شاعر ذوبان الجليد
2009-09-04
الشاعر نرجسي لأن مرآته الحياة , وتراجيدي؛ لكونه لا يريد لهذه المرآة أن يصيبها الكدر, وكوميدي , فالمفارقات السوداء التي تضعه بها مرآته تأخذ كوميديته إلى حدها الأقصى من السخرية التي تكتفي بالتعليق على الواقع والحلم إلى التهكم كفعل هادم وبانٍ بنفس اليد , ومأساوي لأنه لابد له إن كان شاعرا حرا, أن يكون في مواجهة السلطة , فكما الشعر لا يقونن كذلك قائله .
شعراء الأندرغراوند كما وسمتهم السلطة , وهذا يعني في المصطلح السلطوي :الشاعر الذي يكتب خارجا عن الإطار المرسوم للأدب آنذاك , كان بردوسكي منهم وأيضا ,كان شاعر ذوبان الجليد الأول الذي ابتدأ بعد وفاة ستالين, فهل وقع بردوسكي ضحية مكر السلطة فقدم لمحاكمة هي مهزلة محضة بحق الإبداع وتكرار لا يمل لعلاقة السلطة بالإبداع وقمعها للمبدعين أم أن الأمر , هو قدر الشاعر أن يناهض قمع السلطة ويعلي من شأن الفردية الصحيحة التي تصنع المجتمع بعيدا عن قمعه واستبداديته؟!؛ لقد كان جوزيف بردوسكي في الجانبين وخاصة بعد أن قرأ "تشاداييف "الرجل الذي أطلق التحدي ضد القوالب الفكرية الروسية الجاهزة وكشف عن أكاذيب الحياة الرسمية.
كتاب " محاكمة بردوسكي" ليس من صنيع التخيل بل هو واقع جرت أحداثه في عام 1964 حيث حكمته المحكمة بخمسة أعوام مع الأشغال الشاقة عن عمر يناهز الرابعة والعشرين ليخرج بعدها بسنتين ويغادر الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1972 ويفوز بجائزة نوبل عام 1987 , وحجة المحكمة الدامغة أنه كان متعطلا عن العمل ويمارس كتابة الشعر خارج المؤسسة , هكذا تمت صناعة المتهم عبر مقال في صحيفة " لينينغراد المساء" في 29 نوفمبر من عام 1963 تحت عنوان " المتطفل الاجتماعي على هامش الأدب" وحضّر به المجتمع الروسي لصب جام غضبه على هذه العلقة التي تمص جهد عمله إذا استذكرنا هنا الشهود الذي قدمتهم المحكمة لإدانة بردوسكي فلم يكن يعرفه أحد منهم مع دزينة من الاتهامات وصلت لحد محاولته الهروب وخيانة الوطن, هذه الفنتازيا ما كانت تصل لنا لولا جهود فريدا فيغدروفا تلك الصحفية التي سجلت وقائع المحاكمة إلى أن منعها القاضي فدونت من ذاكرتها والكاتب إيفيم إيتكند الذي أنشأ مشهدية تكاد ترتفع للسينمائية أحاطت بوقائع هذه المحاكمة وتجاذباتها الداخلية والخارجية .
هاجر بردوسكي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ونال بعدها جائزة نوبل وسط منافسة كبار من كتاب الأدب كأكتافيو باث وهو الصغير بينهم لكن القائمين على جائزة نوبل لاحظوا في شعر بردوسكي أنه يتميز بكثافة استثنائية في الحياة والروح والنفس من خلال أفق ثقافي واسع ومن خلال الصفات الفنية اللامعة وبعبارة أخرى " بردوسكي شاعر كبير , وفي لقاء معه عن كيفية حياته في أمريكا أجاب: نحن جئنا إلى هنا لا لكي نعيش , بل لكي نكمل ما تبقى لنا من أيام في العمر .
بردوسكي الذي بقي على هامش الحياة في مغتربه ورفض العودة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي معللا ذلك لسبب جوهري ": إن الذين سلكوا الدرب معي قد ماتوا أو رحلوا إذ لا ندخل في النهر مرتين , حتى لو كان هذا النهر يدعى نهر "النيفا" ؛ لكن الشاعر يظل يراقب ما يحدث".
هكذا توفى بردوسكي عام 1996 في وطن غريب أحبه كما يقول ودفن مع الشاعر الأمريكي عزرا باوند ودياجليف أحد أعلام الباليه الروسي , ولعل تراجيديته استكملت لعبتها وهو المولود في مدينة الماء بطرسبورغ التي وصفها ب" مرآة عملاقة لكوكب معزول" فدفن في البندقية في مقبرة المنفيين الكائنة في جزيرة سانت ميكائيل.
يقول: عندما نفقد قدرتنا على كتابة الشعر, يعني ذلك أن الحياة أوشكت على الانتهاء.
محاكمة بردوسكي ل فريدا فيغدروفا وإيفيم إيتكند ترجمة وتقديم شاكر نوري صادر عن النايا للدراسات والنشر والتوزيع سوريا 2009
الثورة
باسم سليمان
[email protected]
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
17-آذار-2018 | |
23-كانون الأول-2014 | |
04-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |