سلطة الصوت
خاص ألف
2009-04-16
سأعترف أنني منذ مدة لم اعد قادرة على سماعها دائما كما كنت أفعل من قبل،، لم اعد ابحث عن صوتها و أنا متوترة كي استرخي،، او و انا غاضبة فيساعدني صوتها على مسح السواد الذي يبقع روحي ، لم يعد صوتها يسعفني......ليست المشكلة بصوتها الاستثنائي طبعا ، المشكلة بمزاجي أنا و برغباتي و بمحاولاتي الدائمة للتخلص من حالة التأرجح فوق الغيم و التعلق بجدائل السماء خشية أن افقد توازني فأسقط دفعة واحدة ،، هذه الحالة التي كنت أدخلها كلما بدأ صوتها يتسلل بهدوء غريب إلى آخر متنفس لروحي محتلا ما أمكنه من مساحة وعيي و مخترقا بالهدوء الغريب ذاته المنطقة الأخرى ،، أقصد منطقة اللاوعي و الباطن،، غير عابئ بتململي ،، و متجاهلا كل محاولاتي للتحرر من سيطرته على ذائقتي التي كانت ترفض كل ما لا يشبه صوتها أو يذكر به .
شكل صوت فيروز عبر مرحلة طويلة من القرن الماضي وبالنسبة للكثيرين من أجيال مختلفة ،، سلطة أحادية لا تقبل الآخر ولا تعترف به ،،هذه السلطة ترافق ظهورها ، زمنيا فقط ، مع ظهور الأنظمة السياسية الأحادية في الكثير من دول الوطن العربي ،أنظمة وسلطات ترفع شعارات استطاعت التغلغل إلى وجدان الفرد العربي المنحاز إلى كل ما يلبي نزعة القبول و الاتكال و الركون العاطفي و الغرائزي بعيدا عن التحليل العقلي و المعرفي الواعي،، هذا الوجدان تعلق بصوت فيروز بشكل غريزي و تلقائي نادر، متناسيا أن صوتها الاستثنائي كان حاملا لأفكار و قيم روج لها آخرون عبر الشعر و الموسيقا و الحوار المسرحي ،،سلطة صوتها حيدت الروافع له إلى النسق الثاني ،، كانت هي وحدها في النسق الأول ،، عاصي ومنصور في النسق الثاني ،، الآخرون القلائل ممن كتبوا ولحنوا لها في الأنساق الأخرى ،،تماما كما فعلت الأنظمة السياسية العربية في ذلك الوقت،، حيدت كل من ساهم في تشكلها وأزاحته إلى الأنساق المتأخرة واحتلت هي واجهة النسق الأول ،مع فارق مهم جدا ، أن سلطة صوتها كانت سلطة نحو الجمال و نحو الفرح و نحو الحب ، بينما السلطة السياسية كانت سلطة للظلام و الألم و القسوة ،، والمفارقة أن أغلب الخارجين عن هذه الأنظمة و السلطات السياسية و المناهضين لها هم أنفسهم المنقادون لسلطة صوتها إلى درجة التعصب ،، إلى درجة تسفيه وتخوين ومعاداة كل من يتجرأ و يقول أنه لا يريد سماعها ،، هذا الصوت كان وقتها ضد القمع السياسي كونه قادما من الحالة اللبنانية الأكثر تمثيلا لحرية الفرد و حرية قوله وحرية معتقده يومها ،،وضد التخلف المتمثل بالغناء التطريبي المغيب للعقل و المتمثل بالحالة الفنية المصرية،، هذا الصوت كان هو البديل الأكثر شفافية و الأكثر جمالا،، لكن البديل بكل ما وراءه تداعى وانهار ،، ليس كحالة فنية موسيقية وغنائية ،، بل كحالة ذهنية ونفسية و روحية،،البديل المؤسس على الحب كحل وحيد لأزمات الكون تداعى ،، البديل المكون من مزيج التصالح و النوستالجيا و الحلم تداعى ،، البديل المروج لبساطة الحياة ويسرها وعفويتها تداعى،، كان الواقع ضد كل ما يمثله هذا البديل / الصوت /الحالة/ كان ضد الحلم وضد الحنين وضد التصالح وضد الطفولة و أولا كان ضد الحب كقيمة كبرى وشاملة،،كان الواقع أكثر شراسة من أن يغيره صوت استثنائي كصوت فيروز ترفعه عبقرية استثنائية كتلك التي لعاصي و منصور الرحباني ،، البديل تداعى أولا كحالة خاصة حين انفصل الصوت عن روافعه وتشتتت الحالة الرحبانية الفيروزية ،، و تداعى كحالة عامة حين سقط الوطن /الحلم في وحل التعصب و الحقد العقائدي الطائفي و الحزبي و بدأت آلة القتل بالفتك لمجرد الاختلاف ،، و تداعى كحالة حاضنة للأجيال القادمة حين تمرد الابن /زياد الرحباني/ المنتمي زمنيا لجيل أفرزته الحرب و تجارة الأسلحة و زعماء الطوائف و المال ،، المنتمي للواقع بألوانه العاتمة لا للحلم الأخضر أو الأزرق السماوي و البحري ،، تمرد بعبقرية جديدة وحساسية أرضية وواقعية مفاجئة وصادمة أنزلت الشعر الغنائي من حالة الغيم إلى حالة التراب ،،صار الكلام عن الحب كلاما حقيقيا ،، صار الحب ملموسا ،، له حاجاته اليومية ،، المال و البيت المريح و السهر و الشرب و الجنس و الملل و الخلاف و الزعل و الملاحقة و الغضب و الشتيمة ،، وصار البشر بشرا طبيعيين بصفات طبيعية مريضة وسوية وبين بين ،، هذه الحساسية الجديدة التي اشتغلت على الذهنية العربية بقدر اشتغالها على الشعر و الموسيقا ،، أنزلت الصوت /فيروز عن كرسيه في السماء و أجلسته على الأرض ،، وحولته من سلطة إلى معارضة ،، من حالة فردية لا شريك لها إلى جزء من مجموع ضمن نسق واحد ،، هذا التحول أثار غضب الكثيرين الذين مازالوا يبحثون عن سلطة بديلة لسلطة الأنظمة الحاكمة بعد فشل كل المشاريع السياسية المناهضة لهذه الأنظمة معتبرين في هذا التحول إهانة مباشرة للذاكرة و للذهنية التي يرفضون تغييرها لأسباب مختلفة ، ليس العجز عن فهم الواقع على حقيقته و مسؤوليتهم عن جزء من الخراب الذي ساد المجتمع العربي بعيدا عنها .
قلت في البداية لم يعد صوت فيروز مسعفا لي ولم اعد اسمعها كما في السابق ،،و لكن ثمة مساحة ليست قليلة في روحي تريد الهروب دائما نحو رطوبة الحلم و شفافيته و نقائه في صوتها الاستثنائي مرفوعا على عبقرية رحبانية استثنائية قديمة و جديدة.
08-أيار-2021
08-أيار-2021 | |
16-كانون الثاني-2021 | |
29-أيلول-2020 | |
06-تموز-2019 | |
09-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |