فصل من كتاب من الجنس إلى أعلى مراحل الوعي / للهندي أوشو ترجمة
2009-04-08
ما هو الحب؟
من السهل أن تشعر بالحب، أمّا أن تعرّفه فذلك صعب بالفعل. لو سألت سمكة: ماذا يشبه البحر؟ فستجيبك: "هذا هو البحر.. إنه في كل مكان، وهذا كل شيء". ولكن إذا ألححت على السؤال: "من فضلكِ عرّفي البحر" .. عندئذٍ تصبح المشكلة أصعب بكثير. ذلك أن أروع الأشياء وأجملها في الحياة هي التي يمكن أن تُعاش، والتي يمكن معرفتها، ولكن من الصعب وصفها، ومن الصعب تعريفها.
إن تعاسة الإنسان تكمن في أنه في الأربعة أو الخمسة آلاف سنة الماضية، قد تَكلّمَ كثيراً عن شيء كان ينبغي أن يعيشه بصورة جدّية، وكان ينبغي أن يدركه من الداخل.. وهو الحب. لقد كانت هناك أحاديث عظيمة عن الحب، كما أُنشِدت له أغاني كثيرة، وتراتيل دينية لا تُعدّ ولا تحصى، لا تزال تنشد في المعابد والكنائس وغيرها.. فما الذي بقي ولم تفعله البشرية باسم الحب؟.. في الحقيقة، لم يعد للحب مكان في حياة الإنسان. وإذا فتّشنا عميقاً في لغات البشرية فلن نجد كلمة أكثر زيفاً من كلمة "حُب". فكل الأديان تُواصلُ الحديث عن الحب، لكنّ نوع الحب الموجود في كل مكان، ذلك الحب الذي غلّف الإنسان بالوراثة، نجح هذا النوع من الحب للأسف في سد كل منافذ الحب الحقيقي في حياة الإنسان. والغريب أن عامة الناس تعبد رجال الدين على أنهم آلهة الحب. في حين أنهم هم الذين زيّفوا الحب وأعاقوا كل مجاريه من التدفق.
وفي هذا لا يوجد فرق جوهري بين الشرق والغرب، بين الهند أو أمريكا. فجداول الحب في الإنسان لم تظهر على السطح بعد. ونحن نعزو ذلك للإنسان نفسه حين نقول أنه بسبب فساد الإنسان لم يتطوّر الحب، وبأنه ليس هناك مجرىً للحب في حياتنا. كما أننا ننحي باللائمة على العقل فنقول أن العقل سامّ. وهؤلاء هم الذين حطّوا من قدر العقل وهم الذين سمموا الحب؛ ولم يسمحوا له بالنمو. غير أنه في الحقيقة لا شيء سامّ في هذا العالم. لا شيء سيّئ في كامل خلق الله، فكل خلقه رحيق. والإنسان وحده هو من حوّل هذا الكأس الممتلئ بالرحيق إلى سمّ. والمذنبون الرئيسيون هم من يسمّون بالأساتذة، ومن يسمّون بالرجال الأتقياء، والقدّيسين، والسياسيين.
فكّروا في هذا الكلام مليّاً. لأنه إذا لم يتم استيعاب وفهم هذه العلل في الحال، وإذا لم يتم تصحيحها.. فليست هناك إمكانية.. لا الآن ولا في المستقبل.. لوجود الحب في حياة الإنسان.
والأمر المثير للسخرية، هو أننا قبلنا أسباب هذه العلل بصورة عمياء، في المقام الأول، من المصادر نفسها التي تنحي باللائمة على الحب الذي لا يبزغ فجره على أفق الإنسانية. فإذا استمرّت مبادئ الخداع التي ما انفكّت تتكرر ويعاد تكرارها منذ قرون، سنفشل في رؤية المغالطات الأساسية التي تتلظّى خلف المبادئ الأصلية، وبعدها تسود الفوضى، ذلك أن الإنسان غير قادر بالسليقة على أن يتكوّن وفق ما تنصّ عليه هذه القوانين، وقد قبلنا ببساطة أن الإنسان خاطئ.
في قديم الزمان، اعتاد بائع متجوّل، يبيع مراوح يدوية، على المرور كل يوم من أمام قصر الملك. وهذا البائع اعتاد أيضاً على التفاخر بالمراوح المدهشة التي يبيعها، والتي يزعم أنه لم يرَ أحد مثلها من قبل.
وكان لدى الملك مجموعة من كل أنواع المراوح من كافة أنحاء العالم، لهذا انتابه الفضول. وذات يوم وقف على شرفة قصره ليلقي نظرة على هذا البائع، وعلى هذه المراوح العجيبة. فبدت له هذه المراوح عادية، فهي بالكاد تساوي فلساً واحداً. وعلى أية حال، فقد نادى الملك الرجل من شرفة قصره وسأله: "بماذا تتميّز هذه المراوح عن غيرها، وما هو ثمنها؟"
فأجاب البائع: "إنها لا تكلّف الكثير بالنسبة لجلالتك. ونظراً لنوعية هذه المراوح، فإن ثمنها رخيص جدّاً: مئة روبية للمروحة الواحدة".
فدهش الملك: "مئة روبية! هذه المروحة التي تساوي فلساً والمتوفرة في أي مكان من السوق، تطلب فيها مئة روبية؟ ما هو المميز جداً في هذه المراوح؟"
فقال البائع: "جودتها! فكل مروحة منها مكفولة لمئة عام. بل لن تتلف حتى في مئة عام".
فقال الملك: "يبدو من شكلها: استحالة أن تصمد حتى لنهاية الأسبوع، فهل تحاول خداعي؟ أليس هذا احتيالاً صريحاً؟ ومع الملك أيضاً؟"
فأجاب البائع: "مولاي، هل أجرؤ على خداعك؟ أنت تعرف جيداً يا سيدي أني أمرّ من تحت شرفة قصرك يوميّاً لأبيع مراوحي. إن ثمن المروحة مئة روبية، وأنا مسؤول عنها لمدة مئة عام.
إنني موجود يوميّاً في الشارع، وعلاوة على ذلك، أنت حاكم هذه البلاد، فكيف أنجو بنفسي إذا خدعتك؟".
تمّ شراء المروحة بالسعر المطلوب. ورغم أن الملك لم يثق بالبائع المتجوّل، إلاّ أن الفضول كاد يقتله لمعرفة ما الذي استند عليه الرجل لكي يقول ما قاله. فأمر البائع بأن يحضر مجدداً في اليوم السابع.
خرج المحور الذي يثبت المروحة عن مكانه في ثلاثة أيام، بعد ذلك تحطمت قبل نهاية الأسبوع.
كان الملك متأكداً من أن بائع المراوح لن يعود أبداً، غير أن الملك دهش تماماً عندما حضر البائع مجدداً في اليوم السابع.
"أنا في خدمتك يا مولاي"
كان الملك غاضباً. فقال للبائع: "إنك نذل مخادع! انظر إلى مروحتك المرمية هناك، لقد تحطمت إلى أجزاء. وكان الشرط أن تبقى سليمة لمدة أسبوع، وأنت كفِلتها لمئة عام على الأقل! فهل أنت مجنون، أم أنك مخادع من الطراز الأول؟"
أجاب الرجل بتواضع: "مع كل احترامي، يبدو أن مولاي لا يعرف كيف يستخدمها، فالمروحة يجب أن تدوم لمئة عام؛ إنها مكفولة. إذن كيف كنت تًهوّي بها؟"
أجاب الملك: "يا إلهي، عليّ الآن أن أتعلم أيضاً كيف أقوم بالتهوية ".
قال الرجل: "أرجوك لا تغضب، وأخبرني كيف آلت المروحة إلى هذه النهاية في سبعة أيام فقط؟ كيف كنت تهوّي؟..
فرفع الملك المروحة، مظهراً الطريقة التي يهوّي بها المرء.
فقال الرجل: "الآن فهمت. إذ لا ينبغي أن تهوّي بتلك الطريقة".
فسأله الملك: "هل هناك طريقة أخرى؟".
فأخذ الرجل يشرح له قائلاً: "أبق المروحة ثابتة، أبقها ثابتة أمام وجهك، بعد ذلك حرّك رأسك يميناً ويساراً، وسوف تدوم المروحة مئة عام. سوف تموت أنت.. أمّا هي فستبقى سليمة. لا عيب في المروحة، لكن طريقتك في التهوية خاطئة. أبقِ المروحة ثابتة ثم حرّك رأسك. فأين العيب في مروحتي إذن؟ إن العيب فيك وليس في مروحتي".
إن الإنسانية متهمَة بعيب مشابه. انظر إليها. لقد أصبح الإنسان مريضاً جدّاً، مريضاً بعلل تراكمت منذ خمسة، أو ستة، أو عشرة آلاف سنة. ومع ذلك يقال: إن الإنسان هو الخاطئ، وليس الثقافة. والحقيقة: هي أن الإنسان متعفّن، ورغم ذلك تُمتدَحُ الثقافة: يا لدِيننا العظيم! ويا لثقافتنا الغرّاء! ولكن، فلننظر إلى ثمارها.
يقولون: "الإنسان خاطئ؛ على الإنسان أن يغيّر نفسه". وفي الحقيقة، لم يتنطّح أحد إلى الآن كي يتساءل عمّا إذا كانت المسألة ليست على هذا النحو، بل إن الإنسان خاطئ بسبب ثقافتنا وديننا، اللذَين لم يستطيعا بعد عشرة آلاف سنة أن يملأا الإنسان بالمحبّة، وذلك لأن ثقافتنا ومعتقداتنا ترتكز على قيم زائفة. فإذا لم يتطور الحب في العشرة آلاف سنة الأخيرة: -خذها مني- لن تكون هناك إمكانية لوجود مستقبل يرتكز على هذه الثقافة وعلى هذا الدين، أو لأن ترى إنساناً محبّاً. فالشيء الذي لم يتحقق في العشرة آلاف سنة الماضية، لا يمكن أن يتحقق في العشرة آلاف سنة القادمة. إن إنسان اليوم سيكون نفسه غداً. وبالرغم من أن الأغلفة الخارجية لآداب التعامل والحضارة والتكنولوجيا تتغيّر من زمن إلى زمن، إلاّ أن الإنسان بقي على حاله، وسيبقى على حاله إلى الأبد.
والحقيقة أننا لسنا على استعداد لأن نعيد النظر في ثقافتنا وديننا، فما زلنا نمتدحها بأعلى صوتنا، وما زلنا نقبّل أقدام كهنة أدياننا، وأقدام القائمين عليها. بل إننا لا نقبل حتى بإلقاء نظرة عليها، أو تفحّص طرائقنا، أو منحى تفكيرنا، أو ننظر فيما إذا كانت مضللِة، أو فيما إذا كانت خاطئة برمّتها.
ما أريد قوله: هو أن الأساس هشٌ، وأن القيم زائفة. وما الدليل على هذا سوى إنسان اليوم، فأيّ دليل أهم من ذلك؟
إذا زرعنا بذرة، وكانت الثمرة مُرّة وسامة، فعلام يدل ذلك؟ إنه يدل على أن البذرة لابد وأنها كانت بذرة سامة ومرّة. غير أنه من الصعب، بطبيعة الحال، أن نتنبّأ فيما إذا كانت بذرة معيّنة ستعطي ثمرة مرّة، أم حلوة. ربما تنظر إليها بإمعان، وقد تعصرها، أو تسحقها، لكنك لا تستطيع التنبّؤ بصورة مؤكّدة بأنها ستكون ثمرة حلوة، أم مرّة. عليك إذن أن تنتظر محكّ الزمن.
إن زرعت بذرة، فسوف تنبت، وستمضي السنوات.. والشجرة ستكبر، وتمتدّ أغصانها نحو السماء، وستحمل الثمر؛ آنذاك فقط، ستعرف ما إذا كانت تلك البذرة التي زرعتها حلوة، أو مرّة. فالإنسان العصري هو ثمرة بذور تلك الثقافة وتلك الأديان التي زُرِعَت منذ عشرة آلاف سنة، والتي تربّى عليها منذ ذلك الحين. فهاهي الثمرة مرّة، كما أنها مليئة بالتناقض والتعاسة.
لكننا نحن الذين نمتدح تلك البذور ومن ثم نتوقع منها أن تُزهر بالحُب.
أكرر: إنها لن تُزهر بالحُب، لأن الدين عمل على تسميم وقتل كل إمكانية لولادة الحُب. إذ يمكن أن نرى الحُب لدى الطيور والحيوانات والنباتات أكثر مما لدى الإنسان بكثير. تلك الكائنات التي ليس لديها دين، ولا ثقافة. إن الحُب يَظهر جليّاً عند الشخص غير المتحضّر، وعند إنسان الغاب المتخلّف أكثر مما هو موجود لدى ما يسمّى بتقدّميي، ومثقفي، ومتحضّري هذه الأيام. وتذكّرْ بأن البشر البدائيين لم يبتكروا أية حضارة، أو أية ثقافة، أو دين.
فلماذا أصبح الإنسان تدريجياً أكثر افتقاراً للحب، في حين يصرّح بأنه أصبح أكثر تحضّراً وثقافة وتديّناً، ويذهب إلى دور العبادة بانتظام؟ في الحقيقة، هناك بضعة أسباب أرغب في مناقشتها؛ وإذا أمكن فهم تلك الأسباب، يمكن لجدول الحب الخالد أن يبدأ بالتدفّق؛ لكنه مطمور داخل الأحجار ولا يمكنه أن يظهر. فهو مطوّقٌ من كل الجوانب، ونهر الغانج هذا لا يمكنه التدفّق في هذه الحالة.. ولا يمكنه الجريان بحرّية.
إن الحب موجود ضمن الإنسان، ولا يمكن استحضاره من الخارج، وهو ليس سلعة نشتريها عندما نذهب إلى الأسواق. إنه موجود كرائحة الحياة. موجود في داخل كل شخص. إن البحث عن الحب والسعي لكسبه، ليس عملاً إيجابيّاً؛ وليس فعلاً صريحاً حيث يتوجّب عليك أن تذهب إلى مكان ما وتجلبه.
كان نحات يقوم بنحت صخرة. لكنّ أحد الذين جاءوا لمشاهدة كيفية صنع التمثال، لم ير أي شيء يدل على وجود تمثال، بل شاهد أحجاراً مقطّعة، ومرمية هنا وهناك.
سأله الرجل: "ماذا تفعل؟" ألن تصنع تمثالاً؟ لقد جئتُ لأرى كيف يُصنع التمثال، لكني لا أرى سوى أنك تقطّع حجراً."
فقال النحّات: "إن التمثال يختفي أصلاً داخل الحجر، ولا حاجة لصنعه. ولكن على أية حال، ينبغي إزالة الأشياء الزائدة عنه، عندئذٍ سيُظهِر التمثال نفسه. إن التمثال لا يُصنعُ، بل يًكتَشَف. يتم كشف الغطاء عنه لكي يرى الضوء".
وبالمثل، فإن الحب مُحتجزٌ داخل الإنسان؛ ويحتاج فقط لأن يُطلق سراحه. والمسألة ليست في كيفية خلقه، بل في كيفية الكشف عنه. والسؤال هو: ما الذي غطّينا أنفسنا به؟ ما الذي يمنع الحب من الظهور؟
حاوِل أن تسأل طبيباً: ما هي الصحة؟ إنه في الحقيقة سؤال غريب جداً، إذ لا يوجد طبيب في العالم يستطيع أن يقول لك ما هي الصحة! ولا يوجد من بين جميع المهتمّين بعلم الطب شخصٌ بمقدوره أن يقول لك ما هي الصحة. فإن سألت طبيباً، سيقول لك ما هي الأمراض، أو ما هي الأعراض. وقد يَعرِف المصطلح الطبي لكل علة ومرض، وربما يكون قادراً أيضاً على وصف العلاج، لكنه لا يعرف أي شيء عن الصحة وما يتعلّق بها. إذ يمكنه أن يقرر فقط أن الذي يبقى -عندما لا يكون هناك مرض- هو الصحة. ذلك أن الصحة تتوارى داخل المرء. فالصحة إذن تتجاوز تعريف الإنسان.
إن المرض يأتي من الخارج، وبناء على هذا يمكن تعريفه. أما الصحة فتنبع من داخل الإنسان، وبالتالي لا يمكن تعريفها. فالصحة عصيّة على التعريف. ويمكننا القول فقط بأن غياب المرض هو الصحة. أما الحقيقة فهي أننا لا يجب أن نخلق الصحة؛ فهي إمّا أن تتوارى بسبب المرض، أو تكشف نفسها عندما يذهب المرض أو عندما يُعالَج. فالصحة إذن هي في داخلنا. الصحة هي طبيعتنا.
والحب أيضاً في داخلنا؛ وهو طبيعتنا المتأصّلة فينا. ومن الخطأ أساساً أن نطلب من شخص أن يخلق الحب. فالمشكلة ليست في خلق الحب، بل في كيفية التحري والكشف عن سبب عدم مقدرة الحب على إظهار نفسه؟ وما هي العقبة؟ ما هي الصعوبة؟ وأين هو السدّ الذي يعيقه؟
إذا لم تكن هناك حواجز فسيُظهِر الحب نفسه، ولا حاجة إلى إرشاده أو حثه على الظهور. فكل شخص سيمتلئ بالحب إذا لم تكن هناك حواجز أو ثقافة زائفة أو تقاليد مؤذية أو ما يحط مِنْ قدره. لا يمكن لشيء أن يُخمدَ الحب، فهو شيء حتمي وهو طبيعتنا.
إن نهر الغانج يتدفّق من جبال الهملايا. إنه مياه تتدفق ببساطة.. وهو لا يسأل الكاهن عن الطريق إلى المحيط. فهل شاهدت نهراً يتوقّف عند تقاطع طرق ليسأل شرطيّاً عن مكان المحيط؟ إذن مهما كان المحيط بعيداً، ومهما كان محجوباً فسيجد النهر طريقه بالتأكيد. وذلك أمر حتمي: فلديه حافزاً داخلياً وليس كتاباً يسترشد به، غير أنه سيصل إلى هدفه بطريقة لا تخطئ. سوف يشق طريقه خلال الجبال، ويعبر السهول، ويجتاز الأقطار في جريانه ليصل إلى المحيط. ففي صميم قلبه تتواجد القوّة والطاقة والرغبة العارمة.
ولكن لنفترض بأن عوائقَ وضعت في طريقه من قبل الإنسان؟ لنفترض وجود سدود بناها الإنسان؟ فمما لا شك فيه أن النهر يستطيع التغلّب على الحواجز الطبيعية واختراقها.. والتي هي في المحصّلة ليست حواجز على الإطلاق.. ولكن إذا تم خلق حواجز صناعية، أو إذا بنيت السدود في وجهه، فمن الممكن أن لا يصل النهر إلى المحيط. فالإنسان، وهو الذكاء الأسمى للخليقة، يستطيع منع النهر من الوصول إلى المحيط إذا قرر القيام بذلك. هناك إذن وحدة جوهرية في الطبيعة، وهناك تناسق. فالعوائق الطبيعية والمعاكسات الظاهرة في الطبيعة، هي تحدّيات لاستثارة الطاقة. وهذه العوائق والمعاكسات تعمل كنفير يستثير ما يكمن في الداخل، وبالتالي لا يوجد في الطبيعة أي تنافر.
عندما نزرع بذرة، فقد يبدو الأمر كما لو أن طبقة التربة تدفعها نحو الأسفل لكي تعيق نموّها. ربما يبدو الأمر كذلك، ولكن في الحقيقة، تلك الطبقة من التربة ليست عائقاً؛ لأنه من دون تلك الأرض لا يمكن للبذرة أن تنمو. إن التربة تضغط فوق البذرة حتى تتمكن من النمو، فتتفكك وتحول نفسها إلى شتلة. ظاهريّاً، قد يبدو الأمر كما لو أن التربة تخنق البذرة، لكنّ التربة تؤدّي واجب الصديق فحسب. إنها عملية سريرية؛ فإذا لم تتحول البذرة إلى نبتة، فسنعزو السبب إلى أن التربة ربما لم تكن ملائمة، أو أن البذرة لم تحصل على ما يكفي من الماء، أو أنها لم تحصل على ضوء الشمس بصورة كافية.. ولن نلقي اللوم على البذرة.
وإذا لم تتفتح الأزهار في حياة الإنسان، نقول: إن الإنسان نفسه هو المسؤول عن ذلك، إذ لا أحد يفكر في السماد على الأقل، أو في نقص الماء أو نقص في ضوء الشمس لكي يقوم بفعل شيء حيال ذلك، فالإنسان نفسه متهم بالفساد. وهكذا تبقى نبتة الإنسان غير متطوّرة، فقد قمعت بالعداوة: فكانت غير قادرة على بلوغ مرحلة الإزهار.
إن الطبيعة هي تناغم إيقاعي، لكن العامل الاصطناعي الذي فرضه الإنسان على الطبيعة، والأشياء التي صممها في وجه الطبيعة، والآلات المبتكرة التي رمى بها في مجرى نهر الحياة، قد أحدثت تعارضات في أماكن كثيرة فأوقفت التدفّق؛ فكان النهر هو المتهّم: أي أن "الإنسان سيء، بمعنى أن البذرة سامة".. كما يقولون.
أريد لفت انتباهكم إلى حقيقة أن العوائق الأساسية هي عوائق مصطنعة أوجدها الإنسان نفسه.. وإلاّ لتدفق نهر الحُب بحرّية وبلغ محيط الله. إن الحب صفة متأصّلة في الإنسان، فإذا أزيلت العوائق بوعي، يمكن للحب أن يتدفّق. آنذاك يمكن للحب أن يرتفع ليلامس الله، ليلامس الأسمى.
فما هي تلك الحواجز المصطنعة؟
إن أبرز عقبة كانت معارضة الجنس والعاطفة، وهذا الحاجز حطّم إمكانية ولادة الحب في الإنسان.
والحقيقة أن الجنس ببساطة هو نقطة البداية للحب. الجنس هو بداية الرحلة إلى الحب. إن منبع نهر غانج الحب هو الجنس، والعاطفة.. بينما الجميع يتصرّفون كأعداء له.
فجميع الثقافات والأديان والمعلّمين والعرّافين قد هاجموا هذا النبع.. هذا المصدر، وبقي النهر في الأعلى معبأ في قوارير زجاجية، فكان الاستنكار والصراخ دائماً: الجنس خطيئة، الجنس كُفْر، الجنس سُم، ولكن لا يبدو أننا سندرك بأن الجنس بالمطلق هو طاقة بحد ذاته تسافر لكي تصل إلى المحيط الداخلي للحب. فالحب هو تحول لطاقة الجنس، وازدهار الحب ينبثق من بذور الجنس.
انظر إلى الفحم، لن يخطر في ذهنك أن الفحم عندما يتحول يصبح ماساً. إن العناصر الموجودة في قطعة الفحم هي نفسها الموجودة في ماسة، إذ لا يوجد بينهما فرق جوهري، فبعد المرور بعملية تستغرق آلاف السنين يصبح الفحم ألماساً.
لكن الفحم لا يُعتبَر شيئاً مهمّاً، فعندما يتم حفظ الفحم داخل المنزل فإنه يُخزّنُ في مكان بحيث لا يراه الضيوف، بينما يلتف الماس حول الرقبة، أو يوضع على الصدر بحيث يراه الجميع. إن الفحم والماس هما الشيء ذاته: هما نقطتان على رحلة العنصر ذاته. فإذا كنت ضد الفحم لأنه ليس لديه شيء يقدّمه من النظرة الأولى أكثر من السخام الأسود، فإن إمكانية تحوّله إلى ألماس تنتهي تماماً عند هذا الحد. إن الفحم ذاته كان يمكن أن يتحوّل إلى ألماس. لكننا نكره الفحم، وبالتالي تنتهي أي إمكانية للتقدّم.
إن طاقة الجنس وحدها يمكن أن تتحول إلى حب، غير أن الجميع يعارضون الجنس، بمن فيهم مفكّري البشرية العظماء. وهذه المعارضة لن تسمح للبذور بأن تنبت، فقصر الحب يُدَمّرُ من الأساس.
إن العداوة تجاه الجنس قد دمّرت إمكانية الحب. فالفحم لهذا السبب غير قادر على أن يصبح ألماساً.
وبسبب المفاهيم الأساسية الخاطئة، لا أحد يشعر بضرورة المرور بمراحل الاعتراف بالجنس وتطويره، وبضرورة المرور في عملية تحوّله. فكيف نحوّله إذن ونحن أعداء له؟ كيف نحوّله ونحن نعارضه؟ كيف نحوّله ونحن نواصل الحرب ضدّه؟ لقد أُرغِمَ الإنسان على إحداث نزاع بينه وبين طاقته. كما لُقّن كيف يحارب طاقته الجنسية، وكيف يعارض دوافعه الجنسية. فقد قيل له: "إن الفكر سام، فحاربه". والحقيقة أن الفكر موجود في الإنسان، وكذلك الجنس.. ومع ذلك فما زال الإنسان يتوقّع أن يكون خالياً من النزاعات الداخلية، متوقعاً لنفسه كينونة متناغمة.
كما أن عليه أن يحارب ويسالم أيضاً. هذه إذن أساليب زعمائه؛ يقودونه نحو الجنون من جهة، ويفتتحون المصحات لمعالجته من جهة أخرى. ينشرون الجراثيم، وبعد ذلك يبنون المستشفيات للعناية بالمرضى.
ثمة فكرة أخرى مهمة وهي أن الإنسان لا يمكنه الانفصال عن الجنس، ذلك أن الجنس هو أولويته الرئيسية؛ فالإنسان وليد الجنس، وقد جعل الله طاقة الجنس نقطة بداية الخلق. أما أولئك العظماء فاعتبروها خطيئة، في حين أن الله ذاته لم يعتبرها خطيئة!
ألم تدرك أن تفتّح زهرة هو تعبير عن عاطفة، وأنه فعل جنسي؟ إن الطاووس يرقص بأبّهة كاملة، والشاعر يتغنّى به؛ والقدّيس أيضاً يمتلئ منه فرحاً.. وبالتالي ألا يدركون أن الرقص هو تعبير علني عن العاطفة، وأنه فعل جنسي أصلاً؟ لمن يرقص الطاووس مبتهجاً؟ إنه ينادي محبوبته، ينادي زوجته. وكذلك يغني طير الوقواق أغنيته. إن الولد يصبح مراهقاً، والبنت تصبح امرأة. فلِمَ كل هذا؟ ما هذه اللعبة؟ إن كل هذه الأشياء هي مؤشرات الحب، مؤشرات الطاقة الجنسية. وتعبيرات الحب هذه، ما هي إلاّ تعبيرات جنسية متحوّلة.. تفور بالطاقة، ومعترفة بالجنس. وطوال حياة الإنسان، فإن كل أفعال الحب، وكل مواقفه ودوافع الحب لديه، تزدهر من طاقة الجنس الأولية.
إن الدين والثقافة يسمّمان الجنس في عقل الإنسان. يخلقان النزاع والحرب. يزجّان بالإنسان في معركة ضد طاقاته البدائية.. وبالتالي أصبح الإنسان ضعيفاً، وأصبح منفّراً وفظّاً، خالياً من المحبة ومليئاً بالتفاهة. فلا ينبغي إذن أن نخلق عداوة مع الجنس، بل صداقة. يجب أن يرتقي الجنس إلى أسمى حالات النقاء.
أثناء مباركته لزوجين حديثين، قال الحكيم للعروس "أتمنى أن تصبحي أماً لعشرة أطفال، وأخيراً: أتمنى أن يكون زوجك هو الطفل الحادي عشر".
إذا تحوّلت العاطفة، يمكن أن تصبح الزوجة أماً؛ وإذا تحوّلت الرغبة، يتحول الجنس إلى حب.
وحدها طاقة الجنس يمكن أن تتحول إلى طاقة للحب؛ غير أننا ملأنا الإنسان بالعداوة نحو الجنس، فكانت النتيجة أن الحب لم ينمو. ولكن ما سيأتي لاحقاً، أي الشكل البديل القادم، هو أنه بمقدورنا خلق إمكانية نمو الحب وذلك فقط من خلال قبول الجنس. إن جدول الحب لا يمكن أن يشقّ طريقه بسبب المعارضة القوية له. وفي حين يواصل الجنس من جهة أخرى الاضطراب في الداخل فقد اختلط وعي الإنسان بالرغبة الجنسية.
إن وعي الإنسان أصبح أكثر جنسوية. أما أغانينا وقصائدنا ورسوماتنا، وفعليّاً، كل ألأشكال في معابدنا تتمحور حول الجنس. في حين أنه لا يوجد في العالم حيوان شهواني كالإنسان. فالإنسان شهواني في أي وضع كان.. مستيقظاً كان أم نائماً، في أساليبه كما في سلوكه. يطارده شبح الجنس في كل لحظة.
وبسبب هذه العدائية تجاه الجنس، وبسبب هذه المعارضة، وهذا القمع للجنس، أصبح الإنسان فاسداً من الداخل. فلا يمكنه أن يحرر نفسه من شيء متجذّر في حياته، وبسبب هذا الصراع الداخلي المستمر أصبح كيانه بالكامل كياناً عصابيّاً. فهو إذن إنسان مريض. وهذا النشاط المفسد والواضح جدّاً في الجنس البشري هو خطأ ما يسمّى بزعمائه وقدّيسيه، وهم من يقع اللوم عليهم. فإذا لم يحرر الإنسان نفسه من مثل هؤلاء المعلّمين، والواعظين، وزعماء الدين، ومن عظاتهم المزيفة.. فإن احتمال ظهور الحب هو احتمال معدوم.
أتذكّر حكاية تقول:
بينما كان مزارع فقير على وشك مغادرة منزله في عطلة الأحد، التقى عند مدخل المنزل بصديق طفولته الذي جاء لرؤيته.
فقال له المزارع: "أهلاً وسهلاً! ولكن أين كنت طوال هذه السنوات؟ تفضّل! ولكن مهلاً، لقد وعدت بأن أرى بعض الأصدقاء، وسيكون من الصعب تأجيل الزيارة، فأرجو أن تمكث في منزلي وسأعود في نحو ساعة تقريباً. سوف أعود قريباً، ويمكننا عندئذٍ أن ندردش طويلاً".
فقال الصديق: "أوه كلا، أليس من الأفضل أن أذهب معك، رغم أن ملابسي متسخة جدّاً؟ إذا أمكنك أن تعطيني الآن بعض الثياب الجديدة، فسأستبدل ثيابي بها، وأذهب معك".
وكان الملك في وقت سابق قد أعطى المزارع بعض الملابس الثمينة، فاحتفظ بها المزارع لمناسبة فخمة، فأخرجها من الخزانة بفرح، وارتدى صديقه المعطف الثمين والقبّعة والمئزر والحذاء الجميل، فبدا كالملك ذاته. شعر المزارع بالغيرة قليلاً وهو ينظر إلى صديقه، فقد بدا مثل الشحّاذ مقارنة به. وأخذ يتساءل فيما إذا كان قد ارتكب خطأً، فقد تبرّع بأفضل ثيابه، وبدأ يشعر بالدونية. ففكر في قرارة نفسه: الآن سوف ينظر الجميع إلى صديقه، وسيبدو هو مثل المرافق أو الخادم.
حاول أن يهدّئ عقله معتبراً نفسه صديقاً جيّداً ورجلاً تقيّاً. وسيفكر في الله وفي الأشياء النبيلة فقط، ثم قرر أنه: "في المحصّلة، ما أهمية معطف ناعم أو قبّعة ثمينة؟" بيد أنه كلما حاول إقناع نفسه بذلك، كلما خطر على باله المعطف والقبّعة.
وفي الطريق، ورغم أنهما كانا يسيران معاً، فقد كان المارّون ينظرون إلى صديقه فقط، ولم ينظر أحد إلى المزارع قط. فبدأ يشعر بالكآبة. تجاذب أطراف الحديث مع صديقه، لكنه في قرارة نفسه لم يكن يفكر سوى بالمعطف والقبّعة!
وصلا إلى المنزل الذي كانا يعتزمان زيارته، فقدّم صديقه قائلاً: هذا صديقي، صديق الطفولة، إنه رجل وسيم جدّاً. ثم فجأة أفلتت منه عبارة: "أما الملابس فهي لي!!"
فذهل الصديق. وكان مضيفوهم مدهوشين أيضاً. فأدرك بدوره أنه لم يكن من داعٍ لذلك التعليق، غير أن ذلك الإدراك جاء متأخراً جداً، فندم على زلة لسانه ووبخ نفسه ضمنيّاً.
وعندما خرجا من المنزل، اعتذر لصديقه.
فقال الصديق: "كنت مذهولاً، فكيف أمكنك قول شيء كهذا؟"
فأجاب المزارع: "آسف، لقد زل لساني، لقد أخطأت".
غير أن اللسان لا يكذب أبداً، فالكلمات تندفع من فم المرء إذا كان هناك شيء ما في ذهنه؛ واللسان لا يرتكب أخطاءً أبداً.
فقال: "سامحني، لا أعلم كيف تلفّظت بمثل هذا". بيد أنه يعرف حق المعرفة بأن الفكرة صعدت من عقله.
ثم شرعا بزيارة منزل صديق آخر، وقد أصر الآن على ألا يقول أن الملابس كانت ملكه؛ وصلَّب عقله بإحكام. وبينما وصلا إلى بوابة المنزل، كانا قد توصّلا إلى قرار غير قابل للنقض بأن لا يقول إن الملابس مُلكه.
لم يدرك هذا الرجل الفقير أنه كلما أصر على أن لا يقول أي شيء، كلما غرس في وعيه الباطني بإحكام أن الملابس تخصّه. علاوة على ذلك، لننظر متى تُتّخذ مثل هذه القرارات الحازمة؟ عندما يتّخذ المرء قراراً حازماً مثل التعهّد بالعزوبة على سبيل المثال، فهذا يعني أن نشاطه الجنسي سيندفع من الداخل بإلحاح شديد. أو إذا أصر شخص على أن يأكل أقل، أو أن يصوم بدءاً من اليوم فصاعداً، فهذا يدل على أن لديه رغبة عميقة في المزيد من الأكل. والحقيقة أن مثل هذه الجهود تتسبب حتماً بحدوث نزاع داخلي؛ إذ من نحن سوى عيوبنا. غير أننا نقرر السيطرة عليها، ونصر على محاربتها.. وبالطبع سيتحوّل هذا الأمر إلى مصدر نزاع لاشعوري.
وهكذا انغمس مزارعنا في نزاع داخلي. ثم دخل إلى المنزل، وأخذ يقول لنفسه بحرص شديد: "إنه صديقي". لكنه لاحظ أن أحداً لا يعيره أي انتباه، وأن الجميع كانوا ينظرون إلى صديقه، وإلى ملابسه برهبة، فعادت الفكرة تقرع رأسه مجدداً: "إنه معطفي! إنها قبّعتي!" غير أنه ذكّر نفسه من جديد بأن لا يتحدث عن الثياب. وكان مصمّماً. وقال موضّحاً لنفسه: "إن كل إنسان لديه ثيابٌ بشكل أو بآخر، غنياً كان أم فقيراً، وإنها لمسألة تافهة". لكن الملابس تأرجحت أمام عينيه كالبندول ذهاباً وإياباً، ذهاباً وإياباً. ثم استأنف التعريف بصديقه من جديد: "إنه صديقي. صديق الطفولة. وهو شخص جيّد جداً، أما تلك الملابس.. فهي ملكه، وليست لي".
وكانت دهشة الحاضرين كبيرة، ذلك لأنهم لم يسمعوا من قبل بمثل هذه الطريقة في التعريف: "الملابس ملكه وليست لي"!
بعد أن غادرا المنزل، اعتذر مجدداً بشدّة: "أيُّ حماقةٍ هذه؟". وكان الآن مرتبكاً حول ما ينبغي أو ما لا ينبغي فعله. "لم تكن الملابس تسيطر عليَّ بهذا الشكل من قبل! يا إلهي، ما الذي حصل لي؟"
ماذا حصل له؟ الآن كان الصديق مستاءً جداً، وقال إنه لن يذهب معه إلى أي مكان آخر، فأمسك المزارع بذراعه قائلاً: "أرجوك لا تفعل ذلك. سأكون حزيناً لبقية حياتي بعد أن أبديت ذلك السلوك السيئ تجاه صديقي، أقسم لك أنني لن أذكر الثياب مرّة أخرى. أقسم بالله من كل قلبي بأني لن أذكر الثياب بعد الآن".
غير أن المرء يجب أن يكون حذراً من هؤلاء الذين يقسمون، ذلك لأن هناك شيئاً أكثر تعقيداً يحدث عندما يصر الإنسان على شيء ما، فالقرار يُتّخذ بواسطة الفكر الظاهري، وبالتالي فإن الشيء الذي يعارض القرار المتّخذ سيبقى داخل متاهات العقل الباطن. فإذا قسّمنا العقل إلى عشرة أجزاء، في حين أنه قسم واحد فقط، فإن الجزء العلوي فقط هو الذي سيلتزم بالقرار؛ أما الأجزاء التسعة الباقية فستكون ضدّه. وعلى سبيل المثال: فإن عهود العزوبة تتخذ بجزء واحد فقط من العقل، وفي حين يكون العقل مهتاجاً لأجل الجنس.. فإن باقي الأجزاء تبكي لأجل ذلك الشيء بالذات، الشيء الذي زرعه الله في الإنسان، ولكن حاليّا ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن الآن.
ثم ذهبوا إلى منزل صديق آخر، فكبت المزارع نفسه بصرامة؛ والناس المكبوتون خطرون جدّاً، لأن في داخلهم بركان يغلي. تراهم في الظاهر صارمين وممتلئين بضبط النفس، في حين أن رغباتهم التي تريد الانطلاق.. تكون ملجومة بإحكام في الداخل.
ولكن تذكّر من فضلك: أن أي شيء يحصل قسرياً، فإنه لن يستمر ولن يكتمل. عليك أن تسترخي أحياناً.. عليك أن تستريح، فإلى متى يمكنك أن تبقي قبضتك مشدودة؟ أربعاً وعشرين ساعة؟ إنك كلما شددت قبضتك أكثر، كلما تعبت أكثر، وبالتالي كلما سارعت أكثر إلى فتحها. وكلما كان العمل أصعب، كلما أنفقت طاقة أكثر، وبالتالي ستتعب بسرعة أكبر. إذن، دائماً هناك ردّة فعل، وهي دائماً تحصل بسرعة. فقبضة يدك يمكن أن تظل مفتوحة طوال الوقت، لكنها لا يمكن أن تظل دائماً مطبِقة بشدة. إن أي شيء يسبب لك التعب لا يمكن أن يكون جزءاً طبيعياً من الحياة. فعندما تدفع شيئاً ما بقوة، سيتطلب أن تعقبه فترة من الراحة. وهكذا، كلما كان القدّيس أكثر براعة، كلما كان أكثر خطورة. إذ بعد أربع وعشرين ساعة من ضبط النفس، تليها تعاليم الكتب المقدّسة، عليه بعد ذلك أن يستريح لمدة ساعة على الأقل، وخلال هذه الفترة ستتفاقم تلك الآثام المكبوتة ليجد نفسه عندئذٍ وسط الجحيم.
وهكذا، ضبط المزارع نفسه بصرامة كي لا يتحدث عن الثياب. فتخيلوا حالته.
وإذا كنت متديناً، ولو قليلاً، فيمكنك أن تتخيل حالته العقلية. وإذا سبق أن أقسمت أو قطعت عهداً بالرهبنة، أو كبحت نفسك لسبب ديني، فسوف تفهم جيّداً حالته العقلية الجديرة بالشفقة.
بعد ذلك دخلا إلى المنزل التالي. كان المزارع منهكاً، يتصبب عرقاً من رأسه حتى أخمص قدميه. أما صديقه فكان قلقاً أيضاً.
الآن، وفي اللحظة التي كان المزارع يتجمد فيها لشدّة قلقه. لفظ كل كلمة من المقدّمة ببطء وعناية قائلاً: التقيت بصديقي، وهو صديق قديم جدّاً. رجل لطيف جدّاً، وهو.. ثم انهار في لحظة واحدة: فقد أتته دفعة هائلة من الداخل، وأدرك أنه قد انهار تماماً، فقال بصوت جهوري ومن دون تفكير: "أما الملابس.. فاعذروني، لن أقول عنها أي شيء، لأنني أقسمت بأن لا أتفوّه بشيء عنها!"
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |