وإننا لا نبيعُ للكفار!
2009-05-06
تصوّروا هذا المشهدَ. الذي أقلُّ ما يُوصَفَ به، أنه مُخْزٍ وقبيح. رجلٌ مصريٌّ مكلومٌ ثَكِلٌ، فَقَدَ بعضًا من أبنائه وأحفادِه في حادثِ سيارةٍ أليم. بعدما تحاملَ الرجلُ على فَوْرةِ أحزانِه الأولى خلال أربعين يومًا، هي، لا شكّ، أطولُ عليه من الدهر، استطاعَ أنْ يذهبَ إلى إحدى المطابع ليطبعَ كروتًا للأهل والأصدقاء لدعوتهم إلى واجبِ عزاء الأربعين، بها تفاصيلُ المناسبةِ من تاريخٍ ومكانِ لُقيا للصلاة على الراحلين. يقبضُ صاحبُ المطبعة "الأريبُ" الثمنَ مُقدّمًا، ثم يَعِدُ بالتسليم في اليوم التالي. ربما هنا، لكي يتبلّورَ المشهدُ وينتفي العَجَبُ القادمُ، وجبَ عليّ أن أذكرَ أن مكانَ العزاء ذاك اسمُه "كنيسةٌ"، وأن المناسبةَ بالتبعيةِ اسمُها "قُدَاس". حسْبَ الموعدِ، يذهبُ الأبُ المصدوعُ لكي يستلمَ الدعوات. لكنَ صاحبَ المطبعةِ "المُسلم" سيكون قد اكتشفَ بالأمس، عبر أسماء الموتى، السرَّ الخطيرَ جدًّا، المريبَ جدًّا. أن المتوفّين المُهدَرَةُ دماؤهم مسيحيون. فيأمرُ عُمّالَه بإيقافِ تروس المطبعة، وبالطبع سينصاعون للأمر ويتوقفون من فورهم عن أداء عملهم. فربُّ العمل، صاحبُ المطبعة، رجلٌ مسلمٌ مؤمنٌ لا يرتكبُ المعاصيَ أبدًا (!)، مثلما العاملون لديه مسلمون مؤمنون لا يأتيهم الباطلُ عن يسارٍ أو يمين. في الصباح يستقبلُ التاجرُ "المصريُّ" "المسلمُ" الزبونَ "المصريَّ" "المسيحيَّ" بوجومٍ يليقُ بعدوٍّ من صهيون. يُرجِعُ الفلوسَ، التي قبضَها بالأمس مُقدَّمًا. ثم يقفُ مُصعِّرًا خدَّه في ثقةٍ، تليق برجلٍ امتلكَ اليقينَ كاملاً غيرَ منقوصٍ، وبراحة بالٍ واطمئنان يليقان بعبدٍ طائع لم يرتكبْ طيلةَ عمرِه معصيةً. ثم، باقتضابٍ، وربما في تَشَفٍّ وفرحٍ بكارثةٍ إنسانية أنقصتْ تعدادَنا المجيدَ بعضًا ممن لا يستحقون الحياة، يتمتمُ قائلاً إنه لم يطبعِ الكروت، ولن يطبعها! ولِمَ؟ لأنه مسلمٌ لا يتعاملُ مع الكفار!! أما قوله حَرفيًّا لمزيد من اكتمال المشهد صوتًا وصورة، وبؤسًا أيضًا، فهو كالتالي: "مبنعملش للنصارى شُغْل.. لأن دُوْل ناس كَفَرَة".
عرفنا الحكايةَ، التي رسمتُ حبكتَها الدراميةَ من خيالي، من مقالٍ للكاتبِ، المثقف (فليس كلُّ الكتّابِ مثقفين للأسف!) سعد هجرس. الذي رفعَ مقالَه الغاضبَ النبيلَ كبلاغٍ إلى النائب العام، ولكلِّ من يهمّه مصير هذا البلد: مصر. قائلا: "حدث هذا في القاهرة في القرن الحادي والعشرين، وهو شيء شاذٌّ وخطير، يجب أن يتمَّ الحسابُ عليه بكلِّ حزم لأن هذا التصرَّفَ العنصريَّ والطائفيَّ كفيلٌ بأن يشعلَ حريقًا في الوطن بأسره، ولأنه يمثل تحديًّا للقوانين ولدستور البلاد الذي يحمي المواطَنة من أي تمييز." كتبه هجرس لأن الرجلَ المكلومَ، المغدورَ في مواطنتِه، وهو المستشار لبيب حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة، رغم مكانته الرفيعة، وربما بسبب مكانته الرفيعة، تعفَّفَ عن إثارةِ الأمر في الصحف، أو حتى في قسم البوليس وساحاتِ القضاء، وهو حقٌّ أصيلٌ له، لأن موظفًا ما، امتنعَ عن أداء مهمته، وبعدما قبضَ، مقدَّمًا، أتعابَه! سأله هجرس: "لماذا لم ترفعِ الأمرَ إلى النائب العام؟" فأجابَ الرجلُ في حَزَن: "أخجلُ من أن أتحدَّثَ مع النائب العام في مثل تلك التفاصيل الحقيرة."
ولأن المصائبَ بالمصائبِ تُذكَرُ، فقد علّق كثيرون على مقال هجرس، والمرارةُ تقطُرُ من كلماتِهم. ذكر أمير ماركوس أن هناك محلاًّ لبيع المجوهرات في ميدان الجامع بمصر الجديدة، يضعُ لافتةً داخل المحلِّ تقول: "لا نبيعُ الرموزَ الدينيةَ للكفار"! وذكر آخرُ اختار لنفسه كُنية "جحا القبطي" أن مدارسَ عديدةً بمصرَ قد استبدلتْ بالسَّلام الجمهوريّ المعتادِ في طابور الصباح آياتٍ قرآنيةً! (كأنما لا يجوز الجمعُ بين القرآن وبين السلام الوطني، الذي يُذكي حبَّ مصرَ في قلوب النشء!) وتعليقًا على مقال فريدة الشوباشي حول نفس الحكاية بجريدة "المصري اليوم" اقترح أحدُهم تفعيلَ قانونٍ ضدَّ العنصرية بمصر، وطالبَ آخرُ بتبني حملةٍ قوميةٍ ضدَّ من يسعون إلى هَدْم وحدة هذا الوطن من أمثال صاحب هذهالمطبعة، مطبعة الدريني، ومطالبته بالاعتذار أو مقاطعته تماماً لنجعلَ منه عِبرةً لكلِّ مَن تُسَوِّلُ له نفسُههدمَ أساسِ هذا الوطن.
والسؤالُ الآن للحكومة القائمة على أمن هذه الدولة التي لم تعد تُفيقُ من مِحَنِها: أليس ملفُّ الوحدة الوطنية (ما أغرب هذا المصطلح، إذْ ليس من المفروض أن يتفتَّتَ وطنٌ لنطالبَ بوحدته!)، لابد أن يكون على رأس أولوياتها؟ هذا طبعًا إن كانت حكومتُنا السعيدةُ تأبه أصلاً بمواطنيها وضروراتِهم الأولى، ولن أقول رفاههم النفسيّ والوجوديّ والبيئيّ والاقتصاديّ! أليس قانونٌ ضدَّ التمييز العُنصريّ بمصر، أولى وأشدَّ إلحاحًا من قانون الطوارئ الرابض على أنفاسنا منذ عقود؟ ذلك القانون الذي يفكرون في استبداله بقانون الإرهاب. أيُّ إرهاب أكثر من تلك القصة! ومئات القصص المشابهة، التي تُرتكّبُ كلِّ نهار بين جنبات مصرَ الحزينة؟ ألم يَحِنْ بعدُ إلغاءُ البندِ الثاني، العُنصريّ الفاشيّ، في الدستور المصريّ؟ إلى أين يأخذُكِ الظلاميون يا مصرُ؟
محمد
2013-12-12
مع ان الناس دى محترمة جدا على فكرة انتم شكلكم ظلمانهم اكييد
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |