طواويسُنا الجميلةُ
2009-03-23
اِقرأوا معي هذه الكلمات: "محمد عبد الوهاب فنانٌ عبقريّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه في أيِّ عصر، أو أيّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ تمامًا بأن مكانَه الطبيعيّ بين صفوف الزعماء. استطاعَ بفضل فنّه أنْ يكتبَ اسمَه بحروفٍ كبيرة في التاريخ."
هذا الرأيُ، الصحيح، في الموسيقار عبد الوهاب، ليس من كلماتي، ولا هي كلماتُ ناقدٍ موسيقيّ واعٍ، وليس تعريفًا نقلتُه من إحدى الموسوعات لأُصدِّرَ به مقالي عن قامةٍ مصريةٍ رفيعة، بمناسبة عيد ميلاده في 13 مارس. إنما المدهشُ، أنَّ من كتبَ تلك الكلماتِ هو آخرُ شخصٍ في الكون يمكن أن نتوقّعه يكتبُها. إنه عبد الوهاب نفسه!
والمناسبة: حدث أن طلبتْ إليه مجلة "الكواكب" عام 1950، أن يكتب شهادةً عن نفسه فكتبَ ما سبق، ثم صدّرتْ به د. رتيبة الحفني كتابَها: "عبد الوهاب، حياتُه وفنُّه".
والحقُّ أنني اندهشتُ! لا من تلك النرجسية؛ فكلُّ مبدعٍ يحملُ قدرًا من النرجسية، هي في الواقع التي تجعلُه يُبدع، إنما اندهشتُ من إعلانها. ذاك أن المبدعَ يتعمّدُ اعتمارَ شيء من تواضع، وإن مُفْتَعَلٌ، كأنما بذلك يضعُ كلماتِ التقدير على لسان الآخر. فيكون الحقُّ ما شهدَ به الآخرون.
وقد ميّزتِ العربيةُ بين ألوان من الإعجاب بالنفس. فلدينا: النرجسيةُ، الغرورُ، التعالي، الاعتدادُ بالنفس، حبُّ الذات، الثقةُ بالنفس، الأنا المتضخمةُ، الأثرة، التكبّر، نفي الآخر، وغيرها من ألوان رؤية الذات وإقصاء الآخر. على أن ما أعنيه هنا لا ينتمي بحالٍ إلى تلك القائمة الشائكة. إنها شيءٌ طفوليٌّ نبيل. هي طاووسيةُ الفنّان؛ التي تجعله يرى نفسَه مختلفًا وجميلا. وهي ضرورةٌ لكي يصنعَ الجمالَ. فلو أنه قَبِلَ أن يرى نفسَه عاديًّا، لقَبِل، بالتالي، أن يُنتجَ شيئًا عاديًّا. وهذا، بظني، أحدُ أسبابِ انهيار الجمال في مصر الآن. لأن معظم فنانينا الحاليين يرون أنفسَهم عاديين، لأنهم عاديون، فأنتجوا لنا العاديَّ، فهبط الفنُّ، وانحطّتِ الذائقةُ، إذْ بِتنا نقبلُ العاديَّ باعتباره فنًّا! لكنْ مَن يرى نفسَه جميلا، يعيشُ في رعبٍ دائم على هذا الجمال؛ ويخشى زوالَه خشيتَه الموتَ، فيأبى إلا أن يُقدّمَ المدهشَ المائزَ الجميل. ونحن نقبلُ ذلك الاعتدادَ بالنفس من المبدع، رهانًا منّا أنها أداةُ إبداعِه، ومن ثم سببُ مُتعتنا. لذلك أحببنا نرجسيةَ المُغادِر الجميل محمود درويش حينما كان يختالُ ويتدلّلُ ويفرّ من الصحافة والمعجبين، وفتنتنا طاووسيةُ أحمد عبد المعطي حجازي وهو يلقي قصائدَه مثل مايسترو؛ عصاهُ يدُه؛ تُطوّعُ الحرفَ نَبْرًا وقَطْعًا وحركةً وسُكونًا وإدغامًا وإشباعًا، فيخرجُ الحرفُ مشحونًا بالغناء. تماما مثلما ابتسمنا بمحبة لقول المتنبي، عن نفسه، لسيف الدولة: "سيعلمُ الجمعُ مِمَن ضمَّ مجلِسُنا/ بأنني خيرُ مَنْ تسعى بهقدمُ/ أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبيْ/ وأسمعتْ كلماتيْ من بهصَمَمُ/.../ كَمْ تطلبونَ لنا عيبًا فيُعجِزُكم/ ويكرهُ اللهُ ما تأتونوالكرمُ/ ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ عن شرفي/ أنا الثريا وذان الشيبُ والهِرَمُ."
لذلك نقبلُ ونثمّنُ ما قاله عبد الوهاب عن نفسه، مادام ملأ حياتَنا جمالا ورقيًّا، وطالما يظلُّ لنا أبدًا مُلهمًا لا يخبو. حتى أن صديقي الكاتبَ المسرحيّ المعروف بهيج إسماعيل، وهو كذلك أحدُ طواويسِنا الجميلة، قال لي إنه لا يقدرُ أن يكتبَ حرفًا، قبل الاستماع إلى عبد الوهاب!
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |