اِحذروا هذا الرمزَ!
2009-04-26
وصلني عبر الإيميل، كما بالتأكيد قد وصلَ العديدَ منكم ممن يتوسّلون الإنترنت، رسالةٌ، أصابتني بالاكتئابِ أسبوعًا، ثم بالضيقِ أسبوعًا، ثم بالحَيرةِ أسابيعَ، وأبدًا طويلا لا ينتهي. الحيرةُ في أن أفهمَ كيف خطرتْ على بال من صنعها، ثم في جسارة طرْحها، ثم في مغزاها، وفي الأخير، الحيرةُ في أن أجد توصيفًا يليقُ بها! المُرْسِل هو "نورُ الإسلام"، اسمٌ مستعار لشخصٍ أو لجماعة. وأما فحوى الرسالة فخُلْوٌ من كلِّ نورٍ، ومن أيّ إسلام!
الرسالةُ عبارة عن صورتين. إحداهما صورةُ خُفٍّ (شبشب) أبيضُ اللون، على أرضيته شريطان أزرقان متعامدان، يشكّلان معا هيئةَ صليب! وفي الصورة الثانية قدمٌ بشريةٌ وقد داستْ على الصليب!!!
وليس من كلمةٍ في الرسالة، اللهم إلا عنوانُها الذي يقول: "احذروا هذا الرمز، خطرٌ يُدمّرُ مستقبلَكم وحياتَكم، ضعوه تحت أقدامكم."
وبقدر ما استفزتني الرسالةُ وأحنقتني؛ لفقرِها ورداءتها، وتعمّدها اقتسام وتفتيت أوصال هذا البلد، المرزوء ببعض مرضاه المحسوبين على مواطنته، وبقدر إيماني بأن أشدَّ عقابٍ للسفاهة هو تجاهلُها؛ عملا ببيت الشعر العبقريّ: "يخاطبُني السفيهُ بكلِّ قبحٍ/ وأكره أن أكونَ له مُجيبًا/ يَزيدُ سفاهةً وأزيدُ حُلُمًا/ كعودٍ زادَه الإحراقُ طيبًا"، أو إقتداءً بالبيت الآخر للإمام الشافعي أيضا: "إذا نطقَ السفيهُ فلا تُجِبْه/ فخيرٌ من إجابته السكوتُ/ سَكَتُّ عن السفيهِ فظنَّ أني/ عييتُ عن الجوابِ وما عييتُ/ فإن كلّمتُه فـَرَّجتُ عنـه/ وإن خليّتُه كَـمَدًا يمـوتُ"، أؤمن بكلِّ هذا، وأطبّقه دائمًا. على أنني ظللتُ أقاومُ ضيقي لأسابيعَ، وأتعمّدُ نسيانَ الأمرِ وتجاهُلَه، حتى ضاقتْ بي السُّبلُ. فارتعابي على مصرَ يقضُّ مضجعي. وأمثالُ تلك السَّخافات، وأولئك السُّخفاء يهدّد بكارثة وشيكة، ليس تتحملُها مصرُ.
وكعادتي حينما أسمعُ أيَّ قولٍ، أُفعّلُ فلترَ سقراطَ الثلاثيّ. حين جاءه تلميذٌ له ودَّ أن يشي بزميله. فقال له سقراطُ، قبل أن يسمحَ له بالكلام: دعنا أولا نمرّرُ كلامَك على الفلتر الثلاثي: 1-صِدْقُ الكلامِ، أو كذِبُه، 2-طيبةُ الكلام، أو شرُّه، 3-فائدةُ الكلام. ولما اكتشفَ التلميذُ الواشي أنه لا يعرف أكان الكلامُ الذي سيقول صادقًا أم لا، ولما كان يدرك أنه كلام شريرٌ لا طيبةَ فيه، ولما لم يجدْ فائدةً من حكيه، رفض سقراطُ الإنصاتَ إلى وشايته. وبتفعيل هذا الاختبار سنجد أن ذلك الإيميل رسالةٌ: كاذبةٌ، شريرةٌ، لا فائدةَ منها، سوى حربٍ رخيصة بين أبناء وطن واحد. فلِمَ وألفُ لِمَ، ولصالح مَنْ أرسلَها المُرسِل؟
ثم أعود لأسألُ: هل محسوبٌ هذا المُرسل "الركيك"، أيًّا مَن كان، على دينٍ، أيّ دين، سماويًّا كان أو غيرَ سماويّ؟ ثم هل هو محسوبٌ، خصوصًا، على الدين الذي قال كتابُه: "آمنَ الرسولُ بما أُنزلَ عليه من ربّه والمؤمنون، كلٌّ آمنَ بالله وملائكته وكتبِه ورسُلِه، لا نُفرّقُ بين أحدٍ من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانَك ربَّنا وإليكَ المصير."؟
ثم ماذا لو قلبنا الحال؟ فقط من باب التخييل الجدليّ، أودُّ أن يتخيلَ القارئُ أن مسيحيًّا فعلَ الشيءَ نفسَه مع أيقونة أو رمزٍ يخصُّ الدين الإسلاميّ؛ فأرسلَ آلافَ الإيميلات التي تزدري الديانةَ الأخرى، ألن يُحَلُّ دمُه في لحظة؟ هذا المُرسلُ ليس مسلمًا حُكمًا. فدينه، مثلما كل الأديان، لا تدعو إلا لاحترام الأديان الأخرى. إنما هو مشروعُ إرهابيّ، يحتمي في كونه ينتمي لأكثرية، في مجتمعٍ لا يحفلُ كثيرًا بقضايا ومشاكل الأقليّات، ولا الأكثريات حتى! وواجب تلك الأكثرية أن تتصدى لمثل تلك النماذج الشائهة، قبل أن تتصدى لها الأقلياتُ التي في فمها ماء. وقبل أن تقومَ حربٌ طائفيةٌ لا قِبل لنا بها. ونحن بِتنا نكافحُ من أجل رغيف الخبز، الذي صار عزيزا على الجميع.
أعلمُ، سلفًا، أن هذا المقالَ سيثيرُ علىَّ "الطائفتيْن" (لشدَّ ما أكره هذه الكلمة؛ فمصرُ لا ينبغي أن تنقسمَ طائفيًّا أو عِرقيًّا أو مذهبيًّا؛ هي التي تعاقبتْ عليها الحضاراتُ والثقافاتُ والأعراقُ والمِلل، وخرجت منها واحدًا صحيحًا غيرَ قابلٍ للقسمة. فلماذا نعملُ على تقسيمها الآن، ولصالح مَن؟). أعلمُ أنْ سيحدثُ مثلما حدث في مقالي هنا باليوم السابع: "مصرُ التي لا يحبُّها أحد!"؛ حينما، لعجبي، اتهمني مسيحيون بأنني مسلمةٌ عنصرية أهاجم المسيحيين، واتهمني مسلمون بأنني أعزّزُ المسيحيين وأنادي بشرعية وجودهم، في "بلدهم" مصر! (كلاهما اتهمني في نفس اللحظة وحسبني على الفريق الآخر، دون قراءة أو وعي!) والحقُّ أنني لا أعبأ بإرضاء هؤلاء أو أولئك من الغُلاةِ المتطرفين، بل إن ما يعنيني بحق هو مصر. مصرُ الحزينةُ بأفعالِنا! ما يعنيني هو الحبُّ الذي نهدرُه من بين أصابعنا لصالح التناحر والضغينة والتراشق بكل ما هو غثٌّ ركيك. إن كانت الحكومةُ تكرهنا، نحن المصريين، كما هو جليٌّ واضح، فلماذا لا نعملُ، على الأقل، على أن نحبُّ بعضَنا بعضًا؟ علّ لنا مَخْرجًا.
اليوم السابع بالاتفاق مع الكاتبة
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |