أنا في طبلة المسحراتي!
2009-08-17
هدَّدني العزيز فهد عمّار بأنه سوف يحبسُني في "طبلة المسحراتي" لو استمررتُ في الكتابة حول "تجميل القبيح" في عمودي هنا. والحقُّ أنني لا أخشى شيئًا خَشيتي طبلةَ المِسحراتي التي كانت مُربيتي، في القديم وأنا طفلة، تهددني بأنها ستضعني فيها إن لم أكملْ التهامَ صحني. وكنتُ وقتها أخلطُ بين "الطبلة"، و"الطابية"، فأظنُّ الطبلةَ قلعةً ضخمة يسجنون فيها الأطفالَ الأشقياء الذين لا يسمعون الكلام، ويهربون من شرب اللبن.
ولأنني مازلتُ "أرهبُ" صوتَ طبلة المسحراتي حتى الآن، وهربتُ للسكنى في مكان لا يأتيه المسحراتي، ولأن رمضانَ والمسحراتي على الأبواب، ولأنني بالفعل أخافُ أن يُنفِّذَ المتوعِّدُ وعيدَه، ولأن الأستاذ فهد من قبل ومن بعد عزيزٌ، وأحبُّ ألا يسيء فهمَ كلماتي، سأقطعُ اليومَ حديثي حول الجمال، وأبادرُ بتقديم دفوعاتي؛ لأبيّنَ وجهة نظري من جهة، ومن جهةٍ أخرى لأنقذَ نفسي من العقوبة المُرّة. كان هذا الوعيدُ بعد مقالاتي السابقة حول الجمال ومعاييره؛ التي انتهت إلى أن لا معاييرَ محدّدةً له، ودعوتي لأن نتركَ لأطفالنا حريّةَ التجربة والخطأ والكشف والدهشة، مادمنا نأمنُ عليهم من المخاطر، بدلاً من تلقينهم و"تلقيمهم" تجاربَنا وآراءَنا الخاصةَ بالملعقة، فيغدون دُمًى تحرِّكُها خيوطٌ في أصابعنا، وببغاواتٍ تردِّدُ ما نقول، كما نرددُ نحن ما قاله لنا السَّلفُ الصالحُ دون إعمال كثير عقل. دعوتي تصبو لأن ننتجَ جيلاً عاقلاً غيرَ ناقل، فلا نكررُ أخطاءَ الماضي، ربما يُصلحُ ذلك الجيلُ ما أفسدناه نحن، وحكوماتُنا الرشيدةُ المتعاقبة. وهنا لا أدري كيف تبادر إلى ذهنه أنني أدعو إلى تجميل القبيح، أو تقبيح الجميل!
أنظمتُنا التعليمية تقومُ بامتياز على فكرة النقل دون إعمال العقل. نحفظُ المعلومةَ التي تجري على ألسن مُعلّمينا وفوق صفحات الكتاب، ثم ندخل الامتحانَ نَبُخُّ المعلومةَ على ورق الإجابة، كأننا أنابيبُ ناقلةٌ من الكتاب إلى الورق! الأشطرُ بيننا هو القادرُ على أن يشحنَ أنبوبَه بأكبر قدر من المعلومات، والخائبُ قد يلجأ إلى فتح الكتاب خِلسةً ليسترقَ المعلومة. فينجحُ، وينتقلُ من صفٍّ إلى صفٍّ، حتى يتخرجَ في الجامعة وهو بوقٌ يثرثرُ بما "نَقَلَ" طوالَ سنوات عمره، وربما ينسى، حتى، هذه الثرثراتِ فيغدو بوقًا أجوفَ فارغًا. عند الغرب، الأمرُ جدُّ مختلف. في الامتحان، الكتابُ أمامك، بما يُعرف بنظام Open Book، لأن الكتابَ يضمُّ المعلومةَ، لكنه لا يضمُّ المقدرةَ على التفكير. والمعلوماتُ مبذولةٌ على قارعة الطريق، وهم لا يريدون إنتاج حواسيبَ بشريةٍ تحفظُ المعلومة، بل يطمحون إلى إنتاج عقول تتلقى المعلومةَ وتتعامل معها ثم تنتجُ فكرًا جديدًا وابتكاراتٍ متطورة. افتحْ الكتابَ إن شئتَ، ثم أجبْ عن الأسئلة، تلك التي لا تحتاج إلى معلومة بقدر ما تستلزم إعمال العقل.
ذلك المقالُ هو دعوةٌ للتفكير والتبصّر في كلِّ شيء وفي كلِّ وقت. خُلِقَ الإنسانُ مجبولاً على التفكير الدائم. فالمخُّ البشريّ هو الأداةُ التواصليةُ التي لا تتعطّل أبدًا إلا لحظةَ الوفاة. حتى أثناء نومنا، الميتةِ الصغرى، يظلُّ المخُّ حيًّا وحيويًّا لا ينفّكُ يُصدِرُ أوامرَه لسائر أعضاء الجسد، ولا يفتأ يضُخُّ الأحلامَ والرؤى والأفكارَ المدهشةَ، بل والقصائد أحيانًا! فلصالح مَنْ نعطِّلُ هذه الأداة الفذّة العبقرية التي منحتنا السماءُ إياها بكل محبّة وحُنوّ؟ لصالح مَنْ نجعلُ عقولَنا تخمدُ قواها باستعارة آذان وعيون وعقول سوانا؟ حتى وإن كان سوانا هؤلاء آباءنا وأجدادَنا ومعلِّمينا، وكلاهُم فاضلٌ وكريم. لو كان سُمح لي، وأنا طفلة، بالنظر من الشرفة وقت مرور المسحراتي، ومشاهدة طبلته الصغيرة، لكنتُ نجوتُ من فوبيا تطاردني حتى اليوم! فكرتي إذًا ليست إلا دعوةً لئلا نحرمَ أطفالَنا حقَّهم الطبيعيَّ في اكتشاف اندهاشِهم الخاصّ بالوجود والموجودات، ألا نجعلَهم تابعين لنا، يقرأون بعيوننا، ويفكرون بعقولنا، ويتكلمون بلساننا؛ فإذا ما شبّوا وكبروا صاروا أدواتٍ طيّعةً في أيادي حُكّامهم الفاشيين، ومُضغةً سائغةً في أفواههم.
[email protected]
النشر الورقي جريدة المصري اليوم
النشر الألكتروني خاص ألف
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |