أيها العُنُقُ النبيل، شكرا لك!
2009-02-23
"رحلَ بعد صراعٍ مع المرض." كرهتُ هذه الجملة دومًا. ليس لأن إنسانًا رحل، بل لأنها تشي بتمسّكٍ مفرطٍ بالحياة! حتى الأمس، كنتُ أنظرُ إلى الألم بغضبٍ. وحدَه ألمُ المسيحِ مبرَّرٌ وقُدُسيٌ ونبيل. وعدا هذا عَسْفٌ وظلمٌ. لماذا على الأحياءِ أن تتألم؟ لماذا لا ترحلُ في سلامٍ كما جاءتِ العالمَ في سلام؟ لذلك خلا بيتي دائما من المبيدات والصواعق. وفي رحلتي مع مرض أمي، ظللتُ أنظرُ إلى جهاز الغسيل الكُلويّ بحُنقٍ وعداء! أليس يؤلمُها؟ حتى وإنْ أطالَ عمرَها أيامًا أو شهورًا! ولذا عاهدتُ نفسي دائما، لو ألمَّ بي مماثلٌ أنْ أُنهي الأمرَ في لحظةٍ، على مذهب رصاصة الرحمة. تغيّرت نظرتي للألم بعد تجربةٍ أمرُّ بها الآن. بدأ ذراعي الأيسرُ يفقدُ طاقتَه على العمل. وبعد الأشعّات ورسْم الأعصاب اكتشفَ طبيبايْ: الجرّاح د. هاني عيسى، وأخصائي الأعصاب د. ياسر عبد المطلب، (من نماذج مصر الشابة الواعدة، إضافةً إلى الممرضة إلهام الشناوي، التي ذكرتني "بالمرأة ذات المصباح"، فلورانس نايت-آنجيل) أن فقرات العنق انضغطت، فبدأت ترسلُ إشاراتٍ وأوامرَ للكفّ اليسرى بالتوقف عن العمل. الكفُّ التي، لأنني عسراء، تكتبُ، وتُقلّبُ الصفحاتِ، وتتحمّل مهامَ يومي ومصاعبه، ولا تستريحُ إلا وقتَ مصافحة الناس، التي تؤديها الكفُّ اليمنى وهي تبتسم فرِحةً بالراحة والكسل. غضبتُ، وبكيتُ، واعتبرتُ الأمرَ تعسّفًا ضدّ مشروعي الكتابيّ (تقولش حاجيب الديب من ديله مثلا!) وفورا، سَلّمتُ د. محمد عناني كتابي الجديد عن فرجينيا وولف، الذي تلكأتُ فيه طويلا، حتى أخلصَ من همّه، وكيلا تشهدَ وولف النبيلةُ وجعي. يكفيها وجعُها! لكن المدهشَ أن هذا الألمَ الفيزيقيّ، على قسوته، صاحبَه شيءٌ من الراحة الميتافيزيقية غير المبررة. شيءٌ من البهجة الروحية! واكتشفتُ، بعد إعادة النظر، أن كلَّ ما هنالك أن هذا العنقَ الطيب (كلُّ أعضائنا البشريةِ طيبةٌ) لم يعد يتحمّلُ رفْعَ هذا الرأس المثْقلِ بالهموم والحَزَن والقراءة والقنوط، والفرح والبهجات أيضًا. هذه الكتيبةُ الضخمةُ من الأصدقاء الصامتين: أعضائنا، يُسيّرون حياتَنا ويتحمّلون سخافاتِنا دون أن نلتفتَ إليهم لنشكرهم! كمْ واحدًا منّا شكر يومًا كبدَه الذي يُنقّي جسدَه من السموم، أو ألقى التحيةَ على قدمه التي تحملُه ليجولَ العالم، أو أصابعِه التي تحملُ الفأسَ والقلم، ثم الأوردة والخلايا وكراتِ الدم، الخ، الخ. أو ذلك العنق النبيل الذي يزهو برفعِِه كنزَ الإنسان الأبديّ: المخ؟ لا ننتبه إلى هؤلاء الأصدقاء إلا حين يقعُ أحدُهم تحت وطأة العمل الشاق، فنكتشفُ أنه "كان" موجودا. كأنما لديك مئاتُ الأطفال، وأنتَ لاهٍ عنهم بشؤونك الخاصة، فيلكزُك طفلٌ منهم برفق في كتفك، ثم يشيرُ بإصبعه إلى نفسه ليقول لك: أنا هنا، فانتبهْ لي! لكنه في الواقع يزفرُ همسًا وهو يتهاوى أرضًا قائلا: لقد "كنتُ" هنا دائما، وأنتَ لم تنتبه لي، فدبّرْ حياتَك دوني! لتبدأ رحلةُ الصراع. ليس مع المرض؛ بل هو نِزالٌ نبيلٌ لمحاولة ردّ الاعتبار لهذا الصديق الذي لم نشكره أبدًا. حتى سقط. أدعوكم، مثلي، أن تشكروا أجزاءكم النبيلة، وألا تنظروا إلى المريض بحزنٍ، بل بتقدير واحترام، لأنه في عراك تَطهّريٍّ أرسْطيٍّ لردّ الاعتبار لعضوٍ سقط. مثلما ننظر إلى الجنديّ باحترام، يقتربُ من الحسد.
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |