القططُ المذعورة
2009-05-30
القططُ المذعورة[1]
قبل شهور، في عزّ الشتاء، دخلتْ قِطةٌ رماديةٌ خِلسةً من البلكون، واستقرتْ في بيتي. اكتشفتُها في الصباح وقد اختارتْ أحدَ الأسِرَّة الشاغرة ونامتْ، بعدما دسّتْ رأسَها في وسائده طمعًا في بعض دفء من برد يناير القارس. فرِحتُ بها. وعلى مدار أيامٍ حاولتُ استمالتها دون جدوى. هي تحبُّ المُقام عندي، بدليل أنني تركتُ لها باب الشرفة مُشرعًا ورفضتِ الخروج. أضعُ لها اللبنَ في الصباح، وقطعةَ سمكٍ عند الظهر، و"أبَسْبِسُ" لها لكي تأتي، لكنها تنظرُ لي في ذُعر ولا تقربُ الطعامَ حتى أبتعد. وبعدما تطمئنُ أنني جلستُ إلى مكتبي، وانشغلتُ عنها، تَقْرَبُ الصحنَ، وتأكل. أرقُبُها بطرفٍ خفيّ فترتجفُ أذناها حين تلتقي عيوننا. تحدّقُ في عينيّ طويلاً بنظرة تقفُ بين التساؤل والحيرة والشكِّ، وقليل من الامتنان. لكنها أبدًا لا تستجيبُ لمحاولاتي الاقترابَ منها لتدليلها والمسح على شعرها. أظنُّها تريدُ أن تحبني وتطمئن لي، لكنَّ عهدًا طويلاً لها في الشوارع بين مطاردات المارّة وسخافاتهم وزجْرهم لابد أورثَها انعدامَ ثقةٍ في بني البشر بمجملهم. غيرَ مُفرِّقةٍ بين مُحبٍّ القططَ وكارهٍ لها. القطةُ البيضاءُ التي نربيّها لا تخاف. تتمسح بقدمي وأنا أتجوّل في البيت، تشاكسُ ذيلَ ثوبي وتثبُ فوق المكتب مُطوِّحَةً الأقلامَ دون خوفٍ من عقاب. لا تعبأ سوى بالاستمتاع بأشعة الشمس في الصباح، ووجبةٍ جيدة توقنُ أنْ ستنالها كلَّ يوم، وفي المساء تقفزُ فوق سريري، وحين آتي تُفسحُ لي ببعض مساحة. لا يغريها التليفزيونُ الذي يثيرُ القطةَ الرماديةَ جدًّا، فتكمنُ له تحت الأريكة وتنظر في دهشة ووجل، ذيلُها يهتزُّ وأذناها منتصبتان في تحفّز.
أثارتني الفروقُ في السلوكيات بين القطتين. ولا أدري لماذا ذكرتني القطّةُ الرمادية بالمواطن المصريّ في شعوره نحو جهاز الشرطة. المواطنُ البسيط العادي "اللي مالوش ضهر". فيما القطةُ البيضاءُ هي المواطنُ "المسنود" المطمئنُ إلى مُتكأٍ يحمي ظهرَه. كلُّنا قطةٌ رمادية! أصبحنا نخافُ رجالَ الأمن ولو كانوا طيبين. وبسبب مِراسِنا الطويل مع بطش بعضهم، بِتنا نخافُ "الكلَّ" وليس ذلك "البعض"! مفارقةٌ مُحزِنة، أن يغدو جهاز "الأمن"، مصدرَ "فزعٍ".
جولةٌ واحدة في شوارع القاهرة، أو أقسام بوليسها، تكفيكَ لتلمح هذا الفزع الذي بات يملأ قلوبَ المواطنين من رجالات الشرطة. بصرف النظر عن الرُّتبة وعدد النجوم والنسور والسيوف. بل، للمفارقة أيضًا، يزداد الفزعُ كلما صَغُرتِ الرُّتبة والمقام. ربما لأن زهوةَ السلطان وشهوةَ التحكّم في خلق الله تكون في أوْجها في البدايات. حينما يتخرّج طالبُ الشرطة من الكلية، فيحاول أن يأخذ بثأره من المجتمع كله دفعةً واحدة. تخفُّ وطأةُ هذه المشاعر السلبية كلما تقدم الضابط في مدارج الترقيات، فتهدأ النفسُ وتتزنُ الأمور. فرُبَّ لواءٍ أكثر تواضعًا ورُقيًّا في تعامله من ملازم أو أمين شرطة يتعامل مع المواطنين، أبرياءَ ومتهمين، بصَلفٍ وقسوة، لم أفهم يوما مبررها.
أحدُ أجمل الرسائل التي وردت في فيلم "حين ميسرة"، حينما سَبَّ الضابطُ أحدَ المتهمين بأمّه، فقال له المتهم: "لا يا باشا، إنتَ ليك عليا احترمك، إن كنت قاعد اقوم لك، وان كان في ايدي سيجارة ارميها، لكن أمي مالكش دعوة بيها!" هكذا رفض المواطنُ المصري البسيطُ الجميلُ، "العارفُ حقَّّه" أن يكون قطًِّا رماديًّا. تحيةً له.
فاطمة ناعوت
[email protected]
[1] - جريدة "المصري اليوم"
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |