كم أنا حزينٌ وأزرق.. وأفكِّر بالفراشات!!
2009-03-20
جاءَ مجهول وكتب على أحد الجدران في زقاق ضيق الكلام التالي:(خان الشيح النائمون)، كان يقصدهم كلهم، كلُّ سكان المكان(المخيم الفلسطيني الملقى خلف ظهر المدينة) حسبما كتب أحدهم مرةً. كانوا نائمين فعلاً، ولم يكن نومهم إلا مصاعب عيشٍ، ويأس من وضع فلسطيني يتدحرج من أعلى المنحدر مثل كرة من الثَّلج. لتجرف كل الأحلام في طريقها الوعر.
هكذا، وبمقدِّمات كثيرةٍ، وجد الناس أنفسهم هناك (20كيلومتراً جنوب دمشق) يقلدون قصباً أجوف يبكي، أما الكتابة على الجدار تلك فلم تحرِّك أحداً، قياساً لما كانت تفعله سابقاً، منذ أعلن ناجي العلي إطلاق هذه الظاهرة برسمه حنظلة على جدران أحد المخيمات.(بالمناسبة.. من قتل وسهّل ووفر الغطاء لمقتل ناجي العلي؟؟) إسرائيل طبعاً!! ولكن من يقوم كل يوم بقتل النهج؟؟
إذاً تحول المخيَّم(الملقى خلف ظهر المدينة) من آلة لإنتاج (العنف الثوري) إلى مياهٍ راكدة تنتج الرِّدَّة على كل المستويات. وفي أحسن الأحوال صارت شعارات الجدران تنتج الصمت(صرتُ أخافُ من الكلام وأخاف من الصمت) حسب تعبير الراحل حسن البرغوثي صاحب أهم إنجازات النثر الفلسطيني حسب تعبير محمود درويش. حتى ذاك الضَّجيج الدَّاخلي الذي يشبه فورة دم أبناء القبائل غاب نهائياً، وصرنا نطلبه بكل عنجهيته وتخلُّفه ورجعيَّته.. يالَ هذا الزمن الرديء!!
اجتاح الإسلاميون الشَّعب الفلسطيني في شتاته وفي ماتبقَّى من أرضه،(أرض الحكم الذاتي) وحوَّلوه من الحامل الأول للعلمانية(بأضعف أشكالها) في الوطن العربي إلى تربة خصبة لظهور الأصوليين والمتشددين(في أول تجلياتهم)، إنهم أبناء الحركات الدينيَّة الطَّارئة وسدَّادوا فراغ التَّاريخ. الفراغ الذي خلَّفه ماركسيِّين كانوا يخطئون في ترجمة (الكتاب المقدس) رأس المال. وهو ذاته الفراغ الذي اشترك بإيجاده القوميُّون ورثة الفوهرريَّة العربية التي لم تنتج شيئاً. غير أنصاف المثقفين من ذوي الأحلام المبتورة الذين لم يلبثوا يتحولون من شكلٍ إلى آخر دون أن تتضح لهم وجهة أبداً.
أما الليبراليون القدامى والجدد منهم فقد صبوا جام ما تعلموه ليسرقوا لقمة الناس في كل مكان!! وداعا للنقابات. وداعاً لكل تلك الثرثرة التي انحصرت بتعليم (الطَّليعة) قانون "نفي النفي" و"تحول الكم إلى كيف".
أما تلك الشعارات التي كانت تضرب بمطرقة على أعصاب عارية، صارات التعبير الأمثل عن خواءٍ لا طائل منه أبداً، وبالتالي تطور شعار(سلّحونا سلّحونا) إلى (حلّوا عنا)، وهكذا، بفعل الخواء، وقلَّة الحيلة أيضاً، مرَّ حدثٌ استثنائي من نوع هدم المخيم الشقيق(نهر البارد في لبنان) بتحريض من المتأمركين دون أن يحصل شيء أبداً.
برهن العرب والعالم في نهر البارد على أن كل فلسطيني مشروع موت. وأن كلّ فرد في هذا العالم(العرب خصوصاً) مشروعُ مؤيدٍ لهذا الموت.. وحبذا لو كان ذلك الموت من نوع الإبادة الجماعية.
لم يجتمع أهل المخيم (الأشدِّ جنوبيَّةً) على الأرض المستأجرة من وكالة الغوث إلا على ثلاث، منهنَّ، مجيء مجموعة من جرحى الانتفاضة الفلسطينية الثانية للعلاج في المستشفيات السورية، حيث زاروا يومها، بعد استشفائهم، (المخيم الأقرب إلى أرض الوطن)، يومها احتسى أبو شادي (ثوري من الطراز الرَّفيع في الثامنة والعشرين من عمره) عدداً غير معروف من علب البيرة التنك، وأصرَّ أن يحمله الشباب على الأكتاف في المسيرة التي خرجت احتفاءً بالمناضلين، ولشدَّة انفعاله لرؤية من يعتبرهم قدِّيسين، وكائناتٍ خرافيَّة تواجه اسرائيل، هتف:(غزَّازات الدّم بشلَّة) وكان يقصد(شلّالات الدمَّ بغزة). وهكذا هتف أبو الوليد أيضاً(يسقط واحد من فوق) وكان بذلك يشوه الشعار الشهير(يسقط وعد بلفور).
أبو الوليد هذا أسر في الثمانينات من قبل الجيش الإسرائيلي، كان فدائياً وقتها، وهو يتصف بأن له كتفٌ مائل، يومها فسّر الإسرائيليون ميلان الكتف بسبب حمل الآر_بي_جي، لكنه أقسم على أنَّه كان يتجول في بيروت حاملاً براداً يبيع فيه البوظة، وبأن ميلان كتفه يعزى إلى هذا الحمل الشَّاق!!
يمكن العودة في هذا السياق إلى سنة ثمان وأربعين، فمن المخيم نفسه قبضت عصابات الهاغاناة على رجل جاءت عائلته فيما بعد إلى مخيم خان الشيح، وطلبوا منه-تحت تهديد السلاح- أن يقول تحيا الهاغاناة، غير أنه بصق في وجههم، وقال: تحيا فلسطين. هذه ليست مقارنةً ولا تجريماً لأحد من الضحايا، إنما هو تحوُّل، هي كوزومبولتية فلسطينية تجاوز السوبرمانية وتنفيها إلى المدى الأقصى. ثمة سوبرمان لا شكّ، وسوبر وومن أيضاً.(مالذي يمكن ان نصف به دلال المغربي؟).
بعد هذه الحادثة اجتمعوا(سكان المخيم) عند استشهاد أبو علي مصطفى أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان ومايزال من القلّة الذين يجمع كافة الفلسطينيين على احترامه.(ليس لصَّاً على الأقل) يومها سدُّوا الطرقات، وأحرقوا الدواليب، وهتفوا حتى انتهاء الغيظ. وجاء من تفصْحَن بعدها طالباً عدم الخروج في مظاهرات لأنها تخفف الاحتقان وحسب، كان المتفصحنون يريدون أن يموت الناس جماعة بالأزمات القلبية!!.
الاجتماع الثالث كان في عرس لأبناء أحد الوجهاء، يومها جاء أهل العريس بفرقة شعبية من إحدى القرى المجاورة، حيث غنت الفرقة أغان مدهشة مثلاً( الحب الحبيتو ما هو من بلادي..الحب الحبيتو من دروشا وغادي) أكتبها كما تلفظ باللهجة البدوية لريف دمشق باتجاه مدينة القنيطرة. موضحاً أن دروشا هذه هي القرية المتاخمة لمخيم خان الشيح، وكان المغني يقصد أنه أحبَّ فتاة من دروشا وما بعدها باتجاه دمشق.
يمكن هنا تسجيل ملاحظة لا قيمة لها من قبيل غياب الأهزوجة الشهيرة (ترابك فلسطين ما نبيعوا بالذهب..).
بالطبع ليس غريباً أن يبدو المكان غريباً كمصيدة، جامعاً تناقضاتٍ متعدِّدة، وأن ردَّات الأفعال بحاجة لأفعالٍ أولاً ، وليس بعيداً عن الصَّواب، ولربما كانت مشكلة الفلسطينين دائماً أنهم كانوا أصحاب ردَّات فعل ولم يكونوا أصحاب مبادرات إلا في مراحل قصيرة.
الإجتماع الأخير لكل سكان المخيم الذي يجاوز سكانه العشرين ألف نسمة، كان قبل أشهر، في تشييع الشَّهيدين اللذين استرجعهما حزب الله في عملية التبادل، واللذين وصلا مع شهداء سوريين وتوانسة ومن كثير من الدول العربية.
إنه حدث استثنائي في حياة راكدة!!!
ومازال الرُّزُّ الذي رمته النساء على النعشين الخفيفين، يطير في الشوارع، وسيصير وجبة فرح، وكرامة،(انسَ الشعارات) تطعم كلَّ الجائعين لها.(لماذا أنا حزين وأزرق- أغنية جاز للويس آرمسترونغ). هكذا أراقب النعشين محاولاً تخيُّل ما يمكن أن يكون بداخلهما إنهم الشُّهداء (لايذهبون إلى النوم)، كيمياء لا يهتمُّ بها إلا من يريد أن يكون حلقةً في السِّلسلة التي لا يعرف أحدُ متى ستنتهي.
كم من الأرقام(هذا ليس امتعاضاً من ظاهرة الشهادة)، الأسر الفلسطينية تعرف ذلك جيداً، يعرف الآباء والأمهات كيف ترك أبناؤهم في السبعينات والثمانينات مدارسهم(كلُّ الجند يمضي إلى المجد.. كل الجند يمضي إلى الجبهة)، والتحقوا بالأحزاب الفلسطينية، هكذا صار أبناؤهم كوادر وقيادات، وكانوا يرقبون طلعاتهم البهية، (أخوة) في حركة فتح(ديمومة الثورة وشعلة الكفاح المسلّح)، (ورفاقاً) في الأحزاب اليسارية الجبهتين الشعبية والديمقراطية وجبهة التحرير الفلسطيني.
منهم من عاد جثة، ومنهم من ظلَّ فقيداً، ومنهم من يرجع اليوم رفاتاً، أما من بقي فمحزونون، وقد صاروا بلا مستقبل بعد أن غابوا بخفَّي حُنين.
أنا فلسطيني من مخيم خان الشيح(مخيم العودة) كما أسماه ياسر عرفات، في زيارته الوحيدة إليه مطلع الثمانينات، أجلسُ الآن في (ضواحي الفردوس وأفكِّر بالفراشات) حسب الشاعر الدنماركي نيلس هاف.
08-أيار-2021
يحاضر في «أربعاء تريم الثقافي» / فراس السواح يقارن بين التاو والديانات الشرقية |
24-آذار-2010 |
17-آذار-2010 | |
28-حزيران-2009 | |
23-حزيران-2009 | |
13-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |