المثقفون في متاهتهم..
2009-05-02
لا أحد يعرف من غدر بالمدينة.. بالكاد أحسَّ أحد بالأماكنِ، كيف غادرت أماكنها. لكنهم مازالوا هناك. كلما ضاقت بهم فسحة، وجدوا أخرى. قد يتوقفون للحظة ويتذكرون تلك الأماكن التي كانت لهم يوماً، ولكنهم قد يمرون بالقرب منها، بعد أن أقفلت، وتحولت إلى مطاعم للعائلات، أو محلات لبيع الألبسة أو الوجبات السريعة. ودون أدنى تفكير أو التفاتة يمضون إلى أماكنهم الجديدة.
في بداية شارع 29 أيار، مازال مقهى الهافانا شامخاً هناك، على الرغم من انحسار زبائنه لمصلحة مقهى الكمال المجاور. بسبب رخص الأسعار على الأغلب. قديماً كان للهافانا رهبة من عبروا طاولاته ذات يوم. في إحدى زواياه جلس شعراء أمثال سليمان العيسى ومحمد مهدي الجواهري وشعراء مشاغبون كمظفر النواب.. أضف إلى ذلك سليلي الأرصفة من المتمردين كالماغوط وممدوح عدوان. المقهى ذو الأناقة الريفية كحال من مروا به، مازال صامداً في وجه التقلبات، وفيه قسم علوي للعائلات. لكنه يفتقد الحيوية اللهم إن لم يباغته الشباب، إذا ما كان هناك نشاط ما في سينما الكندي المجاورة. ومن على واجهته الزجاجية قد تلمح وجوهاً مألوفة لشيوخ الكار كالمخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد وحسن سامي اليوسف وفواز حداد. يقول عبد اللطيف عبد الحميد: «أنا أشعر براحة نفسية كبيرة في مقهى الهافانا، فكل ما يتعلق بافلامي: صعود المطر، ونسيم الروح وقمران وزيتونة، وما يطلبه المستمعون، ولد في هذا المقهى، ففي هذا المقهى أحس بالحميمية، مع تحفظي على النراجيل وطاولة الزهر وما عدا ذلك كل شيء يشعرني بالإلفة».
مقهى الكمال ذو الأسعار الرخيصة ليس مكاناً ثقافياً، وهو يشبه غابة بشرية اندلع فيها حريق بقسمه الشتوي لكثافة دخان السجائر والنراجيل في الفضاء المغلق، أما قسمه الصيفي، فهو مساحة أشبه بملعب كرة يد تحتسي فيه مشروبك الساخن أو البارد وعيناك تراقبان غربان التكية السليمانية وهي تتطاير كأن سماء هذه المدينة ذهب. وبالقرب منها هناك «الندوة» وما أدراك من «الندوة»، هنا يجتمع شيوخ عرب، وزوار ما وطئت أقدامهم أرض دمشق من وقت طويل، وقدامى صحفيين وكتاب كانت أسماؤهم لامعة ذات يوم. الندوة التي تشبه بأثاثها البدوي استراحة المسافرين على طريق المحافظات الشمالية الشرقية، وضعت أجهزة التلفزة، ويمكنك وأنت تحتسي شرابك أن تشاهد عرضاً للأزياء أو أغنية راقصة، ما يجعل المكان متناقضاً لمزجه العفوي بين التراث والحداثة، ولكنك لن تبالي. بل إن شعور مستشرق بالبهجة سينتابك إن كنت داخلاً للمرة الأولى إلى المكان الذي ستصاب فيه بالتخمة وأنت تحتسي البيرة، بلا توقف!! وستتساءل بلا أدنى شكّ عن سبب غياب الأنوثة عن المكان، وهو ليس سؤالاً عصياً على الإجابة، مادام من الصعب العثور على المكان أصلاً، بعد أن غطته ظلال الأبنية الفارهة من حوله!!.
يرفض عبد المجيد حيدر شراء الأطعمة من الشارع الذي كان سابقاً قارة بأكملها لمثقفي دمشق وجنة لأماكنها والأكثرها حباً لنفسهم!! يمكنك أن تتضامن مع السيناريست وأن تقول: كان هنا الفريدي. والفريدي ليس مزحة ولا هو مجرد مكان يضم عدداً لا يتجاوز عدد أصابع اليد من الطاولات. إنه بمثابة ذاكرة ممحوة لحقبة بأكملها من ذاكرة أجيال من المثقفين.
الفريدي حانة صغيرة في أحد تفرعات شارع العابد، كان يمكن أن تلقى على طاولاته من يبكي حنيناً، وآخر يناقش في الثقافة وكأنه لا يحلم بأقل من تغيير العالم. قلة من لم يعبروا هذا المكان، وفيه نمت صداقات واجتمع كتاب على كؤوس الإلفة وفستق الحظ العاثر. لكن المكان لم يلبث أن اختفى ليخلف وراءه حنيناً جارفاً إلى مكان يمكن أن تشاغب فيه بأفكارك حتى النخاع. في تلك الفترة لا يمكن أن تقول إنك دخلت دمشق فاتحاً، إن لم تمر من الفريدي. ولا بأس إن دخلت بليرات قليلة إلى المكان، فبالتأكيد أن «نشمياً» أو صعلوكاً ما سيمر ليدفع الحساب عنك لمجرد أنك ستكون من رواد هذه الجنة القديمة.
لا أحد يعرف من أغلق الفريدي، وليس هناك سوى تكهنات بصدد الموضوع، ولكنك تمر هناك، وغير آبه مع أحد كبار السن سيفاخرك بأنه كان يوماً من رواد هذا المكان.
لن يكون الاصطدام بمقهى الروضة، الذي يشبه حجر عثرة، حدثاً من نافل القول. ففي هذا المقهى العملاق، تعثر على كل من تريدهم أو لا تريدهم. وبالأصح يمكنك أن تعثر هنا على كل شيء. قادمون من الدول المجاورة؛ عراقيون وفلسطينيون وتوانسة ومختلف الجنسيات العربية. هنا تتأكد أن دمشق عاصمة للعروبة. وليس أفضل من هذا المقهى برهاناً على ذلك.
المقهى الفسيح الذي لا تنفك الشائعات تطاوله والتي تفيد بأن المقهى سيقفل أبوابه، مازال يجمع كل الأطياف على طاولاته. يتألف المقهى الذي يماثل شاهداً على المدينة من ثلاثة أقسام، قسم علوي يستهوي الجنس اللطيف والممثلين، هكذا يستضيف المقهى الفنانين فارس الحلو جمال سليمان وحسن عويتي وأيمن رضا. الذين يباغتون المقهى فجأة ربما هاربين من الأماكن القريبة التي يصورون فيها أعمالهم. فيما عيون الشباب ترنو إلى نجوم الشاشة السورية. وجهة نظر مختلفة يعبر عنها المخرج المثنى صبح، فهو لايرى في مقهى كالروضة إلا «مكاناً للتسلية» ويضيف: «أذهب حيث يوجد أصدقائي». أما أقسام المقهى الأخرى، فقسم أوسط ذو قبة سماوية تغلق بألواح التوتياء، إذا ما دعت تقلبات الطقس إلى ذلك، وآخر مكيف وكأنك في ثلاجة.
عند دخولك من باب المقهى، ستمر بالرجل الذي يجيد الصبر أكثر مما يجيده صياد سمك. أبو حالوب العراقي الذي لم يغادر مقهى الروضة بتاتاً، طاولته الصغيرة بمثابة وطن للعراقيين. هكذا يمر به الفنان التشكيلي جبر علوان، والشاعر محمد مظلوم وعلي حبش العراقي، الفريد من نوعه، الذي لا ينفك يطلق نكاتاً عن الوضع العراقي المثير للأسى.
يمكنك أن تراقب الجميلات وهن يتقاطرن تباعاً إلى المقهى، ويمكنك أيضاً أن تخوض نقاشاً ثقافياً، أو تمارس مع الأصدقاء «دكاً» من النميمة، على موسيقا تصويرية لوقع حجارة النرد وهي تتهاوى من أيدي الشباب على الطاولات.
يمثل مقهى الروضة المعقل الأخير الجامع لمثقفي دمشق، وإن كان بدأ يفقد هذه الميزة مؤخراً، بل إن ارتياد المقهى بحد ذاته صار شبهة ثقافية بمعنى من المعاني، فإذا أراد مثقف أن يشتم آخر، فإنه لا يتوانى عن الإشارة إلى أنه من مرتادي مقهى الروضة، وهذا يعني ان له شلة ثقافية، تناصبها العداء شلة أخرى في معارك، على الأغلب ليس لها معنى بتاتاً. ولكن المكان يظل جاذباً لألفته، ففيه تنمو صداقات. قال عابد إسماعيل مرة، إنه تعرف في هذا المكان على أدونيس وسعدي يوسف، واعتبر أن صداقات هذا المكان عظيمة. وتتعرف على نادلين قد تتفاجأ وهم يدفعون عنك الحساب في سيرفيس، أوعندما يعزونك بوفاة قريب لك. النادلون أصدقاء عابرون للمقاهي. ولا يمكنك إلا أن تعتبر «أبو الحكم» كبير الندلة أسطورة من أساطير المكان وشيخاً من شيوخ الكار الذي يشترك في النقاشات والمداولات.
يتصارع المثقفون على طاولات المقاهي وثمة من يصارعهم على مقاهيهم وأماكنهم هكذا خسروا حصناً حصيناً كمطعم الريس ومن ثم نادي المحاربين القدماء. والمدينة التي كانت تحتوي جزراً ثقافية عديدة صارت صحراء مقفرة من تلك الأماكن. ومع ذلك، فإن القاص ناظم مهنا لا يعتبر المكان مقهىً ثقافياً. وكذلك ذهب الناقد السينمائي بشار إبراهيم ذات مرة. ومعه الشاعر جولان حاجي الذي اعتبر المكان غير أليف ويثير القلق. ولكنهم مع ذلك مازالوا يزورونه كلهم.
إلى الجنوب من مقهى الروضة، وباتجاه منطقة العفيف، يمكث نادي الصحفيين. وقديماً كان للمكان عزه، ولكنه اليوم شبه خالٍ، وهو الذي يحمل اسم العاملين في السلطة الرابعة يستقطب اليوم كل من لا يعرف غير هذا المكان من العشاق الصغار والراغبين في التخفي.
يقال، إن نادي الصحفيين قديماً كان مكاناً بمثابة طاولة واحدة، وتحت تأثير الكحول يتنقل الجميع من طاولة إلى أخرى، وهو يعلنون أقوالهم الفصل في الشعر والرواية والفكر والسياسة. وكم من قضايا حسمت بجرة قلم أو بحكمة من صاحب حكمة. ولكن المكان فقد سحره، وتلاشى زبائنه وبعد خسارة «الرواق» بالقرب منه يمكن القول، إن الطوق قد أحكم.
أما علامة نادي الصحفيين الفارقة، فهو أشهر موريتانيي العالم وأكثرهم حنكة، والمقيم الأبدي هناك والذي لا يزال صامداً هناك والمعروف من قبل الجميع بـ «محمد البخاري ولد سيدي المختار». والذي يناديه الجميع بلا تؤدة «مرحبا بخاري». يمكنك أن تعتبر هذا الرجل بمثابة ذاكرة متنقلة، وما إن يلمحك حتى تكون أحد اصدقائه في المرة القادمة. البخاري شاهد عيان على دمشق وتحولاتها.
يمكن القول، إن منطقة باب توما صارت ملاذاً للراغبين في إمضاء الوقت، وخوض السجالات. وبهذا يمكنك التوجه إلى «مرمر» ، ولكن المكان ضيق وبعدد طاولا ت محدودة، ولهذا لا بد من حمل الجعبة والذهب إلى نينار.
منذ اكتشف السيناريست نجيب نصير نينار آرت كافيه، بصحبة آخرين حتى استطاع نصير سحب الجميع إلى هناك. والمكان ذو الطابع الشرقي الذي كان يعاني من قلة المرتادين صار من الصعوبة أن تجد لك موطئ قدم فيه.
عقيل (مدير المكان) يلاقيك بابتسامة صارخة، وهو صار صديق الجميع، بل ومنسقاً لمعارض فنية ومشرفاً على حفلات توقيع الكتب هناك كان آخرها معرضاً للفنان عماد صبري وآخر لدلدار فلمز. هناك تلقى الشاعر حازم العظمة وزوجته الممثلة المسرحية أمل عمران وآخرين كالشاعرة رشا عمران والروائي خالد خليفة والناشر مجد حيدر والشاعرة أميرة أبو الحسن والشاعر عادل محمود. وإذا ما أراد مثقف الاحتفاء بضيفه أولَمَ له هناك. فهو مزيج بين البساطة والأرستقراطية. وبهذا اجتاز المكان شعراء كالشاعرة السورية المقيمة في باريس مرام مصري ومواطنتها سلوى الحكم النعيمي وشعراء جاؤوا دمشق في مناسبات وأنشطة ثقافية كالمغربيين الشاعر محمد بنيس والناقد محمد برادة.
يقول عقيل: «المثقفون يعتبرون المكان منطقة لهم، وعلى الطاولات يناقشون الوضع الثقافي، وقد كانت دمشق عاصمة الثقافة العربية، الشغل الشاغل لمعظم الطاولات طيلة العام المنصرم. لم يحصل أن حدثت مشاكل في المكان، ولكن بعض النقاشات قد تحتد أحياناً على إحدى المسائل، وفي نهاية المطاف يخرج المحتدون ضاحكين».
الغريب أن كل تلك الأماكن تتميز بأسعارها الغالية، والوسطان الثقافي والفني اللذان كانا يمتزجان على الطاولات بدأا ينفصلان بفعل الغنى الذي بدأ يناله الفنانون الذين صاروا يفضلون الذهاب إلى أماكن أكثر رقياً. فيما يزداد الكتاب تعثراً، وهم بالكاد يطعمون أبناءهم. هكذا صار هناك فرز طبقي في أوساط المثقفين وصار لكل منهم مكانه الذي يميزه فيما يغيب التداول الثقافي من على الطاولات. خلت المدينة إذ خلت، ولم يبق فيها إلا البيوت المرتبطة بذاكرة الكثيرين. لا يمكن أن ينسى أحد منزل الشاعر بندر عبد الحميد الذي مر به كل مثقفي الوطن العربي الذين جاؤوا إلى دمشق. وعلى منواله يفتح الكثيرون بيوتهم، أو يقومون بمشاريع يجدون فيها أماكنهم الخاصة.
نشر هذا التحقيق في جريدة بلدنا
مرسل للموقع من قبل الكاتب
08-أيار-2021
يحاضر في «أربعاء تريم الثقافي» / فراس السواح يقارن بين التاو والديانات الشرقية |
24-آذار-2010 |
17-آذار-2010 | |
28-حزيران-2009 | |
23-حزيران-2009 | |
13-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |