يحاضر في «أربعاء تريم الثقافي» / فراس السواح يقارن بين التاو والديانات الشرقية
2010-03-24
لطالما شُغل فراس السواح بتلك الأسئلة التي أثقلت كاهل البشرية منذ بدأت تعي ذاتها. هكذا ظلَّ الباحث السوري يحفر عميقاً في أسئلة الإنسانية المستعصية، منذ الدراسة الأولى التي أنجزها (مغامرة العقل الأولى- 1978)، وحتى كتابه الأخير (الوجه الأخير للمسيح، مدخل إلى الغنوصية المسيحية- 2007). قبل أيام اشتبك فراس السواح مع جمهوره ومتابعيه عبر محاضرة نظّمها مركز تريم للعمارة والتراث تحت عنوان "بين الحكمة والدين- كتاب التاو الصيني في مقاربة شخصية" في مكتبة الأسد؛ حيث قام فراس السواح بتقديم استعراض لتلك الأسئلة "التي يطرحها الأطفال عادة حول أصل العالم، والغاية من الحياة".
فراس السواح (1941)، الذي انكبَّ منذ سنوات مراهقته، على دراسة تاريخ الفلسفة الغربية ابتداء بسقراط وانتهاء بكانط وهيغل، وجد نفسه غارقاً في دراسة تاريخ الدين؛ وذلك بعد خيبة أمله من الفلسفة، وتماشياً مع "تكوينه الفكري والنفسي". هكذا حطَّ السواح رحاله عند كتاب التاو تي تشنغ، الذي أنجزه الحكيم الصيني لاو تسو في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي قدَّمه فراس السواح إلى قراء العربية(1998)، ثم صدر الكتاب نفسه في طبعة صينية مدعومة من وزارة الثقافة الصينية ضمن سلسلة التراث الصيني باللغة الاجنبية. وما قام به فراس السواح في المحاضرة أنه أجرى مقارنة منهجية بين الفكر التاوي وأديان الوحي التي نشأت في الشرق، ابتداء من الزرداشتية وانتهاء بالإسلام.
يصف فراس السواح كتاب التاو بأنه كتاب صغير الحجم، لا يتعدّى عدد صفحاته عدد صفحات ديوان شعر حديث من القطع الصغير، ولكنه كان "واحداً من الكتب التي أثرت على فكر الشرق الأقصى". كما يصف الحكيم الصيني لاو تسو بأنه "شخصية يلفها الضباب" وأنه عاش عمراً مديداً وعاصر كونفوشيوس" الأصغر منه سناً". يتألف الكتاب، كما يقول السواح، من 500 شارة كتابية صينية فقط، وهو عبارة عن "حكم قصيرة مختزلة، وعلى درجة عالية من التجريد حد الإلغاز". وهو ما جعل الباحثين في جدل حول تفسيره وتأويله.
ويجري فراس السواح مقارنة بين الحكم التي ينطوي عليها كتاب التاو وبين الصرامة الأيديولوجية التي تتضمّنها الأديان الشرقية في عدة نقاط تشكل جوهر التناقضات في النظرات المختلفة إلى الوجود.
أكد فراس السواح، في مستهل محاضرته، أنه لا يقدّم "محاضرة أكاديمية" وإنما "تجربة شخصية". فالإنسان يولد وتولد معه الأسئلة حول أصل العالم، ووجوده، والغاية من هذا الوجود.. إلخ. لكن الدافع إلى التساؤل "يخفت مع مرور الزمن"، فيتّجه الناس إلى "دين آبائهم"، حيث يتوافر هناك "عقيدة ناجزة" تخفّف عنهم عبء الأسئلة و"تضعهم في طمأنينة الأيديولوجيا"؛ حيث كل أيديولوجيا تدعي بأنها وضعت يدها على المعارف العليا، في حين إن تاويّة لاو تسو لا تقارب بالمناهج العقلية؛ إذ يريد التاوي علاقة "اختبارية مباشرة مع العالم". يؤكد فراس السواح أنه "لم يقتنع بالجاهز والموروث"، ومن هذه القناعة تبيَّن له أنَّ "العالم ليس جاهزاً بعد لتقديم إجابات عن تلك الأسئلة". لا يتوانى فراس السواح عن القول: "أنا مؤمن من حيث المبدأ"، ويضيف: "إيماني لم يتخذ الطابع التقليدي".
في طبيعة المبدأ الكلي يرى السواح أنَّ الأديان التقليدية ترى في هذا المبدأ كائناً علوياً يتمتع بشخصية كما للبشر، وله اسم مستقل عن العالم، وهو ذو إرادة فعلية. أما لاو تسو فيرى المبدأ الكلي قدرة غير مشخصة؛ لا اسم، ولا شخصية، ولا إرادة فعلية، ويدعوها التاو (أي الطريق). يشير لاو تسي في كتابه العابر للأزمنة بالقول: "اللامسمى هو بداية الأرض والسماء"، ويضيف: "لا أعرف اسمه فأدعوه التاو".
وفي معرفة المبدأ الكلي، يشير السواح إلى أنَّ الله يعلن عن نفسه من خلال اتصاله بمختارين من البشر (الأنبياء)، ومن خلال كتب تحوي كلام الله نفسه. فالحكمة إلهية هبطت من السماء. أما عند لاو تسو فالحكمة استنبطها الإنسان. ومعرفة المبدأ الأول تأتي من خلال تجربة ذاتية ودون كلمات. يقول لاو تسو: "في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة. الطبيعة لا تعبر عن نفسها بالكلمات". ويقول أيضاً: "الذي يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف".
يشير فراس السواح إلى أنَّ آراء لاو تسو عن الصمت الناطق والفراغ الناطق تشبه آراء المتصوف الألماني لايكهارد، الذي قال مرة: "لا شيء يشبه الله في هذا العالم مثل الصمت". وبذلك يقول السواح: "لا يطمح الحكيم لمعرفة التاو بالوسائل العقلية، وإنما بالوسائل الحدسية".
ويستشهد بلاو تسو، الذي كتب في التاو؛ يقول: "من غير أن نسافر بعيداً نستطيع أن نعرف العالم، من دون أن ننظر من النافذة نستطيع أن نعرف طريق السماء".
ويرى السواح أنَّ هذا يتطابق مع قول يسوع: "لا يأتي ملكوت الله بمراقبة.. لأنَّ ملكوت الله في داخلكم".
يقول فراس السواح إنَّ فراغ التاو قريب من مفهوم الصفر الرياضي، ومادام التاو ليس خالقاً للعالم، ولا يلعب دور السيد المتحكم فيه بقدر ما يلعب دور القوانين العلمية، حيث الأشياء تنتج تلقائياً والكلّ يحدث من تلقاء نفسه.. وهذا يقود إلى المقارنة الثالثة؛ ففي مسألة الخلق والتكوين يقارن السواح فيصلُ إلى القول: إنَّ العالم في الأديان يظهر من خلال خطة محدّدة مسبقة في عقل الله المستقل والمفارق لعالم المادة والفاعل فيه. أما لاو تسو، فيرى أنَّ وجود العالم هو فيض دائم من التاو. وهذا الفيض ليس فعلاً إرادياً بقدر ما هو فعل تلقائي. والتلقائي نوع من اللافعل أشبه بتفتح زهرة، تدفعها فعالية خلاقة من داخلها لا من خارجها. ويتحوّل التاو إلى مظاهر لا نهائية من المظاهر الحية؛ يقول لاو تسو: "التاو ليس من شيمته العقل. ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام". ويقول: "بتكامل الأضداد يتحرك التاو، باللين ينجز عمله".
وعن العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر، يرى أنَّ هذه العلاقة في الأديان طقسية، شعائرية، في حين أن لاو تسو يرى أنَّ نِعم المبدأ الكلي تفيض من خلال تلقائية كونية لا سيّد فيها ولا مسود، والكل يعيش في حالة وجود تشاركي، لا فضل لأحد عناصره على الآخر.
وفي الأخلاق يرى فراس السواح أنَّ الشرائع تهبط من السماء، والله يبيّن طريق الخير وطريق الشر، والإنسان لا يتمتّع بوازع خلقي أصيل. فيما يذهب لاو تسو إلى أنَّ الفضيلة كامنة في صلب النظام الطبيعي للكون، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في تناغم مع هذا النظام دون الحاجة إلى تلقين من قوة علوية. وعمل الخير هو شكل من أشكال التلقائية أو اللافعل. يستشهد السواح بلاو تسو، الذي يقول: "رجل الفضيلة الكاملة لا يشعر بفضيلته، لذا فإنه رجل فاضل. البعيد عن الفضيلة مشغول بها على الدوام..". ينهي فراس السواح مقارناته في مسألة الثواب والعقاب، وفي مسألة الآخرة والحياة الثانية، فيرى أنَّ الأديان يتّصل فيها الثواب والعقاب بمفهوم الخير والشر، وأنَّ الموت معبر للحياة الثانية، إما في النعيم أو في الجحيم. أما لاو تسو، فيرى أنَّ ثواب الخير في فعل الخير نفسه؛ لأنه يجعل الإنسان في انسجام مع التلقائية الخيرة، فيقوم التاويّ بتأدية واجبه دون انتظار مردود. كما أنَّ لاو لم يعطِ اهتماماً للميتافيزيقيا، ولم يعط صورة للعالم الآخر. إذاً إنه لا ينبغي على الإنسان إلا أن يعيش حياة طبيعية دون خوف من الموت أو تعلق بالحياة.
فراس السواح
مفكر وباحث سوري في الميثولوجيا وتاريخ الأديان. له: كتاب التاو، إنجيل الحكمة التاويّة في الصين. آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي. الأسطورة والمعنى- دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية. جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة. دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني. الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، هل جاءت التوراة من جزيرة العرب. لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. مغامرة العقل الأولى، دراسة في الأسطورة، سورية وبلاد الرافدين. يشرف على تحرير موسوعة تاريخ الأديان وقد صدر منها حتى الآن أربعة مجلدات. تحت الطبع: طريق إخوان الصفاء- المدخل إلى الغنوصية الإسلامية. ترجمات: توماس ل. تومبسون (تحرير): أورشليم القدس بين التوراة والتاريخ، مؤسسة دراسات الوحدة العربية، بيروت 2003.
صدرت له المؤلفات التالية (بالإنكليزية): كتاب مشترك مع توماس ل. تومبسون، وكيث وايتلام، وفيليب ديفز، ومرغريت شتاينر، وعدد من أهم المؤرخين وعلماء الآثار في أوروبا والولايات المتحدة. الكتاب من تحرير توماس تومبسون، تحت عنوان: Jerusalem in History and Tradition. (بالعربية) عن دار علاء الدين- دمشق: مدخل إلى نصوص الشرق القديم. الوجه الآخر للمسيح- موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم. تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود. الرحمن والشيطان- الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية.
مركز تريم للعمارة والتراث
مؤسسة غير حكومية، مركزها دمشق، أسّستها المهندسة ريم عبد الغني عام 2004. تعنى بالتراث والعمارة في العالم العربي، من خلال التوثيق والدراسة والنشر والإنتاج الفني وتنفيذ المشاريع الهندسية وأعمال الحفاظ والترميم وتبادل الخبرات مع المؤسسات والهيئات المراكز المماثلة في العالم.. يتلخّص مشروع «أربعاء تريم الثقافي» في كلمة واحدة: «الهوية»؛ الهوية التي أخذت معالمها تبهت أو تتغيّر تحت وطاة الضغوط المختلفة باسم «العولمة» و"الحداثة" و"المعاصر" و"التكنولوجيا» وغيرها. ويتابع تريم الثقافي الانعقاد في الأربعاء الأول من كل شهر في قاعة المحاضرات الرئيسة لمكتبة الأسد، حيث تتمّ استضافة نخب ومختصين في شتى مجالات الثقافة العربية.
المثقف الرزين
قيس مصطفى
في المقال، الذي يغطي الندوة التي أقامها المفكر فراس السواح، يقول الحكيم الصيني لاو تسو: «الذي يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف». مجرد حكمة صينية قادمة من الألف الخامس قبل الميلاد، كتبها رجل فضل طوال حياته أن يبقى في الظلّ؛ لإيمانه بأن قيمته ستزداد كلما قلّت معرفة الناس به. ولكنها حمة نافعة لتقال في وجوه الثرثارين، والقوّالين، ومخترعي الإشاعات، وطلاب الشهرة والنجومية.. إلخ. وعموماً أريد أن ألفت النظر إلى الرزانة التي يتمتع بها فراس السواح على المنبر أثناء إدارة ندوته الثقافية بمنطق عال وذهنية صافية وحضور لافت؛ حتى في اللحظات التي أصبح الجمهور فيها يداخل بأسئلة خارج السياقات. هذه الرزانة والكاريزما قلما نصدفها عند الكثيرين، من أصحاب أنصاف المعارف، من متعهدي المراكز الثقافية على خارطة الوطن الواسع.
طالما كنت أحسد الشعراء الذين يتقنون الوقوف خلف الميكروفونات. كان محمود درويش ونزار قباني وأمل دنقل ظواهر شعرية إضافة إلى كونهم ظواهر شعرية بكل ما للكلمة من معنى، وكان لوجودهم أمام الجمهور قيمة أخرى. يمكن وضع الشاعر مظفر النواب في نفس الموضع، وإن كان من منطقة شعرية أخرى؛ فمازال صوته مبعث دهشة للمستمعين حتى هذه اللحظة. فأولئك جميعاً أمثلة حاضرة على الرزانة في الحضور والأداء، والقدرة على امتلاك زمام الخطاب.
اليوم يعتلي المنابر كثير من المحاضرين الذين يتقنون فنَّ التأتاة، وآخرون ممن يعوزهم المنطق وتسلسل الأفكار. وكثيراً ما نجد محاضرين يصعدون المنابر دون أن يمسكوا بورقة في أيديهم. وهذا يعني أنهم لم يحضروا شيئاً. ربما فقد المنبر وظيفته بشكل نهائي. فالقليلون يعرفون التعامل معه. فتجربتي الشخصية في ابتلاع الحروف وخبص الكلمات، إذا ما وضع مايكريفون أمام وجهي، تجعلني دائماً في حالة من تأنيب الضمير، بعد أن أمارس فصلاً مسرحياً في الصوت المتهدج أمام غفر غالباً ما يكونون في انتظار تلك اللحظة التي سأرفع فيها المنصوبات وأجرّ المرفوعات. وهناك الكثيرون من أبناء جيلي ممن يقعون في نفس الورطة، حتى يظنّهم البعض لا يتقنون القراءة بالعربية الفصحى.
في الشعر قد يكون الارتباك جزءاً من الشعرية. أما عندما تكون المحاضرة متعلقة بالمعارف والأفكار فلا مجال لتضييع الناس أبداً.
فرصة ثمينة وفّرها مركز تريم الثقافي؛ عندما استقدم المفكر فراس السواح ليحاضر. وعلى الرغم من الطقس العاصف يومها، إلا أنَّ غفراً كبيراً حضر الندوة. وهذا يسقط كلَّ تلك الأقاويل على أنَّ الجمهور لا يعرف شيئاً، ولا يريد أن يقوم بشيء أبداً. ببساطة تامة لا يمكن القول إلا إنَّ الجمهور سمع أو لم يسمع، أو إن الجمهور يحترم أو لا يحترم.. وإنَّ الجهات الثقافية الأهلية هي أجدر بالاشتغال على الثقافة من غيرها. فهناك عند تلك الجهات يجري التفكير بطريقة مختلفة تماماً.
قيس مصطفى
عن بلدنا
08-أيار-2021
يحاضر في «أربعاء تريم الثقافي» / فراس السواح يقارن بين التاو والديانات الشرقية |
24-آذار-2010 |
17-آذار-2010 | |
28-حزيران-2009 | |
23-حزيران-2009 | |
13-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |