الشغالة ج الأخير
2009-09-22
(12)
حيتني بتحيتها المعتادة، بعد أن بادلتها التحية قلت:
- تذكرين الكثير من الألفاظ بالفرنسية، سرعان ما تترجمينها إلى العربية، ما السر وراء ذلك ؟
ابتسمت ابتسامتها الرقيقة، قالت:
- مسيو.عادل، أنا أقيم بمدينة ( لافال ) وهي تابعة لمقاطعة (كيبك) وكيبك الشهيرة هنا بالفرنسية.
- فهمت، والآن هل لنا أن نستكمل ؟
- بكل سرور.
- تفضلي.
أتصل بي أبى هاتفيا ذات يوم، أمرني بالعودة إلى لبنان؛ لترشيحه شاب لي للزواج، أخبرني أنه رفض في السابق الأستاذ ناصف لفرط الفارق بيننا في السن، وأنه كان عنيفاً معه في الحوار لخوفه علىَّ وشدة حبه لي، وقال:
- الأستاذ ناصف من الأشخاص المحترمين، ثقتي به كبيرة، لا أخفى عليك فأنا حزنت بعد موقفي معه وطردي له؛ فالرجل كان مهذباً معي في الحوار لأبعد الحدود، لكنى لا أعرف ما الذي وقع براسي ساعتها، أنا واثق أن ما وقع برأسي هي التخوفات؛ خفت حقاً على مستقبلك، شعرت أنه سيكون مستقبل قصير جداً جداً إذا وافقته على ما طلبه اعتذر لك وله حبيبتي على الأسلوب الذي أتبعته معه فجأة، لكني لست نادما؛ فمستقبلك وحياتك السعيدة عندي أهم من أي إنسان، وإن كان هذا الإنسان من أعظم الرجال، فلتجهزي حالك للعودة وفقك الله.
أخبرته أن الوقت لا يسمح؛ لأن الصغار في حاجة شديدة للعناية من زاوية كل شيء، غير أن الأمراض التي تصيبهم ـ كما حدث مع صافى ـ تخلع قلبي من صدري خوفاً عليهم، قال:
- أتركِ كل شيء لجهاد، وأنا سأتصل به؛ وسأخبره بكل شيء، وسنبحث معه عن البديل، ولتجهزي نفسك أنت للعودة.
رفضت ما أقترحه؛ لعلمي بضيق وقت جهاد، وعلمي بتمسك الصغار بي، وتمسكي بهم.
مرت أيام، أتصل مرة آخرى، كان حزيناً لرفضي، أخبرني أن من رشحه لي للزواج تزوج بالفعل، وأنه يوجد شاب آخر من عائلة بلال؛ يود الارتباط بي، وكل أفراد العائلة مرحبون به، رفضت؛ لأني رأيت أن لسان حال الصغار يقول: أنهم صاروا كاللبلاب الذي ينمو على حبل، أعتمد في نموه عليه، وها هو تتشبث به وتحضنه أوراقه.
في اتصال آخر كرر مسألة العودة لنفس السبب ـ الزواج ـ كررت له رفضي، شرحت له الأسباب، إذا به يخبرني أنه درس الأمر كله؛ وقرر أن يعود الصغار إلي لبنان؛ وليكملوا دراستهم هناك؛ وأنى حتماً سأعود معهم؛ صرخت وكادت سماعة الهاتف أن تسقط من يدي، بكيت كثيراً، لم يستطع السيطرة على أن يوقف بكائي، قلت وكلامي يتقطع ويغتسل بالبكاء:
- أرجوك بابا لا تفعل، أنسيت أنك تمنيت لهم عيشاً طيباً بعيداً عن حال البلاد السىء ؟ أنا قطعت معهم هنا شوطاً كبيراً جيداً، ولابد أن يكملوا باقي الأشواط هنا أيضاً، ولابد أن أكملها معهم ولهم. أرجوك بابا لا تفعل.
قال وصوته مليء بالحزن:
- أفعلي ما تشائين، وأنا لن أتحدث معك بشأن العودة بعد ذلك.
بمرور الأيام صار رفضي وتمسكي بالقرب من أخواني حقيقة تعمل لخدمتهم.
كان تفوق منذر ومازن وصافى في دراستهم شيئاً أدخل السعادة إلى صدري.
مع استمرار عجلة الأيام في السير قدماً؛ زاد جهدي في الورشة، والبيت، زادت نصائحي للشباب، حقاً صاروا شباباً، أدخل شبابهم البهجة في صدري بشكل بديع.
ساعدتني السيارة على أن ألبي حاجات الشباب، أقودها لهم إلى حيث يذهبون، يا لبرودة الطقس الذي يتوغل ـ أحياناً ـ في برودته ببشاعة ! تأخذ درجاته الحرارية وترمى بها (45) درجة تحت الصفر ! حين أذهب إلى محطة البنزين، وأخرج من السيارة لأزود خزانها بالبنزين (هنا لابد أن تخدم نفسك بنفسك) أحس ساعتها أن وجهي من قسوة البرد قد سقط مني.
برد، ثلج، عواصف، رياح، مطلا؛ هم قشات العش الكبير الذي نعيش فيه، وإن الصيف عندنا كطائر غريب، يحط على نفوسنا؛ فتصاب برعشات الدفء والغرابة، حتى يرحل إلى بلاده حيث أتى.
زاد ادخاري؛ لتفتح الورود الثلاثة.
دفعنى تفتحهم ونضجهم إلى أن أدفع ليو إلى قبول المزيد من الطلبيات، لم يعارض الرجل؛ إذ قد ارتكن على نشاطي الخارق، وتفوقي في إنجاز الطلبيات، كنت أعصر جهدي وتركيزي فتسيل عصارة المال، أدخر منها قدر ما أستطيع، ألقي بالباقي إلى قناة الورود الثلاثة؛ لتغذي تفتحهم.
*****
تمضي الأيام إلى الأمام؛ كأن الزمن الذي يعتليها لا يقوى على النظر للخلف، أو نحو أي جانب إلا نحو الأمام؛ كأنه أصيب بداء السير ولم يعرف له دواء، إذا بالشباب يمرون أمام عيني مجتازين خط التعليم الجامعي على التوالي كسباق العدو ـ يا لفرحة المدرب بلاعبه عندما يفوز ويجتاز الخط الأخير ـ يا لها من فرحة ! حقاً فرحت. كنت أعقد لكل واحد منهم حفلاً بالبيت، يحضره جهاد، دارين، ريـان، ليو وزوجته الحنون كونتشتا، يشتمل الحفل على أصناف من المأكولات اللبنانية، كعك صغير، مشروبات باردة، شموع، موسيقى هادئة. في نهاية كل حفل أدير بالكاسيت شريطاً لفيروز؛ نسمعه ونحن نتناول القهوة و ندخن النرجيلة.
دارت عجلات سيارتي سعياً وراء استخلاص الأوراق اللازمة لكلٍ منهم؛ للالتحاق بالعمل، استطاع منذر لتخرجه في كلية الهندسة أن يعمل في شركة هندسة الكترونيات، عمل مازن محاسباً في أحد البنوك، مسك الختام صافى عمل كيميائيا في شركة أدوية.
كلما سارت السيارة لإنجاز أوراق العمل تسللت فرحة من نوع خاص إلى قلبي. أرى في عيون كل منهم فرحة القبول على العمل، لكن فرحتي المتسللة من نوع خاص؛ حين أذهب مع الفرد منهم لإنهاء الأوراق اللازمة للعمل- أشعر كأني أزفه إلى عروسه الأول البسيط الجميل، تتوهج ساعتها الصورة الحسناء للعرس والزفاف الحقيقي.
تأكدت الفرحة التي تسللت إلى قلبي، بل صارت على مرآي ومسمع جميع الأهل بلبنان وكندا، صارت فرحة رسمية. تأكدت بطلب منذر للارتباط. اتصلت بجهاد ودارين، عقدنا اجتماعا عائلياً صغيراً، تشاورنا ومضينا نسعى لطرق أبواب الأسر اللبنانية المقيمة بمقاطعة كيبك، هدانا الله وزرنا الأسرة اللبنانية، تم الانسجام، بل الاتفاق الكامل على كل متطلبات الزواج، لم أرفض لهم طلباً؛ فقد رأيت أن منذر انصهر بينهم بشكل سريع، فرح بعروسه كارلا، جريت إلى المدخر من المال، رحت أنهل منه نهل الجائع إلى طعام فاخر. اشتريت له شقة بمونتريال، وأثاثاً لائقاً، تم الاتفاق على موعد حفل العرس، اتصلت بأبي؛ فبارك الزواج.
جاء اليوم الجميل، حضره أصدقاء جهاد، دارين، أصدقاء منذر، مازن، صافى، دعوت ليو وكونتشتا. تم الحفل على وجه مبهج.
الفرحة القادمة هي من نصيب مازن. لابد أن أسعى إلى تمهيد الطريق المكمل لها قبل أن يطلب هو شيئاً، ذهبت إلى المدخر من المال، لم يبخل عليَّ، اشتريت له شقة بـلافال وأثاثاً أنيقاً، ناقشته في الأمر، ابتسم؛ عقدنا الجلسة العائلية، رحنا نطرق الأبواب ونتعارف، هدانا الله إلى أسرة هلا اللبنانية. تم الاتصال بالأهل في لبنان، تم الحفل على وجه كنفس الوجه الذي تم به حفل منذر.
كنت أبكى في الحفلتين ما يقولون عليه بكاء الفرح، لكنه ممزوجاً بعبرات الشعور بالوحدة التي ستقتحمني عقب إنهاء كل حفل، إذا استكانت نشوة البهجة أثناء الحفل تسلل إلى قلبي شعور بوحدة أخرى؛ فلا زوج يجاورني في المقعد حول المائدة، ولا صديق؛ فأعود إلى البكاء، وأختفي من هذا الوحش الذي دك عواطفي مختبئة بجسدي بين جهاد ودارين، أو ليو صاحب العمل وزوجته، حتى تعود النشوة؛ فأسبح فيها.
عليَّ أن أذهب إلى المدخر من المال لأكمل فرحة صافى- يا ألهي – إن ما بقى من مال بات قليلاً جداً، لا يفسح الطريق لشراء أثاث دون شقة!! أسرعت منزعجة إلى ليو، أبلغته بالأمر. ترك لي الرجل مساحة ضخمة من العمل بالورشة؛ كأنها أضحت من ممتلكاتي، الحق أنني لم أخيب ظن الرجل بعد أن ترك لي مساحة تصرف كبيرة، وقبول كميات ضخمة من الطلبيات. ساعدتني الخبرة التي اكتسبتها أن أقود الورشة على نحو مذهل، تفانيت في العمل إلى الحد الذي ظننت أنني أدخلت زمناً جديداً على عدد ساعات اليوم.
انبهر ليو بإيقاع العمل وحصيلة المال العائد منه، انبهرت أنا إلى حد الذهول حين مضيت إلى مدخراتي، وجدتها كأني عثرت على كنز وفير. انطفأ عقلي وأضاء مرة أخرى؛ لما دب به من أفكار سريعة ـ شراء بيت كامل، إقامة ورشة خاصة ـ أجل سأبدأ بالتنفيذ، لكن بعد الاطمئنان على صافى.
استدعيته يوماً بعد تناول العشاء، دار الحوا ر:
- صافى حبيبي، الفرحة القادمة من نصيبك.
- لا أريد ترك البيت، سأظل معك.
لكن يا صافى.قاطعني:
- إذا تزوجت سأظل هنا.
- فكرة جميلة، وسأخبرك مفاجأة سارة.
- ما هي ؟
- سأشتري بيتاً جديداً كاملاً بحديقته، وستقيم معي فيه أنت وزوجتك إن شاء الله.
- عظيم، عظيم، وفقك الله.
- إذاً فعلينا بالاتصال بجهاد وإبلاغه بالأمر.
تم الاتصال بجهاد؛ بل تم شراء البيت الجديد، يحتوى على ثلاثة طوابق وحديقة كبيرة. أثاثه أنيق، مليء بزرع الزينة، جعلت الطابق الأول منه للورشة، الطابق الثاني مطبخاً وصالون كبير واستراحة بجوار النوافذ المطلة على الشارع، جعلت الطابق الأخير لغرف النوم، نمى سلمه الداخلي وسط الطوابق في هندسة خلاقة، اشتريت لغرفتي مكتبة خشبية متوسطة الحجم، وضعت بها ما جئت به من لبنان من أوراق جرائد، مجلات، رسائل عزيزة، علقت قنديلي الغالي فوق الحائط فبدا كأنه ملكاً منتصراً. كانت حديقة البيت عامرة بالأشجار المختلفة الأطوال، فبدت كجنة يكسوها البرد، غرست فيها بيدي شجرتى تفاح وخوخ أول أن تم الشراء.
دعوت صافى مرة أخرى، كان أول حوار جدي مصيري نجريه في البيت الجديد، بدأته أنا:
- عندي مشروع أود إقامته، لكن أود الاطمئنان عليك أولاً.
- ما هو المشروع ؟
- ورشة كالتي أعمل بها عند ليوناردو.
- عظيم، وفقك الله.
- أود أن يوفقك الله أنت أولاً بزوجة صالحة، ويأتي مشروعي بعد ذلك.
- أمرك أنا مستعد.
تم ما قد تم لمنذر ومازن، أقام صافى معي بالبيت هو وزوجته (لونا) لعشقه للموسيقى كانت هديتي له يوم زفافهـ قبل إقامة الحفل ـ آلة كمان.
(13)
- مسيو ليو أرغب في إقامة ورشة كهذه في بيتي الجديد.
- عظيم.
طمأنته على الحالة المالية، ساعدني الرجل بسرور بالغ بكل ما لديه من خبرة في شراء الماكينات، وتذليل العقبات، شحن همتي بكلمات حلوة تملؤها الثقة، بدأت عملي بالورشة وحدي. أطلب الطلبيات، أقوم بتنفيذها، ساعدني مكان الورشة بالطابق الأرضي على أن أواصل العمل لساعات متأخرة من الليل، وأكون أكثر حرية في تلبية رغباتي الخاصة من طعام سريع، ومشروبات يتصدرها مشروبي المفضل دائماً القهوة، وارتداء ما يصلح من ملابس؛ لدفع الحركة أكثر، وسد أي باب لأي خمول.
وضعت في الورشة تلفازاً؛ أتابع من خلاله الأحداث السياسية التي تجري بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة ما يعانيه لبنان؛ لأطمئن على الأهل هناك، لم يخل الأمر من قضاء سويعات أتابع فيها الفنون والثقافة في استراحتي القصيرة.
*****
لـونا تعمل في أحد البنوك، فى أوقات فراغها تنشغل بالرسم في مرسم صغير، صنعته في إحدى الطرقات النائمة بين غرف النوم كقنوات ضيقة، وصافى كجهاد فقير الوقت، لكنهما يؤنسانىعلى كل حال برغم انشغالهما الدائم، آنس بهما كإيناس الأم بجنينها بالرغم من أنه لم يظهر إلى الحياة، فثمة اطمئنان ما أشعر به؛ فأنا أراهما أمامي، وكثيراً ما تجمعنا مائدة الطعام، أحياناً أخرى تجمعنا حديقة المنزل. إذا استدعى شخص ما أيأ منهما على الهاتف المنزلي وقمت أنا بالرد عليه ـ أشعر ساعتها بالاطمئنان، حتى وإن لم يكونا موجودين؛ صوت جرس الهاتف وتردد اسم آيَّاً منهما يريح نفسي، يصبغها بالسكينة، لكن يا لوحش الوحدة الرهيب ! إذا خلوت بنفسي ساعة ـ بعيداً عن الورشة ونشرات الأخبار والقراءة ـ أجده أمامي بسوطه الذي لا يرحم؛ كأني أعمل لصالحه؛ يدفعني دفعاً إلى العمل؛ أسرع بالتلبية؛ خوفاً من سوطه المؤلم !
*****
الصغار صاروا شباباً، بل أزواجاً، فهل لي أن أعود إلى وطني ؟
*****
ما أقضيه في استراحاتي لا يخلو من مشاهدة الأفلام والمسلسلات العربية. تجري أحداث العنوسة على الشاشة بشكل مخيف؛ تشعر فيه أن العانس العربية كالمخنث، الأبشع من ذلك أنك تشعر أن الناس في الوطن العربي يلقون إليها التهم بأنها السبب في هذه الخنوثة أقصد(العنوسة)
*****
رحماك يا ربي. إن مؤشر عداد سنيني يشير إلى تخطي الأربعين عاماً، هل إن عدت سيستقبلونني استقبال المنتصر، أم سيستقبلونني كمخنثة ؟لا... لا... الإحساس بشع ! لا الأدلة لا تشير إلى أي راية نصر. لا... لا... لن أعود.
*****
ارتميت في أحضان ورشتي؛ أعمل بها معظم ساعات اليوم. ألفت رائحة الماكينات والأقمشة، حتى صارت عندي كروائح الزهور التي لا يسأم منها فرد أبداً، صار المقص- الذي أمسكه طوال الوقت ـ كإصبع سادس في يدي، أحببته بشكل غريب، لا أتركه وأنا بالورشة إلا إذا استوقفتني معلومة بالتلفاز؛ أسرع إلى دفتري وقلمي وأدونها على الفور.
مضت أيام على هذا الحال حتى تصدى لها يوم عنيف، ذهبت فيه لأشتري بعض متطلبات الورشة، في الطريق إلى مونتريال انحرفت سيارة فجأة عن مسارها لتطيح بسيارتي. تفتت النهار أمام عيني حتى تلاشى، لم أشعر بنفسي إلا وأنا بالمستشفى، وقد أجريت لي عمليات جراحة بالفخذين والحوض.
جلست إثر هذا الحادث بالبيت نحو عام. كنت مشلولة الحركة بشكل يحزن حتى البكاء. تعلمت الكمبيوتر والنت في هذا العام -وأنا بفراشى -على يد صافى ولـونا، لم يكن لي بعالم الكمبيوتر والنت أي سابق معرفة، برغم وجود جهاز الكمبيوتر منذ أن اشتريت البيت. أول أن نهضت من فراشي ـ معتمدة على كرسي متحرك ـ فاجأني صافى في مساء نفس اليوم بهديته، وكانت ( زقزوق ) وقفصه الجميل.
كنت في هذه الفترة أمضغ الأيام وتمضغني، انتظر النهوض، اشتقت لكل شيء فيه حركة ! ضاع كل مهرب مني، زادت وحوش الوحدة والعجز، شعرت بتلاشي أعصابي ونبت صراخ أخرس ينبت بداخلي ! انتهت حلقات هذا المسلسل الأليم، لم أصدق الانتهاء بالرغم من سيري على الأقدام، بل النزول إلى الورشة، بل قيادة السيارة من جديد بعد أن شفيت هي الأخرى من كسورها وما أصابها من تصدع.
مرت بي أيام وأنا فيها تائهة كتمثال متحرك به بصيص من التفكير، لم أشعر بسلامتي المبتغاة إلا بعد أن حدثني( غسان، ربيع، جوانا) أولاد نورا ونادين عبر النت، فرحوا لسلامتي ! شعرت بأنهم في مأزق مادي؛ نفضت على الفور غبار الأيام الراكدة في بركة العجز عن الماكينات، رحت أطلب من جديد طلبيات، وأدير التلفاز.
(14)
تتقدم القاهرة على (أوتاوا) زمنياً بسبع ساعات، أحيانا نتصل نهاراً، أحيانا أخرى نتصل ليلاً، وأحياناً يقوم النت بتعريف ليلى بنهارها وأحياناً يتم العكس، وفى كلا الحالتين يتصافح الوقتان فيتم الاتصال.
في جميع الأحيان يضيء الصبح في تحيتها الرقيقة.
بالرغم من أنها لم تتخلف عن موعد أبرمته معي، إلا أن انبهاري بالتزامها المتناهي بالحضور في الموعد بالضبط كما تم تحديده ـ صار حروفاً كُتِبَت كلمات، خُطت على صفحة من دفتر الالتزام؛ لتصير شهادة تقدير لها. ما من مرة أدخل إلى "النت" وأقوم بفتح "الماسنجر" إلا أجدها "أون لاين" في الموعد تماماً ( شهادة التقدير لابد أن يتسلمها صاحبها ) كأنها تطلب منى الشهادة؛ ما إن صرت "أون لاين" إلا وجدت دعوة "الفيديو كول" أمامي على الشاشة، لبيت الدعوة على الفور، أشرقت بنور وجهها صامتة كقنديل باهر الضوء ولا يؤذ العين، انبعث مع إشراقها صوت العصفور والتلفاز كحارسين لهذا الوجه النضير (شهادة التقدير لابد أن يتسلمها صاحبها ) قلت:
- من الناس من يضرب الأمثال على الدقة والانضباط في الوقت بساعات سويسرا، ومنهم من يضربها بالنجوم وحسابات الفلك، أخشى أن أضرب لك مثلاً بذلك؛ فأنت نموذج يضرب به الأمثال في الانضباط.
- أشكرك.. أشكرك. أشكرك.
- هي حقيقة ولا شكر على حقيقة.
- إنها شهادة أعتز بها.
- باطنها الحقيقة ومن ظاهرها العرفان بها.
- أشكرك.
أنعصر الخجل من وجهها وهي تخفضه بهدوء لأسفل؛ كأن كلمة ـ أشكرك ـ التي قالتها يد الاستحياء التي عصرت الوجه؛ فكانت تقولها ببطء في هدوء انخفاض الوجه، لما أعادت وجهها إلى عدسة الكاميرا كررت الكلمة؛ فأنخفض الوجه وسال الخجل.
قلت:
- أعتذر؛ انبهاري إنساني التحية، بون جور.
قالت ورأسها منخفض:
- بون جور.
ما حكت عنه في اللقاء السابق شحنني بتساؤلات، تعجبات، اقتراحات، هذا الشحن مثل الذي تتعرض له أنت حين ترى شخصاً مساقاً إلى الإعدام، بعد أن اطلعت على دوافعه للجريمة وخطواته لها.
فقلت وأنا مندفع بتأثير هذا الشحن:
- كنتِ في اللقاء السابق تتحدثين بشكل جعل من كلامك قيداً لكلامي؛ فلم أقاطعك، تحدثت عن الورشة الجديدة، العنوسة، الوحدة، الغربة، الحادث الأليم، هل لي أن أتساءل ؟
- بكل تأكيد تفضل.
- لماذا لم تتزوجى ؟
- أخوتي ومستقبلهم !
- صاروا رجالاً.
- نعـم.
- فلماذا إذاً لم تتزوجى بعد زواجهم ؟
- الزواج يحتاج طاقة.
08-أيار-2021
22-أيلول-2009 | |
03-شباط-2009 | |
25-كانون الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |