السلطانُ والخُّفُّ الجِلديّ
2009-07-04
كتب الأستاذ فهمي هويدي في "الشروق" مقالاً عنوانُه "شكرٌ آخرُ لأوباما"، يشكره فيه على أنْ مكّننا أن نرى القاهرة نظيفةً ولو ليومٍ أو بعضِ يوم. وحكى أنه قبل سنوات كان في طريقه إلى مدينة حلوان، فلاحظ أمرًا عجيبًا: أن طريقَ الذهاب، وحدَه، مرصوفٌ ونظيف، فيما طريقُ العودة مُهمَلٌ، شأنَ معظم طرق مصر! طلبَ تفسيرًا للّغز، فأخبروه أن الرئيس ذهب إلى حلوان بالسيارة، فقام بتمهيد الطريقِ من يُمهدون الطريقَ لمن يستحقون أن يُمهَد لهم الطريقُ، بينما عاد الرئيسُ من حلوان إلى القاهرة بالطائرة، فتُركَ طريقُ العودةِ على حاله!
ذكرتني تلك القصةُ بحكاية فولكلورية نعرفها جميعًا.
تقول الحكايةُ إن سلطانًا من العهد القديم قرّرَ أن يخرجَ في جولة بمدينته. وكان الناسُ وقتها يسيرون حفاةً، والطرق لم تعرف التعبيد بعد. فتشققت قدمُ السلطان من حصوات الطريق ورماله، ومن سخونة الأرض التي تعكس حرارةَ الشمس اللاهبة. فقال أحد الوزراء: سآمرُ العمّالَ بفَرش الطريق، التي ينوي أن يمشي عليها جلالةُ السلطانُ، بِبُسُطٍ من الجِلْد الناعم حتى لا تتأذى قدماه. وقال أحدُ العلماء من الحاشية: بدلاً من هذه الكُلفة، لماذا لا نصنع قطعتي جلد صغيرتين ونثبتهما في قدميْ مولاي وهو يمشي؟ وكانت تلك بداية اختراع الخُفِّ ومن ثَم الحذاء.
وأنا بعدُ طفلةٌ صغيرة، حكي لي أبي عن المعتقلات وغُرف التعذيب التي فُتحَت في عهد عبد الناصر، وغُلّقت على المثقفين والشيوعيين والوطنيين، الذين أحبوّا عبد الناصر ذاتَه حبًّا لا مزيدَ عليه! كنتُ أسألُه ببراءة: "بابا جمال يعرف هذا؟" فيجيبني: "طبعًا لا يعرف، الفسادُ ليس في الحاكم، بل دائمًا في حاشية الحاكم. لو عرف لهدم السجون على رءوس السجّانين!" ولمّا كبرتُ سألتُ محمود أمين العالم، المفكر الكبير، وأحد أشدِّ مُحبيّ عبد الناصر، السؤالَ ذاتَه بالبراءةِ ذاتِها: "هل كان ناصر يعرفُ أنكَ وشُهدي عطية وفتحي عبد الفتاح وإبراهيم الشريف وعبد العظيم أنيس وسواكم تُجلَدون وتُقَّتلون؟" فيجيبُني دون أدنى تردد: "أبدًا، أبدًا، مستحيل!"
والآن، أسألُ بالبراءة ذاتِها: هل من المحتمل أن يكون الرئيس مبارك على غير عِلمٍ بحال الطُرق قبل، وأثناء، وبعد، مروره عليها؟ أَمِنْ غير المحتمل أن يظنَّ الرئيس أن طرق مصر بالنظافة التي يراها في جولاته؟ يهاتفني صديقي الآن ويخبرني أن الرئيس قال في خطبةٍ: "طيب وماذا في أنهم يرصفون الطريق لأن مسؤولا سيمرّ؟ أليس في هذا نفعٌ للناس؟ المهم أن الطريقَ قد رُصِفت!" وأجيبُ السيد الرئيس بأن عليه إذًا، أولاً، أن يمرَّ في شوارع مصرَ جميعها وحواريها حتى تُرصف، ثم، ثانيًا، يعاودُ المرورَ بعد شهر، فجأةً دون أن يخبر أحدًا، لأنه سيكتشف أن الرصفَ لم يكن رصفًا بل تلوينٌ سطحيٌّ بطبقة قارٍ خفيفة لا تصمدُ إلا فترةَ المرور، بينما الرصف الدائمُ طبقاتٌ فوق طبقاتٍ تقاومُ عواملَ التعرية واحتكاك أطُر السيارات. ثم سأحكي له قصةً حكاها لي أحد قاطني مدينة "بنها" التي زارتها السيدة سوزان مبارك قبل عامين. قال إنهم رصفوا شارع "فريد ندا" (الطريق السريع القديم) الذي سيمرُّ به موكبُها، وطلوا، بالأبيض، الأبنيةَ التي ستقعُ عليها عيناها أثناء رحلتها. حتى أنهم لم يطلوا أربعة واجهات البنايات، بل الواجهتين اللتين ستبينان لها، وفقط! أليس هذا مُهينًا لنا كمصريين؟ ألا نستحقُ من وزاراتيْ البيئة والمرافق احترامًا يليقُ بنا، نحن أبناء أعرق حضارات الأرض؟
سيدي الرئيس، إن ستة ملايين موظف ممن تُخصَم منهم الضرائبُ رأسًا من المنبع هم مَن يقطنون الأحياءَ الفقيرة والعشوائيات، وهم أحقُّ الناس بأن تُمهَد لهم الطرقُ وتُطلى لهم البناياتُ، لأنهم دفعوا ثمن هذه الإصلاحات مقدّمًا؛ ليس من أموالهم التي في جيوبهم، بل دفعوها حتى قبل أن تصلَ أموالُهم جيوبَهم.
[email protected]
[1] - جريدة "اليوم السابع 30/6/09
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |