موتُ الكاتب
2009-05-17
يموتُ الكاتبُ فورًا بعد الكتابة! هكذا تذهبُ المدرسةُ البُنْيَويّة في النقد. فالنَّصُّ، بعيدًا عن كاتبه، يصيرُ كائنًا مستقلاًّ. يدافعُ عن نفسه فيحيا، أو يُخفقُ في الدفاع عن نفسه، فيموت. أما الكاتبُ، فليس له الدفاعُ عن نصّه بعد خروجه إلى النور. لم يعد النصُّ له؛ بل أصبح مُلْكًا للقارئ وللتاريخ. لو كان نصًّا جيدًّا، يُكتَب له الخلود، وإن كان فقيرًا، يموتُ تلقاءَ ذاته، تمامًا، حسب نظرية "الاصطفاء الطبيعيّ" للأحياء. ليس للكاتب أن يقول: "كان قصدي كذا وكذا!" فللنصُّ لسانٌ، يقول، إن كان لديه ما يقوله، أو ليصمتَ إلى الأبد. هذا هو البُعدُ الفلسفيّ للنظرية. لكن لها بُعْدًا عمليًّا أهم. فالكاتب مستحيلٌ، عمليًّا، أن يرافقَ النَّصَّ طوالَ الوقتِ ليدافعَ عنه. فللكلماتِ أجنحةٌ كما قال أفلاطون. النصُّ يعبرُ الجغرافيا بعيدًا عن موطن كاتبه، ثم يعبر الزمنَ فيعيش بعد موت كاتبه. فكيف يمكن أن يعملَ الكاتبُ محاميًا لكلماته؟!
لهذا، مطلقًا، لم أدافع عن مقال كتبتُه. فأنا، بالنسبة لمقالي، كائنٌ ميتٌ، أخرسُ، وعليه هو/النصّ، أن يحمي نفسَه، إن كان قويًّا، أو يموتَ ضعيفًا غيرَ مأسوف عليه.
لكنْ، ليس كلُّ القراءِ أفلاطون، وليس جميعُهم يُتْقِن فنَّ القراءة العسير، الذي لا يقلُّ عُسرًا عن الكتابة. يصدمكَ قارئٌ لا يفهمُ قشورَ القول، مثلما يُطربُك قارئٌ يلتقطُ حتى ما بين ثنايا القول، ويفاجئك بدلالاتٍ أغزرَ مما ذهبتَ إليه بقولك.
كتب محمد سلماوي مقالاً عن نجيب محفوظ، واصفًا إياه بـ"الأديب الأكبر". فانهال عليه قارئ يرميه بأنه أشركَ مع الله "أكبرَ" آخرَ! ولو تبنينا ذلك الفهمَ القشريَّ للغة، فلن يجوز أن نقول: "الميدانُ الأكبرُ"، "الأخُّ الأكبر"، وإلا أشركنا مع الله، تعالى، ميدانًا وأخًا، حاشاه! كذلك لا يحقُّ لنا استخدام أسماء الله الحُسنى ال99 في نعْتِ مخلوق؛ فنقول: أبٌّ "رحيم"، حاكمٌ "جبّار"، عبدٌ "مؤمن"!
والكاتبُ الديمقراطيّ يؤمنُ بحرية التعبير، له وللآخر. فيكتبُ نصَّه، ثم يصمت، ليتكلم الآخرون. وحين تُسَنُّ الأنصالُ لتقطّعَ جسدَه وجسدَ النصِّ معًا، عليه أن يصبر صبرَ المسيح على الصليب. لذلك أبدًا لم أتدخّل في تعليقات القراء على مقالاتي في تفاعليّ الجريدة. فقد قلتُ رأيي بالمقال، وأما ساحةُ التعليقات، فمُلْكٌ خالصٌ للقارئ. ليقولَ فيها ما يشاء من رأي ومساجلة. وسبٍّ أحيانًا بل وتكفير! أصمتُ؛ لأنه لا يجوزُ أن أحوزَ ساحتيْن للتعبير: هنا بالجريدة، وهناك بخانة التعليقات، التي هي ساحةُ القارئ وحقلُ تعبيره.
في مقالي السابق كتبتُ عن مجموعة شباب دشّنوا مشروعًا يهتم بالكتابِ وحدَه لا شريك له. فرماني بعضُ تعليقٍ بما لا يليق. ولأنني آليتُ على نفسي الصمتَ النبيلَ المقيمَ بعد الكتابة، صمتُّ. لكنْ، وكما يقول الإنجيل: "يُدافَعُ عنكم وأنتم صامتون"، ردَّ عني بعضُ من فهم العبارةَ على نحوها الصحيح، قائلين إنما عنيتُ أن أولئك الشبابَ لم تُلهِهم مُلهياتٌ ألهتْ سواهم من الشباب مثل الفضائيات والمقاهي ودردشة النت ومطاردة البنات، وأن مشروعهم مشغول بالكتاب وحسب لا بالتربّح أو الشهرة. هذا ببساطة معنى العبارة، التي لم يستحِ البعضُ في رميي جرّاءها بما لا يليق! وها أنا ذا قد نزعتُ عني موتي؛ خالفتُ ميثاقي ودافعتُ عن نفسي! لكنَّ عزائي أنني إنما استعرتُ، في مرافعتي، ألسنَ سواي.
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |