتها وأدائها مثلما تحية كاريوكا ونجوى فؤاد. أما النماذجُ البشرية المشوَّهَةُ المشوِّهة التي تعجُّ بها فنون مصر اليوم، فمصرُ والمصريون براءٌ منها، مثلما نحن براءٌ من طبقاتِ خَبَثٍ طَفَتْ بِليْلِ السبعينيات في غفلةٍ منا، ما هم إلا نتاجُ نُظُمٍ سياسية وتربوية وتعليمية وتوعوية خرّبتْ وعيَ ورقيَّ وثقافةَ بلدِنا الرفيع. والحقُّ أنكَ إنْ لم تزر بلدا، تغدو أغنياتُ وأفلامُ ومسرحُ هذا البلد، مرآتَه الوحيدة.
اعتذرَ الأصدقاءُ. لكن ثمة دلالةً خطيرةً بالأمر. ماذا دهى الجميلةَ، التي ظلّت على فتنتها حتى الستينيات الماضية؟ كيف سمحنا- نحن المصريين- أن نمشي بالمقلوب؟ نظرية "التطوّر والارتقاء"، تقول إنْ لابد أنْ يفرزَ الراهنُ نماذجَ أرقى من أم كلثوم، وعبد الوهاب، وزكي نجيب محمود، وطه حسين، ومشرّفة، وأضرابهم، من الدُّر الكريم النادر الذي بَثَقَـتْه مَحارةٌ حُرّةٌ خصبة؛ اسمها: مصر!
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |