السّر كخبز يومي
2009-03-10
ميدان الجيزة, صورة عالية "البيكسل" يقدمها حمدي الجزار عبر الولوج في عوالم روايته"لذات سرية" للحياة التي تشبه الأنهار الباطنية المتغافل عنها ويوما ما لا بد أن تتفجر بحكم الطبيعة مغيرة شكل الأنهار السطحية المسيطرة, إذ يسمح له ربيع الحاج السارد الرئيس بالتلصص عليه والتلذذ بأسراره التي لولا اختلاف الأسماء لقلنا أنها تخصنا , هكذا ببساطة سر مشاع وكل يدعي كتمانه بفعل قوة السطح أو بالتقية.
هذه النظرة الرباعية الأبعاد تكاد تختص بالميدان خاصة وبالمشهد العربي عامة من أقصى يساره إلى أقصى يمينه أو كما يغني أحمد عدويه في أغنيته " زحمه يا دنيا زحمه , مولد وصحبو غايب" التي يقولها سائق باص الإذاعة والتلفزيون " تصدّق بالله ماحدش فاهم حاجة" بعد أن دخل في مزاحمة مع سائق باص يشبه وجهه ميدان الجيزة كانت قد استوقفته رائحة" البانغو" في النفق الذي يبتدئ حمدي الجزار به روايته أو ربيع الحاج " أسراره , فيطلب من ربيع "سحْبة" تعدل مزاجه.
يعدد ربيع الحاج ما تراه عيناه كأنه بائع يدلل على بضاعته وبضاعته مكان الولادة والصيرورة ( جرائد رسمية وجرائد لها شبهة المعارضة المستقلة, لوحات إعلانية من العلكة, لداعية ديني,من البخور المغشوش إلى الروائح الرخيصة,من شرائط وسيديات الدعاة الجدد إلى أفلام البورنو إلى أن ينتهي بدخول النفق الذي سيخرج منه من ميدان الجيزة بعد أن يمج سيجارة حشيشة تعدل الخلل الذي التقطه من واجهة محل ثياب التي تبدأ بالسبورات وتنتهي بالجلابيب القصيرة ولباس المحجبات وضمنا الجينز والشورتات على مانيكانات مقصوصة الرأس إلى جانب مبنى التوحيد والنور ويافطة منورة" إن زلزلة الساعة شىء عظيم."
يقول رولان بارت العنوان هو المشعل الذي يضيء النص وكون رواية حمدي الجزار " لذات سرية " تفترض مخاطبة الغريزة في تجليها الثاني أي اللذة كتطور يفرضه المجتمع الإنساني وما يفرضه من تطوير للغريزة وتساميها وتعدد أشكالها ووسائط تحققها في المكان والمكان بأبعاده يكون ساكنا ما لم يدخل عليه الزمن لزم أن يكون الزمن, زمانها "يوم وليلة" أي اليوم الجامع الأول للزمن الاجتماعي المنقسم كعمر الإنسان إلى "أمس" "خروج" غد", محاكاة لسيرورة ربيع الحاج,وصيرورته؛تأتي صفة سرية لتعطل الموصوف ولتقول :إن المجتمع معطل ولم يرق بعد عن صفة التجمع بحكم الضرورة وليس بحكم الاختيار الذي يحقق للفرد إمكانياته .
فكانت العناوين عتبات موازية متقاطعة مع سردية ربيع الحاج التي ابتدأها في مشهدية الميدان والحياة فيه ليعود له كغريب عنه عبر إذاعته الخبر العاجل عنه محققا فصاما يطال الجميع.
وبين قوسين الدخول للميدان والخروج منه تتأكد الحياة بكونها لذات سرية نعيشها بعيدا عن الأعين والأفضل أن نقول عن أعيننا ولكنها تحت شمس تخط بضوئها ظلالنا التي نهرب منها عبر بناء الكثير من الكهوف.
وإيمانا بضرورة أن تكون الأسرار مشاعة كالحياة كرد على قمعها, يعمد ربيع الحاج لرسم مكانه بدقة المنمنمات الفارسية لإخراجه من الهمس إلى الصوت الذي لا يضيع عندما يلتقطه السمع, فيصبح متواترا, فهو لا يترك مكانا أو شخصا حتى يلج بتفاصيله مقدما هوية كتلك التي يلتقطونها للمجرمين ,الطول والعرض السيرة والشكل العمق والأسماء بحيث إذا ارتدت ميدان الجيزة ستكون الرواية دليلا كافيا لتلمس بصمات الشخصيات وحتى السؤال لخمسين سنة وأكثر للوراء كل شيء مفضوح وينادي بأعلى صوته لكن عندما تمعن في البحث وتصبح الإجابة على رأس اللسان تضيع في الزحام لتكتشف أنك كنت تتلمس لذاتك السرية أنت لا أحد غيرك نابشا سيرة عائلتك متلصصا ومؤولا تلك الهمسات التي تصدر عن جدران حياتك لتوقف البحث فلا تحتاج إلا لقليل من الذاكرة حتى يحضر الأمس والحاضر والمستقبل بكل ألوانه كصورة التقطت في صريح الضوء.
يبدو أن الميدان كالعدسة يكبر التفاصيل ويوجه الضوء إلى المحرق المرجل الذي يضغط بجميع الاتجاهات وهذا المطلب تحقق بلغة النص الذي سوده حمدي الجزار على الورق الأبيض أو عبر الكي بورد , فاللغة الرسمية التي سوف يذيع بها ربيع الحاج الخبر العاجل السري ليست هي اللغة السائدة بل هي لغة مهمشة في الميدان واللغة رمز خاص بالإنسان فهي الأنجع بالتعبير عن رفضه لأشكال القمع .
وهكذا تسللت إلى النص اللغة العامية بعد أن أتمت صيرورتها ومعجمها وصرفها ونحوها واختزالاتها وكأنها لذات سرية لغوية رغم انتشارها الكبير في الامتداد العربي فالكل يدعي بعدم جدواها وإنها نشاز على الأصل ولكنها في الحقيقة رد من قبل التفاصيل على عموميات الأيديولوجيات التي اكتسحت العالم العربي ؛ وهنا يبرز التناقض الفاضح والعميق على صعيد الحياة برفض لغة بيضاء برزخية متناصة ومتلاصة مع الفصيحة وتجري في دمها اللغة العامية؛ كشكل ديمقراطي تحاول الحياة تقديمه مقابل اللغة الحيادية للخبر العاجل , أو البيان رقم واحد للسلطة ,ومن طرف آخر ثرثرة العامية التي تفكك مفاصل السلطة المركزية بالقطيعة مع المشروع الأيديولوجي التي تتبناه ولا تقدم بديلا عنه, فلا يبقى أمام الأم" الواقع" إلا أن تعمل على إجهاض نفسها ردا على اغتصابها من قبل النظرية الفاقدة للشرعية لعدم ممارستها الكاملة للحياة , فالخبر الذي سوف يذيعه ربيع الحاج أو السلطة بكل أشكالها التي تملأ عالمنا العربي ضجيجا عبر الخطاب الرسمي وغيره من خطابات,سيكون بلغة رسمية عن ثرثرة اللغة العامية " ميدان الجيزة" .
"الغد" القسم الثالث وفيه يأتي وقت لملمة الفضيحة والأسرار بالاغتسال الذي يمارسه ربيع الحاج ثم بالعبور عبر الميدان والخروج منه والعودة إلى البذلة الرسمية والضحك مع بائع البليلة الذي يقول: " ألا تستحق بليلة عبدو خبرا سريا جدا في النشرة الصباحية؟!" لكن قبل اللغة الرسمية ب" أيها السيدات والسادة " هناك خبر عاجل جدا و يجب أن يذيعه ربيع الحاج بلغة مهنية حيادية لربما ليس عن بائع البليلة بل عن الميدان ككل .هل من الممكن أن يذيع ربيع الحاج الخبر بلغة ثالثة؟, هذا ما لم يجيبنا عنه حمدي الجزار كلذة سرية أخيرة له وفردية فهي من حقه ومن حق ربيع الحاج وكي لا يفتئت على حق القارئ بالتأويل.
رواية لذات سرية هي رواية العوالم السفلية , رواية صلصالية يتشكل من خلالها إنسان القرن الحادي والعشرين في عالمنا العربي .
رواية ل حمدي الجزار صادرة عن دار"الدار للنشر والتوزيع" القاهرة ,مصر لعام
2008
نشرت في تشرين
باسم سليمان
www.safita.cc
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
17-آذار-2018 | |
23-كانون الأول-2014 | |
04-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |