السريالية محور إنساني
خاص ألف
2009-06-08
الواقع واقعان: واقع كما هو , وواقع كما الإنسان
الواقع كما هو , أدراك ذاتي مكتف بنفسه نستطيع أن نجمل فيه كل المخلوقات ما عدا الإنسان إذ واقعه متعد بطبيعته فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يكون تأثيره بإرادة قصدية خارجة عن ترددات السبب والنتيجة وهذه التعدي يجعل من علاقة الإنسان بذاته كواقع وبالواقع كما هو, علاقة قيمة وحلول وهذه القيمة قد تنهار فيبحث لحلوله عن واقع آخر كما حدث في نهاية الحرب العالمية الأولى المحك الأول والحقيقي لما دعا إليه عصر التنوير وهذا الانهيار أنتج الدادائية كمرحلة جنينية لخروج كائن السريالية "الواقعية الخارقة" كرد أولي على تصنيم العقل كموازي أول لواقع أصبح ثانويا ولكن السريالية وقعت في تناقض قيمي فهي تصطنع بواسطة العقل حالة منافية للعقل كما يقول " بريستلي" لذلك واجه السرياليون الأوائل خيارين أما أن يكونوا ثورين أو فنانين وهكذا تحول بعضهم إلى الواقعية الاشتراكية والبعض الآخر عادوا للدين وبخفوت نجم المذهب السريالي أدخل المذهب نفسه في تصنيم جديد يدعى تحرير الفكر عن طريق الكتابة الآلية إلى أن ذابت السريالية في تيار الحداثة بأهم مميزات لها : الجمع بين الأضداد , إذ هناك نقطة في العقل يلتقي عندها الأضداد كما يقول بروتون مؤسسها ,وبالسخرية المركبة كما في مسرح بيكت.
هذه المقدمة اقتضاها سياق شعري يخطه الشاعر جودت حسن مستلهما بشكل كبير مقولات السريالية عن الكتابة الآلية وتلاقي التضاد والسخرية المركبة ابتدأها في زمن متأخر في ثمانينات القرن الماضي ليأخذ تجليه الكامل في ديوانه " الإمبراطور في ورطة" في طبعة تعود لعام 2005 صادرة عن دار الصباح بتجربة ولدت مع "رومانس للربيع السكران" عام 1983 إلى الآن .
هل هذا السياق الشعري هو رد ثاني لما وصلت إليه الحداثة وما بعدها؟!.
أنا في بيدر الدجاج بجدارةلهذا لا أخدم الأفنديولا رجالات الأغا في الدهنولا انتمي لسماء في قيد النفوسوأنفس عن ضجري في الكتابةما بين سماء تأخذني إلى الدهشةوأرض تطمرني بالوحل.... وزيوس شرعية قديمة في اللاهوتلهذا انتصب عاقلا في برج الجسد.
العقل من جديد يدعو إلى كسر نفسه لكن عن طريق تشظي فسيفسائي لا عبثي مع جودت حسن يسمح بمرور الضوء عبر قوس قزحه, فمقولة تحرير الفكر وصولا للكتابة الآلية كبوح جوهره الحرية والحقيقة عبر تعرية مقولة الإنسان من لحظة وجوده إلى لحظة الكتابة من كل المحمولات؛ إعادته إلي طفولته وبالتالي طفولة اللغة إلى دي أن أي, بنسبية شمولية لا عبر نظام مثالي مطلق أو نسبي بل بالاعتراف والقبول بماء الإنسان المالح والحلو وأنه بالضرورة كائن ثلاثي الأزمنة.
هذه الآلية الواعية لذاتها خطت مع جودت حسن من العبارة إلي المقطعية عبر نص طويل مقطع في ديوانه" الذاكرة التي عرتها الريح:
هنا فلسفة كاملة من الفوضى ورمان الخرابنعتز برمله وجليده وجبالهونسائه العرايا.
كذلك" تخويض في الطمي والنور":
أسكن عين الخرافةوأمجد ظلي الوارف وأنا أبحث عن مشاكلي أشد اللغة الهاربة من فساتينها الغاوية لتسقط في لهيبي.....
في نهاية هذا المقطع نجد نقاط متتابعة وقبلا المقطعية تحكم مجمل الدواوين السابقة" للإمبراطور في ورطة" فالتنقيط يتنافي مع الاستمرارية للدفق الذي يشْغلنا كذلك القطع الذي يهدد بإقامة الصمت مادامت الكتابة السريالية تمتح من الضجيج الذي يعتمل في داخلنا ومدام هذا حدث, أي من تنقيط وقطع للدفق الشعري, فيبدو أنه له ضرورة توزيع العقد على الحبل المهتز أو أقطعوا بعبارة مفرطة الوضوح كما يقول بروتون؛فيحبر جودت حسن في الذاكرة التي عرتها الريح: أنا ضد العقل مع السيدة المخملية التي سأرعى عشبها هذا المساء وتشرب أمطاري.
وعليه تكتمل تجربة الأسلوب في الإمبراطور في ورطة عندما يصبح الدفق الشعري سيلا لا يتوقف لا مقطعية لا تنقيط وعندما يحدث القطع لعدم الانتباه يتجلى الحل السحري الذي وضعه اندريه بروتون في بيان السريالية الأول حرف "اللام" ليربط الكلمة الغربية المشبوهة مع الدفق فنجدها لدى جودت حسن تجلت أحسن ما يكون في حروف الجر وأسماء الإشارة والتشبيه ومن قصيدة طائرة في ورق الجرائد:
أنا كامل كوالدي زيوس وجميل كالثلج في الهيمالايا ونقي كبلاغات الدولة
ورائع كموسيقى تصعد من التبولة وجليل كسترتها التي لا تنام في الأدبومجنون كأهالي حمص في قصيدة النثر ومرتبك كحيوان في مقصف وعادل كطاغية في أثيناوروما أمي وحليبها على شفتي أنا هنا لأمتدح الغامض في وكر والبلاغة في عريها الفتان.
وهكذا تستمر القصيدة بدفق كأنه نفس واحد أمتد على كامل زمن ولادتها.
جودت حسن يستحضر تاريخ السريالية فهو لا يوفر أسلوبا تبدت فيه إلا وقد ضمنه تجربته من جماع الأضداد في وحدة إلى سخريته الملتهبة كالجمرة تحرق نفسها ومن يلمسها:
الليل يهرب من رواكيبي الرواكيب تهرب من رعيتي أنا فنان في مصطبة الرعي وسأنقل أحجار الشطرنج بشكل عشوائي من حكمة الرسم إلى ميوعة الدسم وأكمل فجر الورد بالكتابة وأحصي أشكال الهواء وأدحض النائمين في البهو فجر يركض ورائي بالليل ليل يرجمني بنهار براجماتيقصعة للخوف تستحم فيها الفئران قمل يخلع قمصانه ويسافر في الثياب. من قصيدة فجر يركض ورائي.
وأسلوب السريالية لا يتم بتمامه إلا بالصورة التي قال عنها أندريه بروتون: الصورة خلق ذهني خالص, لا يمكن أن تولد من مقارنة , بل من مفارقة واقعين متباعدين بنسبة أو أخرى وكلما كانت الصلات بين الواقعين المقاربين بعيدة كلما جاءت الصورة قوية وزادت قدرتها التأثيرية وواقعها الشاعري"نشم رائحة البارود في النص" البرد في العراق ديسك في النصوص" كونوا معي في مجازر الحقيقة" إنه يزغف كصخرة في الوحل" سأقرأ قصيدتي على الرغيف اليابس".
جودت حسن من شعراء الثمانينات الذين نموا بعيدا عن غابات الإيديولوجيات والموسيقى النحاسية كانت له السريالية رومانسية جديدة ليست هروبا إلى الطبيعة ولا واقعية بقديمها أو جديدها فالشعر كلما اقترب من المجتمع أصبح أقرب للنظم لذلك كانت صوفية الحلاج هي الحل الوحيد لينقذ السريالية من عدميتها فكانت حلولية النص في الواقع لإنتاج فردية تتجلى بواقعية سريالية ترى الواقع بمستوياته امتدادا لإنسانيتها فهي منه وإليه
جودت حسن عضو اتحاد الكتاب من مدينة الدريكيش له مجموعات شعرية عديدة وأخيرا أصدر رواية بعنوان الحيوانات الزرقاء لم يتم تناول تجربته بعد نقديا رغم فرادتها,فيبقى سؤالي أعلاه معلقا كحال تجارب كثيرة وجدت الكتابة لكن لم تجد القراءة؟!.
باسم سليمان
[email protected]
www.safita.cc
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
17-آذار-2018 | |
23-كانون الأول-2014 | |
04-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |