حينما للظلامِ وَبَرٌ
2009-03-29
دخلَ جمال الغيطاني، الأديب الكبير، الهرمَ الأكبر. أوغلَ فيه عميقًا، حتى وصلَ غرفةَ الدفن. لم يدخلها وحسب، بل استقرَّ فيها، ليلةً، كأنها الأبد! ذاك أن الزمانَ نسبيٌّ شأن كل شيء، ومرورُه مرهونٌ بالمكان، حسب آينشتين. فاستطالتْ ساعاتُ الليل القِصارُ حتى غدت دهرًا عَتِمًا سرمديًّا لا فجرَ بعده. نام في تابوتٍ أقصرَ منه طولا. هل كان الفراعينُ قِصارًا، رغم عملاقيتهم؟ ربما. وغرق الغيطانيّ في ظلام كثيف لم يرَ مثيله؛ هو الذي شهد من الظلام ألوانًا: في خنادق الحرب؛ جنديًّا مدافعًا عن حقوق وطنه، وفي المعتقل؛ مثقفًا مدافعًا عن حقوق مواطنيه، فحقَّ عليه العقابُ والمعتقل! يقول إنه كاد "يلمسُ" الظلامَ! حيث العتمةُ، حينما تتكاثفُ طبقاتُها، تغدو شيئا ماديًّا، له ما للمادة من كتلة وحجم وملمس! "كأن للظلامِ وبرًا"، والتعبيرُ الفاتن للغيطاني. وقال أيضا إن طاغوتَ الظُلمةِ قد أفقد عقلَه سيطرتَه على سائر أعضاء الجسد. فيعطي أمرًا لليد أن تتحرك، ولا تستجيبُ اليدُ! كأنما الأعضاءُ قد اِسْتُلِبت جميعُها نحو آمرٍ ناهٍ جديد، ليس هو العقلَ/السيد، إنما هو قداسةُ اللحظة وهَوْلُ فرادتها! لحظة أن تُتاح لأحد أبناء الراهنِ، أن يرقدَ في تابوتٍ صنعته يدٌ عاشت قبل خمسةٍ وأربعين قرنًا من الزمان، داخل قُدْسِ أقداسِ أعظم بناية شيدها الإنسانُ على مرّ التاريخ. تابوتٍ يرقدُ في قلب أول وأقدم عجيبةٍ من عجائب الدنيا، والوحيدة التي ما تزال تنظرُ بصَلَفٍ وتحدٍّ إلى جبروت الطبيعة من زلازلَ ورياحٍ وعواصفَ وأعاصير، والأخطر، إلى سخافاتِ بشرٍ لم يدركوا بعد هَوْلَ الكَنز الذي حبتهم به الجغرافيا، ووهبه لهم التاريخُ، فلا يفخرون، من عجبٍ، بمصريتهم! قال الغيطاني إن جسدَه فقد ماديتَه، فتحوّل إلى "طاقةٍ" لا قانونَ فيزيقيًّا لها. وأعجبني التعبير. لكنني أخذتُه على محمل المجاز الاستعاريّ، الذي نحته مبدعٌ صناعتُه المجازُ والاستعارة. على أنني صدّقتُ تعبيرَه "حَرفيًّا"، ونزعتُ عنه مجازيته، بعد تجربتي الأخيرة في تابوتي الخاص!
لم يكتب لي الحظُّ أن أنامَ في تابوتٍ أسطوريّ كالذي أمضى فيه الغيطاني ليلتَه الفريدةَ تلك. لكنه تابوتٌ تكنولوجيّ معدنيٌّ بارد، يسمونه جهاز الرنين المغناطيسي. قالتِ الممرضةُ تشجعني: "الأمرُ بسيط، بس ربع ساعة!" ومرّت دهورٌ طوالٌ. قرأتُ خلالها جزء "عمَّ"، واستعدتُ أغاني فيروز، وتذكرت أمي. هل شعرتْ بما أشعرُ به الآن حينما أدخلوها تابوتها الحجريّ؟ أبكي. ثم أقرأ ما تيسر من سورة "غافر". كانت تحبها بصوت المنشاوي، وحينما يقول: "هو الذي خلقكم من ترابٍ ثم من نُطفةٍ ثم من علقةٍ ثم يُخرجكم طفلا،" تهتفُ: "أحمد!" (ابنُ أخي، وأولُ أحفادها، شابٌّ في كلية الطب الآن). أُغمضُ عينيْ كيلا أشعرَ بمرور الوقت! فأشعرُ أنني أكبرُ خارجَ الزمن، مثلما حبيبة عبد الصبور. ثم يتزايد يقيني بأنهم نسوني داخل التابوت، ومضوا إلى حال سبيلهم. تضربني الهيستريا، أصرخُ وأضربُ الجدرَ الخانقة بأطرافي، ولما أخرجوا جثماني بعد سنوات، يخبرني الطبيبُ أنني ما مكثتُ سوى دقائقَ ثلاثٍ! كيف؟ قرأتُ جزءًا من القرآن في دقائق؟ تحوّل عقلي إلى طاقةٍ هيوليةٍ، فقرأ ما قرأ، وتداعتِ الأفكارُ، كلُّها دفقةً واحدةً، بسبب هول اللحظة! وأخفقتِ التجربة. ولم أُعدْها إلا بعدما دسّوا المخدرَ في معصمي، لتمرَّ الربعُ ساعة، في لحظة خاطفة!
المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |