ما تشدي حِيلك يا بلد!
2009-05-23
"مدد مدد/ وشدى حيلك يا بلد/ إن كان في أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولَد/ بُكره الوليد/ جاي من بعيد/ راكب خيول/ فجره الجديد/ يا بلدنا قومي واحضنيه/ ده معاه بشاير ألف عيد/ قومي انطقي/ وسيبك بقا/ من نومة جوا في شرنقة/ ده النصر محتاج للجَلَد/ ومدد مدد/ لو كان في قلبك شيء قوليه/ الحزن هيفيدك بإيه/ يا سكة مفروشة بأمل/ مشوارنا حُطّوا العزم فيه/ يا بلدنا سيبك م الدموع/ قومي اقلعي توب الخضوع/ ده الحق لسه بيتجلد/ ومدد مدد."
هل تذكرون هذه الأغنية الفاتنة؟ كتبها الشاعر إبراهيم رضوان، ولحّنها وغناها المطربُ والمناضلُ المثقفُ محمد نوح عام 1968، بعد هزيمة يونيو الأسود. ولأن القائمين على الهزيمة شاءوا لها أن تُسمى "نكسةً"، لا "هزيمة"، فكان لابد من نسْج سياق اجتماعيّ وفكريّ، بل وفنيّ، يتّسقُ وهذه المشيئة السياسية! كان لابد من تفريغ الشعب من كلّ حسّ بالهزيمة، فليست إلا نكسةً عابرة! ومن ثم نهضتْ أغنياتٌ "تفريغية" مثل "العتبة جزاز والسلم نايلوا في نايلوا" وسواها. بينما أغنيةٌ تعبويةٌ رافعةُ العزمِ، شادّةُ الأزر، ناشدةٌ الكفاحَ والأملَ، لابد أن يَخْفُتَ صوتُها، ثم تُوأد. وقد كان. أخبرني الأستاذ نوح أن هذه الأغنيةَ لم تُسجّل أبدًا في الإذاعة! بل أنه سُجِنَ بسببها في معتقل القلعة! (أيتها القلعةُ، كم شهدتْ جدرانُكِ من رموزنا؟)
وسألته مندهشةً: لو لم تكن في أرشيف الإذاعة، فأين سمعتُها أنا، وحفظتُها، وسمعها الناسُ، وحفظوها؟ فقال: لابد من نثاراتٍ هنا أو هناك! وهذا مدهش بحق، فالأغنية تتردّدُ في عمقي كأنما أسمعُها كلَّ يوم! فكيف ضحَّتِ الإذاعةُ المصرية بحفظ مثل تلك الأيقونة من عتمة النسيان؟ لكنْ، أحقًّا يمكن أن تسقطَ قطعُ الفنّ في هوّة الفقد؟ مستحيل. فذاكرةُ الناسِ أقوى، وأشدُّ نبلا من ذاكرة الاسطوانات الباردة، ومن مكائد الساسة. لهذا وصلتنا الأغنيةُ، وسوف تصلُ أولادَنا وأحفادَنا.
سألتُه: ولِمَ لمْ تسعَ أنتَ لحفظ تراثك في شرائطَ واسطواناتٍ؟ فأجابني بالرفيعِ الذي كنتُ أتوقّع: "ليس على الفنان إلا أن يُبدعَ. أما حفْظُ إبداعِه فحريٌّ به آخرون." معك حق يا أستاذ!
رفضتِ الإذاعةُ المصريةُ إذن إذاعةَ الأغنية عام 68، وعوقبَ الفنانُ بشأنها. اتهمه الإخوانُ بأنه شيوعيّ؛ يحضُّ على النضال والثورة! واتهمه الشيوعيون بأنه من الإخوان؛ لأنه يقول "مدد"! وتشتتْ دمُ الفنِّ النبيل بين القبائل! على أنهم، بعد "نصر" أكتوبر 73، بحثوا عنه، وعن أغنيته، وطالبوه بأن يغنيها. وغنّاها. ولم تُسجّل أيضا. ثم سأله المحامون أن يغنيها في نقابة المحامين في عهد عبد العزيز الشوربجي، وبعدها هتف النقابيون: الشعوبُ تجوز عنها النيابة! وقاموا بتسجيلها وحفظها في دار الكتب، كإحدى الأغنيات الشاهدة على تاريخ مصر. وهي النسخةُ الوحيدة الموجودة في ذاكرة مصر الآن! أما نوح، فمعتكِفٌ في بيته بالنزهة، يقيم ندواتٍ فكريةً أسبوعية مع أصدقائه من مثقفي مصر، هاربًا من الضوء. لكنه بشّرني بحوار قريب مع جريدة "اليوم السابع"، ينحو نحوًا فكريًّا سياسيًّا ثقافيًّا، وليس وحسب فنيًّا. لنتأكدَ أن مصرَ، مهما ضربتها المِحَنُ، غَنيّةً بقاماتها الرفيعة لم تزل. لشدَّ ما نحتاج الآن أن نقولَها، بصوتٍ واحدٍ قُوامُه ثمانون مليون حنجرة: شدي حيلك يا بلد!
جريدة المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |